Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 19 شباط 2023            

العدد 8

أحد مرفع اللّحم (الدَّينونة) 

اللّحن 3- الإيوثينا 3

أعياد الأسبوع: *19: أحد مرفع اللّحم (الدّينونة)، الرّسول أرخيبّس، البارّة فيلوثاي الأثينائيّة *20: القدّيس لاون أسقف قطاني، الأب بيصاربون *21: البارّ تيموثاوس، أفستاثيوس الأنطاكيّ *22: تذكار وجود عظام الشّهداء في أماكن إفجانيوس *23: القدّيس بوليكربس أسقف أزمير، القدِّيسة غورغوني أخت القدِّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ *24: تذكار ظهور هامة السّابق للمَرّة الأولى والثّانية *25: تذكار جامع للآباء الأبرار، القدّيس طاراسيوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة.

الكلمة الإفتتاحيّة 

الأبوّة الرُّوحيّة 

‎"لأَنَّه وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ، لكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ" (1 كور4: 15). 

كلام الرَّسُول بولس واضحٌ ودقيقٌ لكلِّ مسيحيٍّ يُريد أنْ يحيا حياةً مسيحيَّةً مُستقيمة. بحاجة إلى مُرشدٍ في مسيره نحو المسيح، ولكنَّ الدَّوْر الأوَّل والجوهريّ هو للأب الَّذي يلده في المسيح، أي يلده بالكلمة الإلهيَّة الَّذي يزرعها في قلب هذا الإنسان، ومتى نَمَتْ بعناية الرُّوح القدس وإرشاده، تلده ابنًا للمسيح، من خلال هذا الأب. إذًا لكي نُسمِّيه أبًا عليه أن يلد أولادًا للمسيح.

إذًا لكي تتحَقَّقَ الأبوَّة الرُّوحيّة، على الأب أن يلد أولادًا للمسيح، وليس لنفسه. هذا الولادة لا تتمّ مِنْ كلام الأب وآرائه الشَّخصيَّة، بل مِنْ خلال الكلمة الإلهيَّة الَّتي يزرعها في قلب الإنسان. يساعده على تنقيةُّ قلبه من الأهواء لكي يسمح لهذه الكلمة أن تنمو بنعمة الرُّوح الفاعِل فيه، وإلَّا ماتَتْ واختنقَتْ.

على الابن أيضًا أنْ يتبنّى أباه لكي يحقِّقَ أبوَّتَه، والأب أنْ يتبنّى ابنه لكي يحقِّقَ بنوَّتَه. لهذا هي تحتاج إلى وقتٍ، وتَبَنٍّ مِنَ الطَّرَفَيْن. هذه العلاقة تقوم على رباط المحبَّة والثِّقَة بينهما. هذه الثِّقَة لا تأتي مُباشَرَةً، بل بعد زمنٍ من الاختبار. عندها يتعلَّم الابن أنْ يُسلِّم لنصائح وإرشادات أبيه الرُّوحيّ، ويُدرك في عمق كيانه أنَّ ما يقوله الأب الرُّوحيّ هو صادرٌ مِنَ الرَّبِّ نفسه. لأنّه في العُمق آتٍ ليطلب كلمةً مِنَ الرَّبِّ نفسه، وليس من إنسانٍ.

الأبوّة الرُّوحيّة هي مرافقة للإنسان في كلِّ مراحل حياته، تساعده على فهم نفسه، وكيف يُصارع الأهواء الكامنة فيها، وكيف يتَّخِذ القرارات المناسبة. إنّها سندٌ له متى ضَعُف لكي لا ييأس ويستسلم، بل ينظر دومًا إلى الأمام نحو الملكوت وخلاصه. عليه أن يعرف نفسه وكيف تتحرَّك، لكي يعرف الله حقيقةً، ويفهمه بشكلٍ دقيق. لكي يفهم كيف يُقيم الله معه علاقة محبَّة، وكيف عليه أن يُحبّ هو الله. لهذا مَنْ أراد أن يعيش حياةً مسيحيَّةً عميقة عليه أن يتتلمذ.

