Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 21 حزيران 2020

العدد 25

الأحد (2) بعد العنصرة

اللّحن 1- الإيوثينا 2

أعياد الأسبوع: *21: الشّهيد يوليانوس الطّرسوسيّ *22: الشَّهيد آفسابيوس أسقف سميساط، البارّ إيسيخيوس رئيس دير العلّيقة في سيناء *23: الشَّهيدة أغريبيني ورفقتها * 24: تذكار مولد يوحنَّا المعمدان، تذكار القدّيسَيْن زخريَّا وأليصابات والدَي السّابق *25: الشّهيدة فبرونيَّة، الشُّهداء أورنديوس وإخوته السِّتَّة *26: البارّ داوود التِّسالونيكيّ *27: البارّ شمشون مضيف الغرباء، يونَّا امرأة خوزي.

كلمة الرّاعي

مولد يوحنّا المعمدان

ثلاثة نعيّد لميلادهم في الكنيسة هم: الرَّبّ يسوع المسيح ومريم والدة الإله ويوحنّا المعمدان. هذا، إن دلَّ على شيء، فهو يدلّ على أهمية خاصَّة لوالدة الإله والمعمدان بما يتعلَّق بسرّ الرَّبّ يسوع المسيح.

والداه من سبط لاوي من عائلتَين كهنوتيّتَين. كان مقدَّرًا له أن يكون كاهنًا لله العليّ، لكنّه عوضًا من انطلاقه لخدمة الرَّبّ ككاهن جعله الله نبيَّ الأزمنة له، إذ كان خاتمة أنبياء العهد القديم والذي مهَّد الطّريق أمام الرَّبّ يسوع المسيح المخلِّص المُنتَظَر.

*          *          *

بدأ يوحنّا دعوته العلنيّة في سنّ الثّلاثين وهو السّنّ الرّمزيّ لكمال البلوغ، كما أنّه السّنّ التّقليديّ لبداية بشارة الرَّبّ يسوع المسيح ومن المعروف وجود التّزامن في دعوتي يسوع ويوحنّا، كون يوحنّا يكبُر الرَّبّ يسوع بستّة أشهر بحسب إنجيل لوقا، إلى جانب أن العهد القديم ينصّ أن أبناء اللّاويّين تبدأ خدمتهم الكهنوتيّة في سنّ الثّلاثين.

يوحنّا أتى نبيًّا محقِّقًا وعد الرَّبّ في الأنبياء لكي ”يَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ، وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ“ (ملاخي 4: 6) ويدعو المنتظرين خلاص إله إبراهيم واسحق ويعقوب قائلًا: ”عَزُّوا، عَزُّوا شَعْبِي، يَقُولُ إِلهُكُمْ. (...) أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلًا لإِلَهِنَا. كُلُّ وَطَاءٍ يَرْتَفِعُ، وَكُلُّ جَبَل وَأَكَمَةٍ يَنْخَفِضُ، وَيَصِيرُ الْمُعْوَجُّ مُسْتَقِيمًا، وَالْعَرَاقِيبُ سَهْلًا. فَيُعْلَنُ مَجْدُ الرَّبّ وَيَرَاهُ كُلُّ بَشَرٍ جَمِيعًا، لأَنَّ فَمَ الرَّبّ تَكَلَّمَ“ (إشعياء 40: 1—5).

*          *          *

يوحنّا هو الشَّاهِد الأمين للرَّبّ يسوع المسيح، الَّذي عرف أن يشير إلى حمل الله وأن يصغر ويختفي ليدلّ على ”المنتَظَر“ و“مشتهى الأمم“. لم يطلب يوحنّا لذاته شيئًا سوى الشّهادة للكلمة الإله حتّى الموت مقطوع الرّأس، لأنّ حامِل كلمة الحقّ يقطع باستقامة مواقفه وتكون أعماله أيقونة شفّافة للحقيقة الّتي يشهد لها...

يوحنّا نموذج لآباء الكنيسة ومثال في التّواضع والتّمسُّك بالحقّ حتّى بذل الدّم. هو عرف كيف يختفي في حضور العريس والحمل، وتمسَّك بالأمانة لمن أرسله إذ أسلم إليه كلّ حياته ووجوده بالاستشهاد لأجل الشّهادة لحقّ الآب، واحتجب عن أعيُن تلاميذه ليروه في المعلّم الّذي تبعوه، لأنّه صار صوت الكلمة المسموع أبدًا في تمتمات روح الإله في هذا العالم وفي الدّهر الآتي...

