Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

  


الأحد 17 آذار 2019

العدد 11

الأحد الأوّل من الصّوم (الأرثوذكسيّة)

اللّحن 1 – الإيوثينا 9

أعياد الأسبوع: *17: أحد الأرثوذكسيّة، ألكسيوس رجل الله *18:  كيرلّلس رئيس أساقفة أورشليم *19: الشّهداء خريسنثوس وداريّا ورفقتهما *20: الآباء ال 20 المقتولون في دير القدّيس سابا *21: الأسقف يعقوب المُعترف، البار سرابيون *22: الشّهيد باسيليوس كاهن كنيسة أنقرة، المديح الثّاني *23: الشَّهيد نيكن وتلاميذه ال199 المستشهدون معه.

كلمة الراعي

تعال وانظر

مُعظم البشر في قرارة نفوسهم يطلبون أن يَرَوْا الله. لكنّ الله لم يَرَهُ أحد قَطّ (يو ١:١٨) الابن الوحيد الّذي في حضن الآب هو خبّر. الابن كان منذ بدء الخليقة كلمة الله إلى البشر يكشف لهم حقيقته ويجسّدها بنعمة الرّوح القدّوس. الكلمة الإلهيّ في الخليقة كان مُتأكلمًا ( متجسّدًا في كلمات)، وهذا كان تحضيرًا لتجسّده في "ملء الزّمان". دائمًا كان الله الآب ينطق كلمته الابن بروحه القدّوس في الّذين اختارهم شهودًا له، مع أنّه في الأساس اختار البشريّة كلّها في آدم وحوّاء. لكن، بسقوط الإنسان، لم يعد البشر كلّهم قابلين لتلقّي الكلمة من لدن الله. لذلك، صار للرّبّ مختارون ينطق بهم بروحه القدّوس كلمته المُحيية.

*  *  *

"أبوكم ابراهيم تهلّل بأن يرى يومي فرأى وفرح" (يو ٨: ٥٦). وعود الله لآباء الشّعب العبرانيّ بمجيء المخلّص، ومسيرة الله مع شعبه في العهد القديم، وحضور الله في وسط شعبه عبر ظهورات ملاك الرّبّ العديدة، لا سيّما ظهوره لموسى في العلّيقة المُلتهبة وقيادته للشّعب العبرانيّ في خروجه من مصر هذه كلّها كانت تحضيرًا للتّجسّد أي لصيرورة الله منظورًا بعيون البشر. الله الرّبّ ظهر لنا فمباركٌ الآتي باسم الرّبّ (مز ١١٨: ٢٧)، هذا ما تمّ في ملء الزّمان حين اتّخذ ابن وكلمته طبيعتنا البشريّة وأتْحَدها بأقنومه الإلهيّ فصار الله غير المنظور منظورًا في إنسانيّته، والرّبّ غير المحدود محدودًا في بشريّته.

ما أهميّة هذا الإيمان بالنّسبة لنا نحن المسيحيّين؟ الإنسان مخلوق على صورة الله وهذه الصّورة تكشف سِرّ الله في أقانيمه، لأنّ الله ثالوث بالتّالي هو يعيش سِرّ الوَحدة الكاملة الّتي بالجوهر الإلهيّ في تمايز الأقانيم هذا من ناحية. من ناحيةٍ أخرى، أقنوم الابن المُتأنّس حقّق في ذاته سرّ الوَحدة بين الخالق والمخلوق، فصار الخالق شريكًا لخليقته في ما لها وصارت الخليقة في إنسانيّة الكلمة شريكةً للألوهة من خلال أقنوم الكلمة الإلهيّ. وهذا هو بيت القَصيد، أنّ الله غير المنظور يصير ظاهرًا وأنّ الإنسان الظّاهر يدخل في سرّ الحياة الأبديّة الّتي في الإله.