الأبوَّة الرُّوحيّة هي مكانٌ للتَّعزية، للمُتعَب مِنْ خطاياه، مِنْ ثِقل هذه الحياة، ومن صراعه مع نفسه. هي مكانٌ يضع فيه الإنسان كلُّ ما في حياته عند قَدَمَيْ المسيح، ويتعلَّم كيف يعيش كلمة الله في كلِّ تفصيلٍ من حياته، فتكون مسيرةُ حياتهِ مَبنيَّةً على نور الإنجيل، فيولد هذا الإنسان جديدًا بالرُّوح، بالكلمة الإلهيَّة. بكلامٍ أوسع، غاية هذه العلاقة هي بُنيان الابن الرُّوحيّ، لكي ينمو في القامَةِ والرُّوح ليُصبح رَجُلًا في المسيح، لكي يُصبح هذا الابن على صورة المسيح.

في المُقابل على الأب الرُّوحيّ أن يكون على شيءٍ من الاستنارة، يسعى لتنقية نفسه. مُختَبَرٌ في حياة الجهاد والصَّلاة، وقد تعلَّم من تجاربه ومن خبرة الآخَرين، وخبرة الكنيسة والآباء القدِّيسين. وهذا الأب عليه أن يكون قد مَرَّ في خبرة التَّتلمُذ على يد أبٍ روحيٍّ له، ونمى معه وتقدَّم لكي يَلِدَ هو بدوره أولادًا للمسيح. من لم يتتلمذ لا يمكنه أنْ يصبح أبًا.

الأبوّة الرُّوحيّة هي أن يسلك الأب بروح يوحنّا المعمدان، أي عليه هو أن يَنْقُص، وللمسيح أن يَزيد. يُشِير إلى المسيح، ويدفع إليه الأبناء الَّذين أتوا إليه. لا يُعلِّقَهُم بنفسه ولا يتعلَّقُ هو بهم، وإلّا لن يصل بهم إلى المسيح، بل يوقفهم عند نفسه وأناه المريضة. فبدون الاتِّضاع الكامل أمام الله، لا يستطيع أن يكون على مثال المعمدان. لهذا هو لا يرشدهم فقط بالنَّصائح والإرشادات، بل بمثاله الحيّ أمامهم، وأحيانًا بصمته.  وعلى الابن أن يتعلَّم كيف يصمت أيضًا، لكي يكون كلّه أٌذن يسمع من أبيه ومن الرَّبّ، وكلّه عينٌ لئلا يفوته شيءٌ مِنْ كَشْفِ الله.

على الأب الرُّوحيّ أن يكون رجل صلاةٍ أمام الله لكي يحملهم في صلاته ويساعدهم من خلالها. عليه أن يستمدَّ حكمته من الرَّبِّ لكي ينفذ إلى أعماق النُّفوس، فيميّز ما هو من الله وما هو من الشِّرّير. عليه أن يكون دقيقًا ومُختَصِرًا في كلامه، يعرف كيف يُصِب الوجع ليُعيطه الدَّواء النَّافع.

موقف الابن الرُّوحيّ أساسيٌّ وجوهريٌّ، هل هو طالبُ معرفة نفسه ومصالحتها، ومصالحة الله؟، هل لديه هذه الرَّغبة والشَّوْق، لكي يستمرَّ في سعيه وجهاده، أم لا؟ هل هو مُستعدٌّ لطاعة وصيَّة الإنجيل أم لا؟ أمَّا الأب الرُّوحيّ مِنْ جهته فلا يفرض على أبنائه الرُّوحيّين أيّ شيءٍ إطلاقًا، بل يساعدهم على بناء شخصيَّتهم لتكون مُتّزنةً وقويّةً في المسيح، فيتعلّم الابن الرُّوحيّ أنْ يتَّخِذَ قراراته بنفسه، ويتحمَّل هو مسؤوليَّتها. لأنَّ الرَّبَّ خلقنا أحرارًا، بدون هذه الحرّية لا نكون على صورة الله.