عظمة يوحنّا تأتي من شهادة الرَّبّ يسوع له إذ قال عنه: ”لم يقم بين المولودين من النّساء أعظم من يوحنّا المعمدان“ (متّى 11: 11). لماذا؟ لأنّه حمل الكلمة الإله كما يحوي المصباح النّور. يوحنّا كان حاملًا للإله بالرّوح الّذي جعله يرتكض في بطن أمّه إليصابات حين التقاه جنينًا في بطن مريم البتول... لقد ظهر ليختفي واختفى ليظهر إلى الأبد في جوار الرَّبّ يسوع المسيح مع والدة الإله...

*          *          *

أيّها الأحبّاء، علينا أن نكون يوحناويّين أي أن نتعلّم الاحتجاب ليظهر الرَّبّ، أن نختفي نحن ليتبع المؤمنون المعلّم، أن نشهد حتّى بذل الدّم (أي حياتنا كلّها) لكي نربح شهادة المصلوب عنّا لنا أمام أبيه والملائكة القدّيسين كما شهد ليوحنّا.

نتعلّم من يوحنّا المعمدان أنّ من اختاره الرَّبّ يصير إناء النّعمة الإلهيّة وحافظًا لأسرار الكلمة الإله وكاشفًا لها شهادة للّذي انتقاه ودعاه ونقّاه بالغسل الإلهيّ في الماء والرّوح وبالكلمة الإلهيّة...

”كان النّاموس والأنبياء إلى يوحنّا. ومن ذلك الوقت يُبَشَّر بملكوت الله وكل واحد يَغتصِبُ نفسه اليه“ (لوقا 16: 16). يوحنّا كان رجلًا في الرّوح والحقّ بكلّ ما للكلمة من معنى، وهو كشف لنا طريق الجهاد الرّوحيّ بالتّقشّف والنّسك والصّرامة والحزم في طاعة الله حبًّا بالمخلِّص، فهل نحن مستعدّون أن نتخلّى عن حبّ العالم وما فيه لأجل حبّ الّذي أحبّنا حتّى بذل نفسه عنّا وأعطانا روح قيامته وقدرته؟!...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن الأوّل)

إنَّ الحجرَ لما خُتِمَ مِنَ اليَهود. وجَسَدَكَ الطّاهِرَ حُفِظَ مِنَ الجُند. قُمتَ في اليومِ الثّالثِ أَيُّها المُخلِّص. مانحًا العالمَ الحياة. لذلكَ قوّاتُ السّماوات. هتفوا إليكَ يا واهبَ الحياة. المجدُ لقيامتِكَ أَيُّها المسيح. المجدُ لِمُلكِكَ. المجدُ لتدبيرِكَ يا مُحبَّ البشرِ وحدك.

القنداق  (باللَّحن الثّاني)

يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرْدودةِ، لا تُعْرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصّارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطّلْبَةِ يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.

الرّسالة   (رو 2: 10– 16)

لتكُن يا ربُّ رحمتُكَ علينا

ابتهِجوا أيُّها الصِّدّيقون بالرَّبّ

يا إخوة، المجدُ والكرامَةُ والسّلامُ لكلِّ مَن يفعَلُ الخيرَ من اليهودِ أوّلًا ثمَّ من اليونانيّين، لأنْ ليسَ عندَ اللهِ محاباةٌ للوجوه. فكلُّ الّذين أخطأُوا بدونِ النّاموسِ فبدون النّاموس يهلِكُون، وكلُّ الّذين أخطأُوا في النّاموسِ فبالنّاموسِ يُدانون، لأنَّهُ ليسَ السّامِعونَ للنّاموسِ هم أبرارًا عندَ اللهِ بل العامِلونَ بالنّاموسِ هم يُبرَّرون. فإنَّ الأممَ الّذينَ ليسَ عندهُمُ النّاموس، إذا عملوا بالطّبيعة بما هو في النّاموس، فهؤلاء، وإن لم يكن عندهم النّاموس، هم ناموسٌ لأنفسهم، الّذين يُظهِرونَ عمل النّاموس مكتوبًا في قلوبهم وضميرُهم شاهدٌ وأفكارُهم تشكو أو تحتَجُّ فيما بينها، يومَ يَدينُ الله سرائرَ النّاسِ بحسَبِ إنجيلي بيسوعَ المسيح.