*  *  *

أتُريد أن ترى الله؟! تعال وانظر إليه في وجه أخيك، لأنّ ابن الله باتّخاذه بشريّتنا صار حاضرًا في كلّ إنسان. لكن لتراه في أخيك عليك أن تعرفه فيك أوّلًا. إذا لم تعاين وجه الله فيك فلن تستطيع أن تعاينه في وجه أخيك، لماذا؟! لأنّك أنت أيضًا صورة الله وإذا لم تدخل في أعماق معرفة ذاتك لتصل إلى الصّورة الإلهيّة التي فيك فتختبر معرفة الله من خلال ذاتك فلن تستطيع أن تتعرّف عليه في الآخر. كيف تعرف ذاتك؟!... بالتّوبة في جهاد الصّوم بالصّلاة. تعرف ذاتك أوّلًا في ضعفاتها، وبالصّلاة والصّوم تنقّيك النّعمة الإلهيّة "بغَسل الماء بالكلمة" (أف ٥: ٢٦)، إلى أن تصير الكلمة فيك "ماء الحياة" (رؤيا ٢١: ٦)، الّذي يفيض بك ليغسل الله أوساخ البشريّة فيك ومن خلالك. وهكذا تتنقّى يومًا فيومًا كما الذّهب في البَوْدقة في أتون نار طاعة المشيئة الإلهيّة الّتي تأتيك بروح الرّبّ في الكلمة. حينها تصير أيقونةً تشعّ بنور مجد الإله في انسكابك على مذبح الأخ للتّطهير، تطهير الآخر بحنان الله المكتوب في حياتك بدمك المُهراق في المسيح بالحبّ على الصّليب لأجل العالم.

*  *  *

تعال وانظر رّبك مَصلوبًا مُعلّقًا على خشبةٍ مُضرَّجًا بدماء حنوّه على خليقته الّتي ابتأست ببُعدها عنه ليردّها إليه بحمله لخطاياها وتطهيرها في إنسانيّته لتعود إلى ما خُلقت عليه ولتصير في المسيح الإله المتجسّد ما بُرِئَت لأجله على صورته ومثاله... بالحبّ الإلهيّ...

في العالم لا بُدّ أن نبدأ كأيقونةٍ للمسيح على الصّليب إلى أن يتجلّى فينا مجده كاستباقٍ لملكوته وعربونًا لفرحه الأبديّ، فنصير أيقونة مجده لغلبته على الموت في القيامة حاملين هذه النّصرة بقوّة روحه القدّوس إلى العالم إلى أن يأتي يوم الرّبّ ويتجلّى الله في الكلّ، إذ يصير هو الكلّ في الكلّ.

ومن له أذنان للسّمع فليسمع.

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن الأوّل)

إِنَّ الحجرَ لـمَّا خُتِمَ من اليهود، وجسدَكَ الطَّاهِر حُفِظَ من الـجُـــنـد، قُمْتَ في اليومِ الثَّالِثِ أَيُّها المخلِّص، مانحًا العالمَ الحياة. لذلك، قوَّاتُ السَّماواتِ هتفوا إليكَ يا واهبَ الحياة: المجدُ لقيامتِكَ أَيُّها المسيح، المجدُ لـمُلكِكَ، المجدُ لتدبيرِكَ يا مُحِبَّ البشرِ وحدَك.

طروباريّة أحد الأرثوذكسيّة (باللَّحن الثّاني)

لصورتِكَ الطَّاهِرةِ نسجدُ أَيُّها الصَّالح، طالِبينَ غُفرانَ الخطايا أَيُّها المسيحُ إِلـهُنا. لأَنَّكَ سُرِرْتَ أَنْ ترتَفِعَ بالجسدِ على الصَّليبِ طَوعًا لتُنجَّيَ الَّذينَ خَلَقْتَ مِنْ عُبوديَّةِ العَدُوِّ. فلذلك، نهتِفُ إليكَ بشُكرٍ: لقد ملأتَ الكُلَّ فَرَحًا يا مُخلِّصَنا، إذ أتيتَ لِتُخَلِّصَ العالم.

قنداق  (باللَّحن الثّامن)

إنّي أنا عبدُكِ يا والدةَ الإله، أكتبُ لكِ راياتِ الغَلَبة يا جُنديَّةً مُحامية، وأُقَدِّمُ لكِ الشُّكرَ كمُنقِذَةٍ مِنَ الشَّدائد. لكنْ، بما أنَّ لكِ العِزَّةَ التي لا تُحَارَب، أَعْتِقِينِي من صُنوفِ الشَّدائد، حتّى أَصْرُخَ إليكِ: اِفْرَحِي يا عروسًا لا عروسَ لها.