على الابن الرُّوحيّ أن يعتبر أنَّه آتٍ ليأخذ كلمةً من فَمِ الله مُباشرةً، وهذا الموقف يُحتِّم على الأب الرُّوحيّ بأن لا ينطق بأي شيءٍ من عنده، إلَّا ما يُلهمه إيَّاهُ الرُّوح من خِلال صلاته واتّضَاعِه. متى كان هذا الأب في هذه الأمانة وهذا الاتِّضاع أمام الله، أُعطي له أن يُدرك في عمق قلبه هل ما يقوله هو من نفسه، أمْ مِنَ الرَّبّ لهذا الابن الَّذي أمامه، وإلَّا فالصّمت أوجب متى اختلطت أمامه الأمور. الأفضل له أن يصمت مِنْ أن يتفوَّه بكلامٍ قد لا يَبنى، لَبَل يُدمر.

الأبوَّة الرُّوحيّة هي قاعدة الحياة المسيحيّة الحقيقيّة، وهذا الحبّ الَّذي يتلقّاه الابن مِنْ أبيه يمنحه ثقةً وسلامًا وفرحًا في القلب عميقًا لا يُنزع منه، لأنَّه مُنحدرٌ عليه من فوق، مِنْ لَدُنِ أبي الأنوار، آمين.

"يَا أَوْلاَدِي الَّذينَ أَتَمَخَّضُ بِكُمْ أَيْضًا إِلَى أَنْ يَتَصَوَّرَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ" (غلا4: 19).

طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّالث)

لِتفرحِ السَّماوِيَّات. ولتَبتَهِجِ الأرضِيَّات. لأنَّ الرَّبَّ صنعَ عِزًّا بساعِدهِ. ووَطِئَ المَوْتَ بالمَوْت. وصارَ بِكرَ الأموات. وأنقذَنا من جَوفِ الجحيم. ومَنَحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.

قنداق أحد مرفع اللّحم (باللّحن الأوّل)

إذا أتيتَ يا الله على الأرضِ بمجدٍ. فترتعدُ منكَ البرايا بأسرها. ونهرُ النّارِ يجري أمامَ المِنبر. والمَصاحفُ تُفتَّحُ. والخفايا تُشَهَّر. فنجِّني حينئذٍ من النّار الّتي لا تُطفأ. وأهّلني للوقوف عن يمينِك، أيُّها الدَّيانُ العادِل.

الرِّسالة (1 كو 8: 8-13، 9: 1-2)

قُوَّتي وتَسْبِحَتي الرَّبُّ                  

أدبًا أدَّبَني الرَّبُّ، وإلى المَوْتِ لَمْ يُسْلِمني 

يا إخوة، إنّ الطَّعامَ لا يُقرِّبُنا إلى الله، فإنّنا إنْ أكلنا لا نَزيدُ، وإنْ لم نأكل لا نَنْقُص. ولكنْ أنظروا أنْ لا يكونَ سلطانُكم هذا مَعثرةً للضُّعَفاء. لأنّه إن رآك أحدٌ يا من له العِلمُ، مُتَّكِئًا في بيتِ الأوثان، أفلا يتقوّى ضميرُه، وهو ضعيفٌ، على أكلِ ذبائح الأوثان، فيَهلِكَ بسببِ عِلْمك الأخُ الضَّعيفُ الَّذي مات المسيحُ لأجلِه. وهكذا، إذ تُخطِئون إلى الإخوةِ وتجرحون ضمائرَهم وهي ضعيفة، إنّما تُخطئِون إلى المسيح. فلذلك، إنْ كان الطَّعامُ يُشَكِّكُ أخي فلا آكلُ لحمًا إلى الأبد لئلّا أُشكِّكَ أخي. ألستُ أنا رسولًا. ألستُ أنا حُرًّا. أما رأيتُ يسوعَ المسيحَ ربَّنا؟ ألستم أنتم عملي في الرَّبّ. وإن لم أكن رسولًا إلى الآخَرين فإنّي رسولٌ إليكم، لأنّ خاتَمَ رسالتي هو أنتم في الرَّبّ.