الإنجيل  )مت 4:   18– 23) )مت 2)

في ذلك الزّمان، فيما كان يسوع ماشِيًا على شاطئ بحرِ الجليل رأى أخَوَين وهما سمعانُ المدعوُّ بطرسُ وأندَراوسُ أخوهُ يُلقيانِ شبكةً في البحر (لأنَّهما كانا صيَّادَين). فقال لهما: هلمَّ ورائي فأجعلَكما صيَّادَي النّاس، فللوقتِ تركا الشِّباكَ وتبعاهُ. وجاز من هناك فرأى أخَوَينِ آخرَينِ وهما يعقوبُ بنُ زبَدَى ويوحنّا أخوهُ في سفينةٍ معَ أبيهما زبَدَى يُصلِحانِ شباكَهما، فدعاهما، وللوقتِ تركا السّفينَةَ وأباهُما وتبعاه. وكانَ يسوع يطوف الجليلَ كلَّه، يعلّم في مجامعهم، ويكرزُ ببشارةِ الملكوت، ويَشفي كلَّ مرضٍ وكلَّ ضُعفٍ في الشّعب.

حول  الإنجيل

يظنّ المرء في قراءته لإنجيل اليوم أنّ الرَّبّ يسوع بمجرّد قوله "هَلُمَّ وَرَائِي"، تبعه الرُّسل، وكأنّه إمّا سَحَرَهُم، أم أنهم كانوا قليلي الفهم إذ تبعوه من دون سؤال أو استجواب، وهناك أمثلة كثيرة من الكتاب المقدَّس ومن خارجه تشبه ما جرى في إنجيل اليوم، نذكر منها: ظهور الرَّبّ يسوع لبولس الرّسول الّذي كان يضطهد الكنيسة والّذي ترك كلّ شيء وتبع الرَّبّ؛ والقدّيس أنطونيوس كوكب البرّيّة الّذي سمع الآية الكتابيّة فترك كلّ شيء وذهب إلى البراري وغيرهم الكثير. من المؤكَّد أنّ الأمور ليست بهذه السّطحيّة كما يُستبان للقارئ، لأنّ هؤلاء ساروا وراء الرَّبّ يسوع عند سماعهم استدعاءه لهم، لأنّهم  كانوا على استعداد لاستقباله، بمعنى آخر لم يكن ينقصهم شيء بعد إلّا المسيح. هم جاهدوا على قدر طاقاتهم وإمكانيّاتهم، لذلك عندما رأى الرَّبّ يسوع استعدادهم أتى إليهم ودعاهم إلى الكمال، مثل الشّمعة الّتي لديها كلّ المكوّنات لكي تشتعل، لكنّها لا تشتعل من تِلقاء ذاتها، بل تحتاج إلى من يُشعلها من الخارج، وباشتعالها تحرق ما تبقّى من المواد الشّائبة القليلة الموجودة فيها، هكذا تأتي النّعمة من الخارج وتشعل داخلنا، وتحرق ما تبقّى من رواسب الخطيئة.

إذًا الرُّسُل والقدِّيسون لم يتبعوا الرَّبّ يسوع لأنّه قال لهم ”اتبعوني“، فقط، أي أنّهم لم يتبعوه لأنهم سمعوا كلامه فقط، بل لأنهم ابصروا أفعال كلماته وتحقيقها، إذ "ليس كلّ من يقول لي ربّ ربّ يدخل ملكوت السّماوات" (متى 7:  21 أ)، أي لا يدخل الملكوت الّذين يسمعون عن الله ويعرفونه بالنّظريّات والكتب، "إنّما الّذي يعملون إرادة أبي الّذي في السّماوات" (متى 7: 21 ب) أي الّذين يجاهدون ضدّ خطيئتهم هؤلاء يأتي إليهم الرَّبّ ويصنع عندهم منزلًا (يو 14: 23).

دعونا يا إخوة نتشبّه بالرُّسل، في إنجيل اليوم، الّذين جاهدوا قدر استطاعتهم لتطبيق وصايا الرَّبّ في حياتهم، بنيّة صافية، وفكرٍ بسيط، لكي يأتي الرَّبّ، عندما يجدنا مستعدّين، ليقول لنا "اتبعني" لأنّ دعوة الرَّبّ هي دعوةٌ شخصيّة، فإن لم نتبعه في هذه الحياة فمن المؤكَّد أنّنا لن نتبعه، ولن نعرفه، في الحياة الثّانية، آمين.