الرّسالة (عب 11: 24-26، 32-40)

مُبارَكٌ أنتَ يا رَبُّ إلهَ آبائِنا

لأَنَّكَ عَدْلٌ في كلِّ ما صَنَعْتَ بِنَا

يا إخوةُ، بالإيمانِ موسى لـمَّا كَبُرَ أَبَى أَنْ يُدعَى ابنًا لإبنةِ فرِعَون، مُختَاراً الشَّقاءَ مع شعبِ اللهِ على التَّمَتُّعِ الوقتِيِّ بالخطيئة، ومُعتَبِراً عارَ المسيحِ غِنًى أعظمَ من كنوزِ مِصرَ، لأَنَّهَ نظرَ إلى الثَّواب. وماذا أقولُ أيضاً؟ إِنَّه يَضيقُ بِيَ الوقتُ إنْ أَخْبَرْتُ عن جِدعَونَ وباراقَ وشَمشونَ ويَفتاحَ وداودَ وصموئِيلَ والأنبياء، الَّذين بالإيمانِ قَهَروا الممالِكَ وعَمِلوا البِرَّ ونالوا المواعِدَ، وسَدُّوا أَفواهَ الأُسُودِ، وأَطْفَأُوا حِدَّةَ النَّارِ، ونَجَوْا مِنْ حَدِّ السَّيف، وتَقَوَّوْا من ضُعْفٍ، وصارُوا أَشِدَّاءَ في الحروبِ، وكَسَرُوا مُعْسْكَراتِ الأجانِب. وأَخَذَتْ نِساءٌ أمواتَهُنَّ بالقيامة. وعُذِّبَ آخَرُون بتوتيرِ الأَعضاءِ والضَّرب. ولم يَقْبَلُوا بالنَّجاةِ ليَحْصَلُوا على قيامةٍ أَفْضَل. وآخَرُون ذاقُوا الـهُزْءَ والجَلْدَ والقيودَ أَيضًا والسِّجن. ورُجِمُوا ونُشِرُوا وامتُحِنُوا، وماتُوا بِحَدِّ السَّيف. وساحُوا في جُلودِ غَنَمٍ ومَعِزٍ، وهم مُعْوَزُونَ مُضايَقُونَ مَجهُودُونَ (ولم يَكُنِ العالمُ مُسْتَحِقًّا لهم). وكانوا تائِهِينَ في البراري والجبالِ والمغاوِرِ وكهوفِ الأرض. فهؤلاءِ كُلُّهُم مَشْهُودًا لهم بالإِيمانِ لم يَنَالُوا الموعِد، لأَنَّ اللهَ سَبَقَ فَنَظَرَ لنا شيئًا أَفْضَلَ، أَنْ لا يُكْمَلُوا بدونِنا.

الإنجيل  (يو 1: 44-52)  

في ذلكَ الزَّمان، أَرادَ يسوعُ الخروجَ إلى الجليل، فوجَدَ فيلبُّسَ فقالَ له: "اتبَعْنِي". وكانَ فيلِبُّسُ من بيتَ صيدا من مدينةِ أَنْدَرَاوُسَ وبُطْرُس. فوجَدَ فيلِبُّسُ نَثَنَائِيلَ فقالَ له: "إِنَّ الَّذي كتبَ عنه موسى في النَّاموسِ والأَنبياءِ قد وَجَدْنَاهُ، وهوَ يسوعُ بنُ يوسُفَ الَّذي مِنَ النَّاصِرَة". فقالَ له نَثَنَائِيلُ: أَمِنَ النَّاصِرةِ يمكنُ أَنْ يكونَ شيءٌ صالِح! فقالَ له فيلِبُّسُ: "تعالَ وانظُر". فرأَى يسوعُ نَثَنَائِيلَ مُقْبِلاً إِليه، فقالَ عنه: "هُوَذا إِسرائيليٌّ حقًّا لا غِشَّ فيه" فقالَ له نثنائيلُ: "مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُنِي؟ أَجابَ يسوعُ وقالَ له: "قَبْلَ أَنْ يَدْعُوَكَ فيلِبُّسُ وأَنْتَ تحتَ التِّينَةِ رَأَيْتُكَ". أَجابَ نثنائيلُ وقالَ له: "يا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ابنُ اللهِ، أَنْتَ مَلِكُ إِسرائيل". أَجابَ يسوعُ وقالَ له: "لأَنِّي قُلْتُ لكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تحتَ التِّينَةِ آمَنْت. إِنَّكَ سَتُعايِنُ أَعْظَمَ من هذا". وقالَ له: "الحقَّ الحقَّ أَقُولُ لكم، إِنَّكُم مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّماءَ مفتُوحَة، وملائِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ ويَنْـزِلُونَ على ابْنِ البَشَر.