الإنجيل(متّى 25: 31-46) 

قال الرَّبُّ: متى جاءَ ابنُ البشر في مجده وجميعُ الملائكةِ القدِّيسين معه، فحينئذٍ يجلس على عرشِ مَجْدِه، وتُجمَعُ إليه كلُّ الأمم، فيميِّزُ بعضَهم من بعضٍ كما يميِّزُ الرَّاعي الخِرافَ من الجِداء. ويقيمُ الخِرافَ عن يمينه والجِداءَ عن يسارِه. حينئذٍ يقول الملكُ للَّذين عن يمينه: تعالوا يا مُبارَكي أبي، رِثوا المُلكَ المُعَدَّ لكم منذ إنشاء العالم، لأنّي جُعتُ فأطعمتموني، وعطِشتُ فسقيتموني، وكنتُ غريبًا فآوَيتموني، وعُريانًا فكسَوتموني، ومَريضًا فعُدتموني، ومحبوسًا فأتيتم إليَّ. يُجيبه الصِّدِّيقون قائلين يا ربُّ متى رأيناك جائعًا فأطعَمناك، أو عطشانًا فسقيناك، ومتى رأيناكَ غريبًا فآوَيناك، أو عُريانًا فكسَوناك، ومتى رأيناك مريضًا أو محبوسًا فأتينا إليك. فيُجيبُ الملكُ ويقولُ لهم: "الحقَّ أقولُ لكم، بما أنَّكم فعلتم ذلك بأحدِ إخوتي هؤلاء الصِّغار فبي فعلتُموه. حينئذٍ يقولُ أيضًا للَّذين عن يسارِه، اذهبوا عنّي يا مَلاعين إلى النَّار الأبدِيَّة المُعدَّةِ لإبليسَ وملائكتِه، لأنّي جُعتُ فلم تطعِموني، وعطِشتُ فلم تسقُوني، وكنتُ غريبًا فلم تؤووني وعُريانًا فلم تكسوُني، ومَريضًا ومَحبوسًا فلم تَزوروني. حينئذٍ يُجيبونَه هم أيضًا قائلين: يا ربُّ متى رأيناكَ جائعًا أو غريبًا أو عُريانًا أو مَريضًا أو مَحبوسًا ولم نخدُمْك. حينئذٍ يُجيبُهم قائلًا: الحقَّ أقولُ لكم، بما أنَّكم لم تفعلوا ذلك بأحدِ هؤلاء الصِّغار فبي لم تفعلوه. فيذهبُ هؤلاءُ إلى العَذابِ الأبَديّ، والصِدّيقونَ إلى الحياةِ الأبديّة.

حول الرّسالة

يُعالِج الرَّسول بولـس في الرِّسالـة مشكلـة في مدينـة كورنثـوس تتعلَّـق بسلـوك بعض المؤمنـين مـِنْ ناحيـةٍ - أي أكل اللَّحم الَّذي يُباع في السُّوق- وانعكاس هذا السُّلوك على ضعفاء الإيمان من ناحيـةٍ ثانيـة. كان الكهنـة الوثنيُّـون، في تلك المدينـة، يبيعـون ما تبقّى مِنْ ذبائـح الهياكل في الأسواق، وكان عددٌ مِنَ المَسيحيّين يَقْتاتـون منها كونهم يعلمون "أنْ ليس وثَـنٌ في العالم، وأنْ ليس إلـهٌ آخَرَ إلَّا واحدًا" (1كورنثوس 8: 4)، ممّا سَبَّب عثرةً لضُعفاء الإيمان كونهم لا زالـوا يعتقدون لِضُعف ضميرهم بوجود الأوثـان.