الّلاهوت الحقيقيّ

القدّيس صفروني الآثوسي

النّاس يبتغون "الحقيقة"، والعديد منهم يحبّون المسيح، لكنّهم في الغالب يكدّون ويسعون جهدهم لإنزال الإنجيل إلى مستوى مجرّد عقيدة أخلاقيّة، وهم بالتّالي ينسون تعليم المسيح الّذي بموجبه مَن يحفظ كلّامه يعرف وحده من أين هو: هل هو من إنسان أم من الآب السّماوي (يو 7: 17). فلكي نمتلئ من القوّة المؤلّهة لبشرى "الإنجيل" السّارّة، علينا القيام بمسعى أكبر من الّذي نقوم به لكي نحصل على أية معرفة علميّة أو تطبيقيّة... ليس بقراءة العديد من الكتب، ولا بالتّعرّف إلى تاريخ المسيحيّة ولا بدراسة معمّقة للمدارس اللّاهوتيّة المختلفة ونظريّاتها المتعدّدة، يمكننا الوصول إلى ما نبغيه من الهدف: الخلاص بمعرفة الإله الحقيقيّ وحده ويسوع المسيح الّذي أرسله" (يو 17: 3). إنَّ الخبرة العريقة للّاهوت العلميّ برهنت، بشكلّ مقنع، أنَّه بإمكان الإنسان الحصول على تبحّر، على مستوى اللّاهوت العلميّ، دون اقتناء إيمان حيّ، أي مع جهله لله. ففي حالات كهذه يتحوّل اللّاهوت أو المعرفة اللّاهوتيّة إلى عمليّة ذهنيّة، تشبه علم الحقوق. ويختلف هذا العلم بين بلاد وأخرى، كما يختلف علم اللّاهوت بين المذاهب المسيحيّة المتعدّدة المنقسمة على ذاتها في العالم.

إنَّ معرفتنا هي ثمرة الكشف الإلهيّ المعطى من العلى: "في البدء كان الكلّمة... والكلّمة كان الله" (يو 1: 1). لكن، بالنّسبة للكثيرين الّذين يمثّلون العلم اليوم، "في البدء كانت ذرّة الهيدروجين"، ومنها خرج، بفعل تطوّر دام ملايين السّنين، كلّ ما هو موجود الآن. إنَّ العلم لم يطرح بعد على نفسه السّؤال: "ماذا كان "قبل" ظهور هذا العالم؟ "أو من أين تأتي كلّ هذه الطّاقة الكونيّة الّتي تفوق إمكانات معرفتنا العقليّة؟ ما هو في الحقيقة الزّمان والمكان أيضًا؟!... يبدو لنا من اللّامعقول التّفكير أنَّه بواسطة تركيبات وتحوّلات "صدفيّة" وغير منتظرة، حتّى بالنّسبة للذرّة الأصلية نفسها، انبثق العقل والفكر البشريّ مع كلّ أبحاثه حول "الكائن الأوّل" و"المبدأ الأوّل". ونحن لا يمكننا القبول بالفكرة القائلة إنَّ ذرّة الهيدروجين تكوّن الكائن – في – ذاته، الأوّلي الأساسي. ففي حالات القابلية القصوى، أعلمنا بكائن من نوع خاص ليس له أي سبب أو علّة خارجية وليس له أي بدء ولا أية نهاية. ولا يمكننا، بقدراتنا الخاصة وبشكلّ أكيد، اكتشاف طابع اللجة العميقة الّتي لا قرار لها لهذا "الكائن"؟ أتانا الجواب: "أنا هو الكائن". كان علينا أن لا نسأل ماذا بل "مَن"؟ وهذا الـ "مَن" يُقيم معنا علاقة شكر حيّة نحن نعيها. إن هذا الكائن الشخصي الّذي هو غير المشروط بشيء ولا بأحد، والّذي يحدّد ذاته في كلّ شيء، هو خالقنا وسبب وجودنا في هذا الكون. إنَّ الكشف الإلهي يقول لنا إنًّ هذا "الكائن" هو "كائن" – "شخصاني"، لذلك من الواضح أن الّذي نعرفه "عنه"، أو لنقل بأكثر تدقيق، إنَّ معرفتنا له ليست ممكنة إلاّ بواسطة العلاقة الشخصيّة الّتي "يقيمها" "هو" معنا كأشخاص. ففي أوقات الشكر الوجودية الكيانية الّتي لنا "معه" يعرّفنا "هو" بذاته معتلناً بفعله في داخلنا.

