Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد ۲٤ حزيران ۲٠١٨

العدد ۲٥

الأحد (٤) بعد العنصرة

اللّحن ٣- الإيوثينا ٤

كلمة الرّاعي

يوحنّا المعمدان

"هوّذا أليصابات نسيبتكِ

هي أيضًا حُبلى بابنٍ في شيخوختها،

وهذا هو الشّهر السّادس لتلك المدعوّة عاقرًا"

(لوقا 1: 36)   

كلُّ شخصٍ معروف لدى اللّه حتّى مِنْ قَبْلِ تكوينه (أنظر إرميا 1: 5)، والرّبّ يختار له دورًا في مشروعه مع الخليقة. لدى الإنسان الحريّة أن يتجاوب مع اللّه أو أن يرفض. لكلّ إنسان خصوصيّة في عَيْنِ اللّه، والرّبّ يُقيم مع كلٍّ منّا علاقة شخصيّة لِيَقودَنا إلى كمالِ حياتنا ونجازها عبر وصاياه الّتي في الكتب المُقدّسة وعبر مشيئته الخاصّة والمميَّزة لكلٍّ مِنّا. كلّ إنسانٍ مُمَيَّز في عينِ اللّه، وكلّ علاقة بين اللّه والإنسان هي فريدة من نوعِها لأنّ اللّه يقيمُ مع كلّ شخصٍ بشريٍّ رباطًا خاصًّا لأنّه يحترم كلّ كائنٍ بشريّ في خصوصيّته.

 *        *       * 

"ها أنا أُرسِلُ أمام وَجهِكَ مَلاكي، الّذي يُهيّئُ طريقَكَ قُدّامَكَ. صوتُ صارِخٍ في البَرِّيَة: أَعِدُّوا طريقَ الرّبّ، اصنَعوا سُبُلَهُ مُستقيمة" (مرقس 1: 3 و4).

هذه هي رسالة يوحنَّا المعمدان في فكرِ اللّه منذ إنشاء العالم. طاعة زخريّا وأليصابات للرَّبّ جعلَتْ يوحنّا أن يكون أقرَب إلى فَهمِ مَشيئة اللّه فيه، وتربيتهما وتسليمهما إيّاه إلى الرَّبّ منذ الحبَل به في الحَشا، لا بَلْ منذ الوعد بالحَبَلِ به، جعله مطواعًا للكلمة الإلهيّة والاختيار الخاص الّذي رآه اللّه، بكلّيَّةِ معرفته، له.

ليست مشيئة الإنسان رهنٌ به وحدَهُ، إنّها نتيجة تفاعلات سرّيَّة (Mystical) غير مُدرَكَة للعقل الواعي، وتفاعلات عقليّة ملموسَة ومفهومة من الذّهن البشريّ.

يوحنّا لمسَ كيانيًّا حقيقتَهُ في فكر اللّه وهو في حشا أُمِّه، عندما التقى بِرَبِّه في زيارة مريم لأَليصابات. الرّوح الّذي كشفَ له مُثوله أمام الإله الجالس في عرش أحشاء مريم هو نفسه كشفَه له في نهر الأردنّ. روح الرّبّ لا ينقطع متى وجدَ مطرحًا له في قلب الإنسان، ويوحنَّا صارَ مسكنًا لِرُوح الرّبّ إذ كَرَّسه المسيح الجنين وهو في بطنِ أمِّه صوتًا له في هذا العالم.

*       *       *

يوحنَّا استنار بِنور المعرفة الإلهيَّة منذ الحشا، ونقلَ هذه المعرفة النُّورانيّة إلى العالم إتمامًا لِرسالته الّتي اخْتيرَ لأجلها لمّا شهد قائلًا: "هذا هو  حَمَلُ اللّه الّذي يَرفع خَطيئة العالم! (...) هذا هو ابنُ اللّه" (يوحنَّا 1: 29 و34).