 يخاطب الرَّسول بولس الأعمق بالفهم الرُّوحيّ لافِتًا إيَّاهم "أنّ الطَّعام لا يُقَرِّبنا إلى الله، لأنّنا إنْ أكَلْنا لا نَزيد وإنْ لم نأكل لا نَنقُص". وهذا يتماشى مع ما يقولـه في مَوْضعٍ آخَر بـأنّ "كلّ الأشياء تَحُـلُّ (لي) لكنْ ليس كلّ الأشياء توافـق، كلّ الأشياء تَحُـلُّ (لي) لكن لا يتسلّط عليّ شيء (ليست كلّ الأشياء تبني)، الأطعمة للجَوْف والجَوْف للأطعمة والله سيُبيد هذا وتلـك" (1كورنثوس 6: 12-13، 10: 23)، وهـذا الكلام يُشيـر إلى حرّيَّـة المـؤمـن في الرَّبِّ يسوع، ولكـن حرِّيًّـة المـؤمـن هذه ليست مُطْلَـقَـة، إذ يرافقـها التَّحذيـر "انظـروا لئـلَّا يَصير سلطانكم -أي سلطـان المعرفــة- هذا معثـرة للضُّعفاء... فيهلك بسبب علمـك الأخ الضَّعيـف الَّذي مـات المسيح من أجلـه، وهكذا إذ تخطئـون إلى الإخـوة وتجرحون ضميـرهم تخطئـون إلى المسيـح". هكذا يحذِّر الرَّسول بـولس مِنْ أنّ سلطـان المعرفـة قد يقود إلى الخطيئــة، والخطيئـة تختـرق الأخ الضَّعيـف لتستقِـرَّ في الرَّبِّ يسوع لأنَّ يسوع ارتضى أن يتوحَّد مع الأخ الضَّعيف، كما يتردَّد في إنجيـل اليوم "إنَّكم إنْ فعلتـم ذلك بأحد إخوتي هؤلاء الصِّغـار فَبِي فعلتموه... وبمـا أنّكـم لم تفعلـوا ذلـك بأحد هـؤلاء الصِّغار فبي لـم تفعلـوه".

هكذا لم يُعالِـج الرَّسول بـولس المشكلـة انطلاقًـا من العـلم والمعرفـة ولكن انطلاقًـا من المحبَّة "فالعلـم ينفـخ لكنَّ المحبَّة تَبْني" (1 كورنثوس 8: 1)، وإذا كنّـا بالمحبَّة "لا يطلب أحد ما هو لنفسه بلْ (كلُّ واحدٍ) ما هو للآخَر" (1 كورنثوس 10: 24)، يختـم الرَّسول بـولس هذا المقطع مِنَ الرِّسالـة قائلًا "إنْ كان طعامٌ يُعثِر أخي فلـن آكل لحمًـا إلى الأبد لئلَّا أعثرَ أخي". بهذا الكلام يُظهر الرَّسول بولس أنّ المحبَّة هي ركـن الصَّوْم الأوّل وأنَّ التَّعفُّف عن الطَّعام هو في الـدَّرجة الأولى تدريـب على المحبَّة. فالصَّوْم إذًا، امتدادٌ إلى الآخَر وهـو "أن تكسر للجائع خبزك وأن تُدخِـل البائسـين المطـرودين بيتـك وإذا رأيت العُريان أن تكسوه وأن لا تتوارى عن لحمـك" (أشعيا 58 : 7) كما يَرِدُ في إنجيل اليوم أيضًا. وهكذا استمرَّ الصَّوْم في الكنيسة الأولى كما يظهر من رسالـة الأب المُدافع أرستيـدس حـين كتـب إلى الإمبراطور أدريانـوس قائلًا "إذا كان بينـهم (أي بين المسيحيّين) فقيـرٌ محتـاج فإنّهـم يصومـون يومَـيْن أو ثلاثـة ومِنْ عاداتهم أن يرسلوا له الطَّعام الَّذي كانوا أعدّوه لأنفسهم". إذًا القِصَّة ليست امتنـاعًا عن أكل اللَّحْمِ فقـط ولكنّهـا تقشّـفٌ الغايـة منـه، أن يعطـي الإنسـان أخـاه الإنسان ويرتبطا ضمن جسد المسيح الواحد برباط المحبَّة.

بهجة القلب

القلب، بيولوجيًّا، عضوٌ أساسيّ في جسم الإنسان، إذا لم يكن هو العضوَ الأساسيّ. ذلك بأنّه هو الَّذي يتلقّى الدّم ويَضخّه، نظيفًا، في مفاصل الجسم كلّها. فبانتظام حركته تنتظم حركة الدّم، ومعها سائر الوظائف البيولوجيّة.

في القاموس الشّعريّ القلب هو مركز العواطف البشريّة على اختلافها، لا سيّما عاطفة الحبّ.

في قاموس الكتاب المقدّس، وليس بعيدًا من القاموس الشّعريّ، القلب هو رمز الكيان الإنسانيّ ورمزه؛ فإذا قرأنا، مثلًا، في سِفر الأمثال لسُليمان الحكيم، "يا بُنَيَّ أَعطِني قلبك..." (26:23) نفهم أنّ الرّبّ يطلب ممَّن آمَن به أن يُعطيه كيانه كاملًا، أن يكرّس له ذاته بكليّتها. كذلك، إذا قرأنا لداوُود "القلبُ المتخشّع والمتواضع لا يرذله الله" (مز 50 أو 17:51) نفهم أنّ الإنسان المتخشّع والمتواضع لا يَرذُله الله.