حول الرّسالة

"أَنْ لا يُكْمَلُوا بدونِنَا". في الأحدِ الأوَّلِ من الصَّوْم الَّذي يُدْعَى أَحَدُ الإِيقُونَةِ أَوِ الأُرثوذكسيَّة يتحقَّقُ بالفعل مفهومُ الإيمان وتسطيرُه بين الجماعة التي آمَنَتْ بالرَّبِّ يسوعَ مُخَلِّصًا، والتَفَّتْ حوله مُحدثة كنيسةً بأعضائِها وبرأسِها المسيح.

فالإيمانُ بحسب هذه الرِّسالة ليس خُطُوات البَشَرِ الـمُتَعَثِّرَة نحو الله، إِنَّما موقف الإعتماد والإتِّكال الواثِق بكلمة الله على مدى الحياة. ثقة وهبة من الله للَّذين يطلبونه بإلحاح.

فموسى وداود وصموئيل... وكلّ مَنْ ذُكِرَ في العهد القديم من أسماء، اعتبرَهُم الكاتِب نموذَجاً للإيمان بالله والبقاء في الأمانة له. وهو يلفتُنا إلى أنَّ النَّظْرَة للعهد القديم على أنَّه، بالأكثر، مجرَّد تحضير وتهيئة لمجيء المسيح ونبؤات عنه، هي بالحقيقة، بالإضافة إلى ما سبق، إنعِكاسُ الجديد على القديم، إنعكاسُ عمل المسيح الخلاصيّ على إيمان آباء العهد القديم. هذه الحالة هي عملُ الله الَّذي لا زمن له ولا مسافة، هي حالة واحدة من السَّعي نحو الله.

هم ينتظروننا ونحن نجري مزدحمين حول الميدان، نازعين عنَّا كلّ ما يُعيقنا لكي نعدوا في السِّباق بكلِّ قوَّتنا لننال الجعالة (أنظر: 1كو 9: 24)، طارِحين عنَّا الألم والتَّعب وتصبُّب العرق... كتأديب لخيرنا. فالله أَعَدَّ لنا أفضل من هذه الوقتيَّات، حضَّر لنا شيئاً أفضل في السَّماويَّات. هم الَّذين، حين لم يكن الإله قد صار بشراً بعد، قد آمَنُوا بما سيأَتي، ونحن الَّذين رأَيْنَا وسَمِعْنَا وقَبِلْنَا سنفرحُ بما سيأَتي. أُعْطِيَ لهم الوعدُ ونحنُ عَرَفْنَا الموعِد، حتَّى يفرَحَ الزَّارِعُ والحاصِدُ معًا (كورنثوس).

كلّ هؤلاء السَّابقين الأَبرار: إبراهيم والأنبياء...بولس والرُّسل والقدِّيسين... ينتظرونَنَا نحن لكي يتمَّ، في زمن المجيء، موعِدُ التَّتويجِ الواحِد: "هذا ما يفعله الأَبُ الحنونُ بأبنائِه الَّذين رضَيَ عنهم" (الذهبي الفم). فالجسدُ الكامِلُ يحتاجُ إلى أعضائِهِ كلِّها حتَّى يكونَ جسداً صحيحاً كامِلاً. وكما يقول ثيودوسيوس القورشي: "كان جهادُهُم كبيراً ومتعدِّداً، إلاَّ أَنَّهم لم يُتَوَّجُوا بعد. إِنَّ إِلهَ الجميعِ ينتظِرُ جهادَ الآخِرين، لكي يجازِيَ الغالِبين معاً".

من نشرة الكرمة- في ۲٤- ٣- ۲٠١٣ .

 ”التّواضع“ أم الفضائل

جاء في الأدب الرّهبانيّ أنّه كان يوجد شيخ له تلميذ جيّد. ومن المَلَلْ كان الشّيخ يُخرجه خارج الباب ويزدري به، فكان التّلميذ يمكث جالسًا خارجًا، ولمّا فتح الشّيخ الباب في اليوم الثّالث، وجده جالسًا، فأدّى له الشّيخ مطّانيّة وقال له: "يا ولدي، إنّ تواضعك وطول أناتك قد غلبا شرّي وصِغَر نفسي، فهلمّ الآن الى داخل، ومنذ الآن كُن أنتَ الشّيخ وأنا التّلميذ".