كُشِفَ يسوعُ لِيوحنَّا، مَسيحًا للرَّبّ، مُخلِّصًا للعالم بذبيحة الصّليب وابنًا للّه من صُلْبِ اللّه، إلهًا مِن إله. عَرَف يوحنَّا ما لم يعرفه التّلاميذ إلّا في العنصرة. هذا كُشِفَ له، وهو أمر لا يمكن قَبوله إلّا بنعمة الرّوح القدس.

روح الرّبّ مَنَحَ يوحنَّا التّشبُّه بالمسيح، لأنّه كان "صوت الكلمة ومصباح الرّوح"، هو الآنية المتقبِّلة للرّبّ والنّاقلة إيّاه بالرّوح القدس. الرّوح القدس أسكَنَ يسوع المسيح كلمةً في أحشاء يوحنّا، وهو وَلَدَ منه الكلمة منطوقةً من أحشاء محبّته للإله المُتجسِّد، فَصارَ يوحنَّا الصّوت للكلمة والمصباح الّذي يحمل نور الإله في الكلمة بالرّوح القدس.

*       *       *

يوحنّا المعمدان هو "أعظم مواليد النّساء" (متّى 11: 11) لأنَّه أطاع دعوة اللّه له طاعةً تامَّة بِروح النِّعمة الّذي سكنَ فيه، لأنّ الملاك تَنبَّأ لأبيه زَخَريّا بأنّه "يمتَلىء من الرّوح القدس وهو في بَطْنِ أمّه، ويَرُدُّ كثيرين من بَني إسرائيل إلى الرّبّ إلههم، ويسير أمامه بِرُوحِ إيليّا وقوّته (...) ويَهدي العُصاة إلى حكمة الأبرار ويُهيِّئ للرّبّ شَعبًا مُتأهِّبًا" (لوقا 1: 14- 18).

يوحنَّا من سِبْط كهنوتيّ، لكنّه لم يَكْهَن في الهيكل بل في البرِّيَّة ولَم يخضع لِرَئيس كهنة سوى المسيح. فيه اختُتِمَ العهدُ القديم مع المسيح لينطَلق عهدٌ جديدٌ بيسوع "حَمَلِ اللّه". يوحنَّا لم يَجلُب لِنَفسه أحدًا بل جَمَعَ التّلاميذ للرّبّ يسوع وأسْلَمَهُم إليه. كان عارِفًا أنّ دوره هو التَّحضير لمَجيء يسوع وأنّه عليه أن يختفي لأنّه عندما يحضر العريس فَلا دَور لِصَديقه.

*       *       *

أيّها الأحبّاء، يوحنّا المعمدان نموذج لنا في محبّة اللّه فوق كلّ شيء وفي التّخلّي عن كلّ مَجدٍ وجَاه ومُلْكٍ في هذا العالم. هو قدوة لنا في اتّباع المسيح ومُعلِّم في التّوبة وشاهِد حَقّ "للطّريق الضَّيِّق المُؤدّي إلى الحياة". هو رمز التّواضع والاختفاء لِيَظهرَ يسوع للعالم. هو مُعَلّم الرُّهبان في العفّة والحَزم والحُنوّ. هو مُرشدُنا إلى يسوع. فَلْنَتعَلّم منه لِكَيْمَا نَصيرَ للمَسيح في كلّ شيء ويَصير المسيح كلّ شيء لنا من الآن وإلى دهر الدّاهرين.

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللّحن الثّالث)

 لتفرحِ السّماويّات، ولتبتهج الأرضيّات، لأنّ الربَّ صنعَ عِزًّا بساعدِه، ووطِئَ الموتَ بالموتِ، وصارَ بكرَ الأموات، وأَنقدنا من جوفِ الجحيم، ومنح العالمَ الرحمةَ العُظمى.

طروباريّة مولد النّبيّ الكريم  يوحنّا المعمدان (باللّحن الرّابع)

أيها النبي السابق لحضور المسيح، إننا لا نستطيع نحن المكرِّمين اياك بشوقٍ، أن نمدحك بحسب الواجب، لأنْ بمولدك الشريف الموقّر، انحلّ عُقْر أمّك، ورباط لسان ابيك، وكُرز للعالم بتجسُّد ابن الله.