هنا، وربطًا بالعنوان، ينطرح السُّؤال: هذا القلبُ ما الَّذي يُبهجه؟ العين يُبهجها منظر بَديعٌ أخَّاذ، الأُذُن يُبهِجُها نَغَمٌ شَجِيّ ساحر... وكذا سائر الحَواسّ. الحَواسّ تُبْهِجُها جمالاتٌ حِسِّيَّة فيها من الفتون ما فيها، لكنّها، جميعًا، عابرةٌ، سُرعان ما تتلاشى، كأنّها الظّلّ المائل أو كأنّها زهر الحقل. إنّ المباهج الدّنيويّة تُغرينا، لكن إلى حينٍ؛ ترمينا في ما يُشبه الحلم الخادع لِنَصْحوَ، عند اليقظة، على أنّ ما عشناه لأُوَيْقات لم يكن سوى ظلّ مائل؛ كان وَهمَ فرح ولم يكن فرحًا. أمّا نحن فنطلب الفرح الحقيقيّ الَّذي هو بهجة القلب، وتاليًا بهجة الكيان الإنسانيّ بملئه. فمن أين لنا هذا الفرح؟

إنّ تلاميذ المسيح، لمّا أَتت ساعة تسليمه للصّلب، تَمَلّكَهم الخوفُ والرّعدة، لأنّهم شعروا أنّهم باتوا أمام الاِستحقاق المصيريّ الصّعب: باتوا غَنَمًا غاب عنهم الرّعاء. أمّا هو، ولكي يرفع عنهم ثقل هذا الخوف ويُطَمئِنَهم، فقال لهم: "... أنتم الآن حزانى؛ ولكنّي سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم، ولا ينزع أحدٌ فرحكم منكم" (يوحنّا 26:16). فإلى أيّ موعد جديد مع التلاميذ يُلمِح السيّد؟ وما هو هذا الفرح الَّذي يَعدُهُم به؟ لا شكّ في أنّ السَّيّد كان، بكلامه المُعزّي هذا، يُلمِح إلى آلامه على الصّليب فإلى موته، ثمّ إلى قيامته في اليوم الثَّالِث، وتاليًا إلى الفرح الَّذي ستجلبه هذه القيامة للتَّلاميذ، فتبتهج به قلوبهم وتَنتَشِي. إنّ ما يُبهج القلب حقًّا هو ما إذا نزل في القلب يستقرّ فيه فيُفعمه غبطةً لا يَفي بوصفها كلامٌ بشريٌّ مهما سَما. ما يُبهج القلب حقًّا جمالٌ ليس من نسيج الأرض ولا من صُنع أيدٍ بشريّة؛ جمالٌ يهبط علينا من فوق، من السّماء، ليرفعنا إليها، فنغدو به سماويّين بعدما كنّا أرضيّين.

هذه هي بهجة القلب؛ وهذه البهجة لا نذوقها إلَّا بمعاينتنا قيامةَ المسيح من بين الأموات. ليس من بهجةٍ تفوق بهجة القيامة؛ وهذه نذوقها في كلّ قدّاس إلهيّ حتّى، إذا ما خرجنا في نهايته، بسلام، إلى مذبح الأخ (حسب الذّهبيّ الفم)، نخرج ونحن حاملون فرح المسيح إلى كلّ جائعٍ ليشبع من بعد فاقة، وإلى كلّ مظلوم ليُنصَف من بعد عَسْف، وإلى كلّ شريد ليجد له مأوًى...إلخ. بفعل هذه الإطلالات المُحِبّة ترتسم بهجة القيامة على وجه كلّ من "هؤلاءِ الإخوة الصّغار"، وبنتيجتها، وفقط بنتيجتها، يحقّ لنا أن نُبادر كُلًّا منهم، إذا ما صافناه في طريقنا، بالتحيّة: "يا فرحي، المسيح قام".

أنقر هنا لتحميل الملفّ