إنّ هذه القصّة نقطة في بحر هذه الفضيلة العظيمة الّتي بواسطتها نقهر المُعاند وننتصر على الكبرياء، أمّ الرّذائل. من يمتلك هذه الفضيلة يتشبّه بربّ الأرباب ويستقي منه أبهى صفاته، هو الّذي قال: "تعلّمّوا منّي لأنّي وديع ومتواضع القلب تجدوا راحة لنفوسكم" ( متى 11: 29)، هو الّذي بتواضعه الأقصى ارتضى أن يأخذ صورة عبدٍ ليفتدي الجنس البشريّ بدمه الكريم ويُصلَب ويقوم ويفتح لنا باب عدن الّذي كان قد أُغلق بوجه آدم الأوّل العاصي.

لم يتوانَ أيّ من آباء الكنيسة عن الحديث على ميزات التّواضع، وأهمّ الكتابات وأقدمها هي للقدّيس إسحق السّريانيّ، وجاء فيها: "إذا كان الغرور يشتّت النّفس ويبدّدها ويدفعها إلى تحليقات هوائيّة فالتّواضع يجمعها بهدوء ويُضرم فيها النّار ويجنّحها بالغمام. إذا كانت النّفس غير منظورة بالعيون الجسديّة كذلك المتواضع لا يُعرَف بين البشر، وكما النّفس تختبئ وسط الجسد، كذلك المتواضع لا يتحاشى أن يظهر بين النّاس وفي اجتماعاتهم فحسب، بل يسجن نفسه في ذاته بإرادته صامتًا قانعًا بعالم أعماقه، يعيش فيه كأنّه يعيش في عالم مستقلّ لا يقيّده زمان ولا مكان، ثماره المعاني الّتي يغرفها من عالم صمته ونقاوته، معانٍ تنسيه حتّى ذاته، فيرتفع إلى درجة من عدم المعرفة مضاعفًا فيه الكنوز الّتي يزيدها التّواضع الصّامت إشراقًا وإشعاعًا".

ويضيف: "المتواضع لا يطرب لأناشيد البشر ولا تستهويه الحياة العامّة، بمجتمعاتها وترفها واهتماماتها المظلمة، المتواضع يفرح بالوحدة ويُسرّ بالصّمت ويعيش على الحقيقة، الوحدة والانفراد هما الدّافع إلى الارتفاع وهذا يرتفع بتواضعه إلى عالم السّلام الفكريّ والهدوء الذّهنيّ، ويبتعد عن الاهتمامات الّتي تقفل باب السّلام لتفتح باب الجحيم المعذّب المضنيّ. لا مجال في التّواضع للأفكار المحمومة والكلام الفارغ، المجال فقط لعالم الهدوء والاطمئنان، لا يعرف المتواضع الخوف حتّى لو طبّقت السّماء على الأرض، المتواضع يعيش في هدوء دائم، لأنّه ليس من هذا العالم، إنّه لا يخاف الأحزان ولا ترعبه ولا تغيره، لا يباهي ولا يفتخر، لا تبطره المسرّات لأنّ أفراحه في سيّده".

أمّا ثمار التّواضع فهي الحشمة والرّقّة والإحسان والدّموع والقلب المنسحق وشلّ حركة الغضب والصّبر وطول الأناة وإطفاء نيران الشّرير... المتواضع يقف أمام الله كإنسان مفقود الجرأة لا يعرف ماذا يقول وماذا يصلّي وماذا يطلب، جلّ ما يطلبه رحمة الله وإرادته ومشيئته، جلّ ما ينشده صمت فيه كلّ معاني الكمال، كلّ التّعبير عن غزارة عالمه الرّوحيّ، يحني رأسه أمام الله في خشية وخجل في حين تكون نفسه شعلة محترقة فوق درج باب القدسات يلفّه الغمام الّذي يبهر أعين الملائكة، يحني رأسه صامتًا ساكبًا فوق مصفّ الملائكة صمته، بالرّغم من هذا كلّه، لا يجسر أن يقول إلّا صلاة المتواضع: فلتكن إرادتك يا ربّ. وهذا ما يجب أن نفعله نحن أيّها الأحبّاء، في هذا الزّمن المقدّس الّذي يُعدّ فرصة ذهبيّة سانحة لنا لنجاهد روحيًّا ونقتدي بالرّبّ يسوع بتواضعه ووداعته، ونمارس الفضائل السّامية ونقرن إيماننا بالأعمال الصّالحة لمجد الله، آمين!

انقر هنا لتحميل الملف