القنداق (باللّحن الثّاني)

يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرّدودةِ، لا تُعرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطلْبَةِ، يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائماً بمكرَّميك.

الرّسالة  (رو 13: 11-14، 14: 1-4)

يفرحُ الصِدّيق بالرّبّ       

إستمع يا ألله لصوتي

يا إخوةُ، إنَّ خلاصَنا الآنَ أقربُ ممَّا كانَ حينَ آمنَّا. قد تَناهى الليلُ واقترَبَ النهارُ، فَلندَعْ عنَّا أعمالَ الظُلمةِ ونلبَسَ أسلِحَةَ النور. لنسلُكَنَّ سُلوكاً لائِقًا كما في النّهار لا بالقُصوفِ والسّكرِ ولا بالمَضَاجِع والعهَر ولا بالخِصَامِ والحَسد، بل البَسُوا الرّبَّ يسوعَ المسيح ولا تهتُّموا بأجسادِكم لقَضاءِ شَهَواتِها. مَن كانَ ضَعيفًا في الإيمان فاتّخِذوهُ بغير مبَاحَثةٍ في الآراء. مِنَ الناس مَن يعتَقدُ أنَّ لهُ أن يأكُلَ كُلَّ شيء. أمَّا الضَّعيفُ فيأكُل بُقولًا. فلا يزدَرِ الّذي يأكُلُ من لا يأكُل ولا يدِنِ الذي لا يأكُلُ من يأكلُ فإنَّ اللّه قَدِ اتّخَدهُ. من أنتَ يا من تَديِنُ عَبدًا أجنَبِيًّا. إنَّهُ لمِولاهُ يثبُتُ أو يَسقُطُ. لَكِنَّهُ سيُثبَّتُ لأنَّ اللّه قادِرٌ على أن يُثبِّتَهُ.

الإنجيل  (لو 1: 1-25، 57-68،  76– 80)