"في البدء كان الكلّمة... والكلّمة كان الله" (يو 1: 1) إنَّه ليس عديم الجدوى التكرار أيضًا وأيضًا أن معرفتنا "للمطلق" الّذي قبل الدهور، والّذي ظهر لنا "كائناً– شخصانياً"، تحوي هي أيضًا طابعاً شخصياً كيانياً غير مجرّد. ولنحاول صياغة هذه الفكرة من منظور آخر. ففي عرف نظرية المعرفة، نفرّق عادة ما بين العارف والمادّة المتعرّف عليها. وبالعكس، فإنَّه في طريقتنا لبلوغ معرفة الله، تختلف عملية التطوّر والسياق الذهني، وإسقاطنا للمعلوم المعروف يمّحى لأنَّ الله معروف دائماً "في علاقة حبّ" وفي حالة الصلاة النقيّة. عندها يدخل شخصنا المخلوق إلى مجال "الكائن الإلهي" غير المخلوق بواسطة "الروح القدس" فنعاين الله "بداخلنا" وكأنَّه حياتنا الخاصّ في هذا يكمن الفرق الأساسي الرئيسي بين المعرفة العلميّة والمعرفة الروحيّة. فالأخيرة مدركة كوجود في الشركة، كالتحام في "ذات الكائن" نفسه: فالمعرفة هي اتحاد في الكيان. إنَّ الصلاة النقيّة هي الطّريق الأكثر وثوقاً وثباتاً لمعرفة الله. إنَّ المصلّي يتخلّى عن كلّ معارفه الخارجيّة وعن كلّ الهواجس والصور الّتي تتملّكه: لينشلح ساجداً "أمام الّذي" هو بدء الكلّ، كي يتلقّى الحياة الّتي تنفجر وتتدفّق "منه". وبدون ألفاظ وكلّمات "لكن بأنّات لا ينطق بها (رو 8: 26) يترجّى الإله أن يخلّصه أي أن يقبل روحه في المنازل الأبديّة. ويتواصل ترجّيه ويتّحد مع أنّات الخليقة منذ آلاف السنين. إنَّ صراخ الإنسان وترجّيه يرتكزان ويتأسّسان مع وفي جماعة المستغيثين في العالم كلّه، الراجين الخلاص. إنَّ كتابة هذه الصلاة ورصدها مستحيل وهي لا تتجسّد في تعابيرنا البشريّة. فالآلام الّتي تولد صلاة كهذه تفوق كلّ تنهد وتأوه وحسرة.

ويبقى عطشنا إلى المعرفة غير مرويّ في محدوديّة وجودنا على هذه الأرض. في البداية يكون معنى صلاتنا مغشّى، ثم يتغيّر، في وقت ما لا يعرفه إلاّ الله، إلى وعي دعوته بفرح: أنَّه الله "بذاته يجتذبنا بقوّته كي نصعد "إليه". ورغم كلّ ثقلنا وآلامنا ومحدوديّة كياننا يأتينا هذا الصعود ليضمّنا ويرفعنا فنحسّه بوفرة فيض وبغزارة مغبوطة مباركة "لحياة" جديدة تنزل علينا. عندما يصبح وعينا بل كلّ روحنا فعل صلاة، يمكن للروح، عندئذ، معاينة روح "الأبدية الإلهية" ونفحتها. ففي خضم تلك الآلام وتلك العذابات الفظيعة للتوبة، يولد الإنسان ليحيا في "الملكوت غير المتزعزع". وبفعل هذا الحدث ونتيجته "يكون فرح قدّام ملائكة الله" في السماوات (لو 15: 10).

إنَّ حفظنا لكرامتنا كمسيحيّين يعني أن نصلّي لكلّ العالم وأن نغمر كلّ الخليقة بروح محبّة المسيح. نحن نصارع لخلاص الكلّ وقيامتهم، ولكلّ إنسان بمفرده، حتى يعرف كلّ البشر "الإله" الحقيقيّ، الآب، أبانا السّماوي في الروح القدس. إنَّه لشيء مهم أن نبتعد عن كلّ ما هو خطيئة، لكن الأهم أن نكون شفوقين على صورة الله المعتمة وأن نكون عطشى لخلاصها.

المرجع: "معاينة الله كما هو". الأرشمندريت صفروني (سخاروف). ترجمة الأم مريم (زكّا). (2003).

انقر هنا لتحميل الملف