إذ كان كثيرون قد أخذوا في تأليف قِصص الأمور المتيَقَّنةِ عندنا، كما سلَّمها إلينا الذين كانوا معاينين منذ البدءِ وخُدَّاماً لها، رأيتُ أنا أيضًا، وقد تتبَّعتُ جميع الأشياء من الأولِ بتدقيقٍ، أنْ أكتبَها لكَ على الترتيب أيُّها العزيزُ ثاوفيلُس، لِتعرَفَ صحَّةَ الكلام الذي وُعظِتَ بهِ. كان في أيام هيرودسَ ملكِ اليهوديَّة كاهنٌ اسمُهُ زخريا من فرقة أبِيَّا وامرأتُهُ من بنات هرونَ اسمُها أليصابات، وكانا كلاهما بارَّينِ أمام الله سائرينِ في جميع وصايا الربّ وأحكامِه بغير لومٍ، ولم يكن لهما ولدٌ لأنَّ أليصابات كانت عاقراً، وكانا كلاهما قد تقدَّما في أيَّامهما. وبينما كان يَكَهنُ في نَوْبةِ فرقتهِ أمام الله أصابتهُ القُرْعَةُ على عادة الكهنوت أنْ يدخُلَ هيكلَ الربّ ويبخّر، وكان كلُّ جمهور الشعب يصلّي خارجاً في وقت التبخير، فتراءَى لهُ ملاكُ الربّ واقفاً عن يمين مذبح البخور فاضطّرب زخريا حين رآهُ ووقع عليهِ خوفٌ، فقال لهُ الملاكُ لا تَخفْ يا زخريا، فإنَّ طلبَتَكَ قد استُجيبتْ، وامرأتُك اليصابات ستلدُ لك أبنًا فتسميّهِ يوحنَّا، ويكونُ لك فرحٌ وابتهاجٌ ويفرحُ كثيرون بمولدهِ، لأنَّهُ يكون عظيماً أمام الربّ ولا يشربُ خمراً ولا مُسْكِراً، ويمتلئُ من الروح القدس وهو في بطنِ أُمّهِ بعدُ، ويردُّ كثيرين من بني اسرائيلَ إلى الرب إلهم، وهو يتقدَّمُ أمامهُ بروحِ ايليَّا وقوَّتِه ليُردَّ قلوبَ الآباءِ إلى الأبناءِ والعُصاةَ إلى حكمةِ الأبرار ويهيِّئُ للربّ شعباً مستعداً. فقال زخريا للملاك بِمَ أعلم هذا. فإنّي أنا شيخٌ وامرأتي قد تقدَّمت في أيامها. فأجاب الملاك وقال أنا جبرائيل الواقفُ أمام الله وقد أُرسِلتُ لأُكلّمَك وأبشَرك بهذا، وها إنَّك تكون صامتًا فلا تستطيعُ أنْ تتكلَّم إلى يومَ يكون هذا، لأنَّك لم تُصَدِقْ كلامي الذي سيتمُّ في أوانِه. وكان الشعب منتظرين زخريا متعجبين من إبطائهِ في الهيكل. فلمَّا خرج لم يستطِعْ أنْ يُكلِمَهم فعَلِموا أنَّهُ قد رأى رؤيا في الهيكل. وكان يُشير إليهم وبقي أبكم، ولمَّا تمَّتْ أيَّامُ خِدْمَتِه مضى إلى بيتهِ. ومن بعدِ تلك الأيام حبلت اليصابات امرأتُهُ فاختبأت خمسةَ أشهر قائلةً هكذا صنعَ بي الربُّ في الأيام التي نظر اليَّ فيها ليصْرِفَ عنّي العارَ بين الناس. ولمَّا تمَّ زمانُ وَضْعِها ولدت ابناً فسمع جيرانها وأقارِبُها أنَّ الربَّ قد عظَّم رحمتَهُ لها ففرحوا معها وفي اليومِ الثامِنِ جاءُوا ليختُنوا الصبيَّ فدَعَوهُ باسم أبيهِ زخريا، فأجابت أمُّهُ قائلةً كلاَّ لكِنَّه يُدعى يوحنَّا. فقالوا لها ليس أحدٌ في عشيرتِك يُدعَى بهذا الاسم. ثمَّ أومأُوا إلى أبيه ماذا يريدُ أن يُسمَّى، فطلب لوحًا وكتب فيهِ قائلاً اسمُهُ يوحنَّا. فتعجبَّوا كلُّهم، وفي الحال انفتحَ فمهُ ولسانُهُ وتكلَّم مبارِكاً الله. فوقع خوفٌ على جميعِ جيرانِهم وتُحُدِّثَ بهذه الأمور كلِّها في جميع جبال اليهودية، وكان كلُّ مَن يسمعُ بذلك يحفظُهُ في قلبِه ويقولُ ما عسى أنْ يكون هذا الصبيُّ. وكانت يدُ الربّ معهُ، فامتلأ أبوهُ زخريا من الروح القدس وتنبأ قائلاً: مبارَكٌ الربُّ إلهُ إسرائيلَ لأنَّهُ افتقدَ وصنع فِداءً لشعبهِ وأنت أيُّها الصبيُّ نبيَّ العليّ تُدعى لأنَّك تسبِقُ أمام وجه الربّ لتُعِدَّ طُرقهُ. أمَّا الصبيُّ فكان ينمو ويتقوَّى بالروح. وكان في البراري إلى يومِ ظهورهِ لإسرائيل.

حول  الرّسالة

إنّ غاية وجودنا على الأرض هي الحصول على ملكوت السّموات، لم يُعط اللّه العقل للإنسان لينشغل في أمورٍ حياتيّة بسيطة تافهة، بل لينشغل بالأهمّ، بكيفيّة الوصول إلى الهدف، إلى الفردوس، حيث يكون قريبًا من اللّه.

إنطلاقًا من هذه الغاية يذكّر بولس الرّسول المؤمنين ويحثّهم على اليَقظة الرّوحيّة، أن نضع موضوع خلاص نفوسنا على محمل الجدّ، ألاّ نبقى مربوطين بالأرضيّات بل ننشغل بخلاص نفوسنا.

الإنسان مُكوَّن من جسدٍ وروحٍ، إنّنا نشبع الجسد ونؤمّن له كل ما يلزم للاستمرار بالحياة، وما نظنّ أنّه ينفع الجسد، ولكن هل نهتمّ بالرّوح؟ هل نذوق الرّبّ لنشعر بمحبّة الرّبّ، هل نثبت بالرّبّ يسوع، هل نتمّم وصيّة الرّبّ الأساسيّة الّتي هي المحبّة؟ هل نُطيع وصايا الرّبّ، أم نُطيع ذواتنا؟ هل نفعل مشيئة الرّبّ يسوع، أم ما يوافق الجسد؟ هل نَدين أنفسَنا ونشاهد أخطاءَنا ونجاهد للتّحرّر منها، أم نَدين الآخرين، هل ننظر بعين اللّه ونبرّر أخطاءَهم أم لا نرحمهم؟ هل نتبع وصيّة القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم الّذي يقول إنّ ”معرفة الإنسان بخطيئته ضروريّة ليسهُل عليه مسامحة سواه لأنّه بنظره إلى خطيئته الخاصّة يُسامح القريب إن سقط“، أم إنّنا قساة قلوب؟؟ هل نجدّد ختم وموهبة الرّوح القدس الّذي حصلنا عليه في المعموديّة؟ هل نذرف الدّموع ونتوب عن خطايانا؟ هل نهيّئ قلوبنا لتكون مسكن للآب والإبن والرّوح القدس؟ هل نصلّي لكي نتكلّم مع اللّه؟ هل نقرأ الكتاب المقدّس لكي نسمع صوت الرّبّ يسوع؟

أيّها الأحبّاء، "لا يطلبنّ الواحد من اللّه لا أنوارًا ولا مواهب ولا شيئًا آخر سوى التّوبة فقط؛ توبة وبعدها توبة" (القدّيس بايسيوس الآثوسيّ) "اِسْهَرُوا إِذًا لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ فِي أَيَّةِ سَاعَةٍ يَأْتِي رَبُّكُمْ." متى 24-42 .

جاهدوا الجهاد الحَسَن في هذه الدّنيا، إذ منها نأخذ دينونة على كلّ أيّام حياتنا، فكّروا في اللّحظة الأخيرة من حياتنا، هل نحن مستعدّون لمواجهة هذه اللّحظة؟

وقتيّة وعابرة هي حياتنا كما يصفها الكتاب المقدّس:   "الإنسان كالعشب أيّامه وكزهر الحقل كذلك يُزهر. إذا هبّت عليه الرّيح يتلاشى ولا يعرف موضعه من بعد" (مز 103 – 16)، فلنحفظ فكرنا في هذه اللّحظة الأخيرة من حياتنا حيث يحكم علينا إمّا الى عذاب لا ينتهي، أو إلى فردوس أبديّ، حيث تستمرّ حالتنا عليه بعد ذلك الحكم إلى الأبد، آمين (أقوال روحيّة).

الشّيخ يوسُف الفاتوبيذي

يُخبرنا الآباء أنّ الإحساس بالخطيئة هو عَطيّة عَظيمة مِنَ اللّه، تتفوّق على مُعايَنة الرّؤى السّامية. عندما ندرك أن ظُلمتنا الدّاخليّة، والطّبيعة الجُهَنّميّة المقرِفة للخطيّة قد انكشفت، هذا يؤدّي إلى النّفور منها ومِنْ ثمّ تجلب النّعمة الإلهيّة راحتها.

الكثير من النّاس يطارِدون اليوم الفرح والسّعادة، ويَسلكون في الطُّرُق غير النّظيفة، ويتصدّعون من تصرّفات الشّياطين. ولكن إذا كان "اللّه الرّبّ يتكلّم" في قلوبِنا، فَيَنبَغي أن نكون هادئين. يجب أن نلتَفِت إلى قلوبنا، وأن نتعلّم أن نُصلّي صلاة يسوع، وأن نُطَهِّر قَلبنا بالإنطواء على الذّات، فَمِن ثمّ من دون أن نطلب ذلك ومن دون أن نَسعى إليه سنكون "مدينة مَبنيّة على جبل".

على الرّغم من أنّ اللّه كان يَعلم عن عِصيان آدم وحوّاء في الجنّة، إلّا أنّه لم يَمنع ذلك. لو فَعل ذلك، لكان قد تَدَخَّل بِحُرّيتنا الّتي مَنَحَنا إيّاها بِنَفسِه وقَضى عليها. مِن دون الحرّيّة، فإنّ الطّريقة الّتي نَعيش بِها حياتنا، وحتّى خلاصنا، سوف يكونان مَفروضَين. سنكون بِلا شَخصيّة وموجودين ككائنات سلبيّة. فَضَّل اللّه تَغيير خِطَطه لنا بدلًا من حرماننا مِنَ السِّمَة الرَّئيسيّة لشَخصيّتنا أي حُرّيتنا.

السّقوط إذًا هو مُقاطعة ومُغادرة أيّ كائن مخلوق للسّبب الأوّل لِوُجوده أي اللّه. وبِحَسَبِ الوَحي الإلهيّ، فإنّ الأشياء كلّها هي نتيجة لسبب ما، ولا يُمكن أن تكون قائمة بِذاتها بل فقط من خلال "المُشاركة" في قوّة اللّه وعِنايته. إذًا إن كانوا مَعزولين عن قوّة اللّه وقُدرته المُتماسِكة فإنّهم يَنهارون ويُحتَضَرون.

الّذين يَتبعون مَسار وَصايا المسيح يُولَدون مِنْ جَديد روحِيًّا ويَتَجلّون. ليس الأمر نفسه بالنّسبة للجميع وعلى القدر نفسه، بل يعتمد على غيرتهم. إنّهم يُصلَبون مع يسوع المسيح، وتَجعَلهم النّعمة الإلهيّة على شبه مَن يُحبّون. هنا يَكمُن لاهوت الصّليب، الّذي يُرَنّم له القدّيس بولس على أنّه نور المحبّة الإلهيّة.

القلب المُتواضع، الّذي جُرِح أوّلًا بِسِهام العَدوّ ومن ثمّ، بعد التّوبة، بمحبّة المخلّص الأبويّة، لا يملك طريقة للتّعبير عن نفسه غير الدّموع. مِنَ السّذاجة أن تعتقد أنّ بإمكانك اتّباع خطوات المسيح من دون دموع.

عندما نتحدّث إلى النّاس اليوم على النّوح يَبدو الأمر غريبًا عليهم، لأنّهم يخجلون من البُكاء. إذا كنّا نتحدّث على العَبَث وعلى الأشياء العابِرَة فبالطّبع إنّها لا تستحق البكاء. هذا النّوح هو من نوع العُرف الإجتماعيّ. يرتبط النّوح الرّوحيّ بِعَلاقتنا مع اللّه، وهو نتيجة نعمة الرّوح القدس أكثر ممّا هو اختيارنا. إنّ الإحساس بالمسؤوليّة عن أفعالنا الشّرّيرة هو هذا الثِّقل في قلوبنا الّذي يؤدّي إلى حالة من النّدم الأعمَق.

إنّ كَسْرَ الوَصيّة جَلَبَ السّقوط الّذي هو انفصالنا عن اللّه وعن كلّ ما يتعلّق به. قَبِل اللّه توبتنا وعَودتنا وخضوعنا له بعدما أصْلَحَ علاقتنا بمَحبّته وقَداسَتِه. بحسب الآباء، إنّ الشّكل الأكثر قَبولًا للتّوبة هو الدّموع السّاخنة الّتي تصل بذاتها من آلام القلب، الّذي يشعر بذنبه الكَريه وخِيانَته لمحبّة اللّه الأبويّة.

كُلمّا ازداد عُمق شعورنا بأنّ خَطيئتَنا هي جرح مُميت، كُلّما اقتربنا من السّجود للّه في صلاة التّوبة. هذه الصّلاة تُطلِقُنا أحيانًا مِن رَوابِط المكان والزّمان، حتّى نَشعر بأنَّنا مُختلفون تَمامًا.

(مُختارات آبائيّة- عن مَوْقِع www.orthodoxlegacy.org)

انقر هنا لتحميل الملف