Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد ١٥ تمّوز ۲٠١٨ 

العدد ۲٨

أحد آباء المجمه المَسكونيّ الرّابع

اللّحن ٦- الإيوثينا ٧

كلمة الرّاعي

مُشكلة الشّرّ والإلحاد (2) 

تساؤلات البَشَر حول الشّرّ في العالم عديدة ومُتَنَوّعة، يسألون:

لماذا يوجَد ظُلم؟ لماذا البَاطِل يَظهر غالبًا؟ لماذا الأشرار يَحكمون؟ لماذا يوجد أنظمة جائرة؟ لماذا الكوارث الطّبيعيّة؟ لماذا الألم والمرض والموت؟ إلخ. الأسئلة كثيرة ومُتشعّبَة من أصغر تفاصيل حياة الإنسان إلى أكبر تفاصيل الدّول والخليقة... السّؤال في عمقه واحد: أين هو اللّه من كلّ هذا؟ المتألمّون والمُلحِدون يسألون نفس السّؤال: إذا كان اللّه مَوجودًا، وإذا كان اللّه هو الخير المُطلَق والكَمال والجمال... فَكَيْف يَرضى عن وجود هذه الشّرور والآلام في خليقته إذا كان يُحبّها؟!...

*           *           *

من المحبّة يأتي الجواب، لأنّ المحبّة تتضمّن الحرّيّة، والحرّيّة تتعلّق بمشيئة الإنسان. الإنسان مخلوق على صورة اللّه لذلك هو حرّ. لكن حين تتعلّق حرّيّته بأناه تصير مدمّرة لغيره وله من خلال تَدميره للآخَر. الشّرّ هو كلّ انحراف عن المحبّة سواء في النّيّة أو الفكر أو القول أو الفعل. الشّرّ الكَوْنيّ يأتي من الإنسان صانع الشّرّ ومن الشّيطان إبليس مُوَسْوِس أفكار الخَراب والكَذِب والحقد والحَسد والكبرياء والأنانيّة.

الإنسان هو نموذج الخليقة كلّها، لا بل هو يحوي الخــلـيقـة كــلّــها في ذاتــه، إنّــه "كـَـــوْن مُـصَـغَّــر" (microcosmos). فإذا اختلّ فيه التّوازن اختلّ توازن الكَوْن، وإذا انْصَلَحَ حالُه صَلُحَ الكون. لذلك، عندما سقط الإنسان خَرُبَتِ الخليقةُ: "مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ..." (تكوين 3: 17 – 19). والعلاقة بين البَشَر تَدَمَّرَت، انقسم الإنسان في كيانه فَصَارَ يَصنَع الشّرّ وهو لا يُريده ولا يستطيع أن يصنع الخير الّذي يُريده: "لأَنِّي لَسْتُ أَفْعَلُ الصَّالِحَ الَّذِي أُرِيدهُ، بَلِ الشَّرَّ الَّذِي لَسْتُ أُرِيدهُ فَإِيَّاهُ أَفْعَلُ" (رومية 7: 19).

الإنسان هو ميزان الكَوْن، لذلك، لا خَلاص للخليقة إلّا بالمسيح الإله الكامل والإنسان الكامل، الَّذي رَدّ كيان الإنسان إلى وحدته وردّ الوحدة بين البشر في ذاته وأصلح لا بل جدَّد الخليقة في إنسانيّته. نعرف من سِيَر القدّيسين كيف أنّهم عندما يتشبّهون بالمسيح في حياتهم من خلال طاعتهم الكاملة لمشيئة اللّه بنعمة الرّوح القُدُس الّذي يسكن فيهم يمتدّ هذا الأمر إلى الخليقة حولهم فيدخلون في سلام معها وهي معهم، يعود الكون فيهم إلى وحدته وانسجامه وسلامه وتوازنه الثّابت.

*           *           *

يتأتّى الشّرّ من حريّة الإنسان. وحين تكون حريّة الإنسان خارج الحبّ الإلهيّ تَصير فَوْضى مُدمِّرَة. لا يوجد فوضى بَنَّاءة، فقط اللّه قادر أن يحوّل الشّرّ إلى خير والفوضى إلى نِظام والخَراب إلى حياة. من هنا اكتشف جبران خليل جبران بإلهام إلهيّ بأنّ "المحبّة (الإلهيّة) هي الحرّيّة الوَحيدة في هذا العالم لأنّها ترفع النّفس إلى مَقام سام لا تبلغه شرائع البشر وتقاليدهم، ولا تسود عليه نواميس الطّبيعة وأحكامها" (كتاب "الأجنحة المتكسِّرة").

من كان في المسيح فهو حُرّ ولا تَسود عليه أحكام هذا العالم لأنّه مات عن العالم. من يموت عن العالم حُبًّا بالمسيح يصير حرًّا من كلّ قيد في هذه الدّنيا لأنّ موت المسيح وقيامته حرّراه.

اللّه يعمل من خلال حرّية الإنسان، لذلك قال: " أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ". نحن نور من نوره. لكن من يقتني نوره؟ "أَنَا قَدْ جِئْتُ نُورًا إِلَى الْعَالَمِ، حَتَّى كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِي لاَ يَمْكُثُ فِي الظُّلْمَةِ"، من يؤمن بالمسيح يصير مستنيرًا ومُنيرًا. العالم مُظلم بدون الرّبّ يسوع المسيح، والرّبّ حاضر في العالم من خلال كنيسته، وكنيسته من خلال المؤمنين به...

ومن له أذنان للسّمع فَلْيَسمع.

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللّحن السّادس)

إنّ القوّات الملائكيّة ظهروا على قبرك الموقّر، والحرّاس صاروا كالأموات، ومريم وقفت عند القبر طالبةً جسدَك الطاهر. فسبَيْتَ الجحيمَ ولم تجرَّبْ منها وصادفتَ البتول مانحاً الحياة. فيا مَن قام من بين الأموات يا ربُّ المجد لك.

طروباريّة  الآباء (باللّحن الثّامن)

أنتَ أيُّها المسيحُ إلهُنا الفائِقُ التَّسبيح، يا مَنْ أَسَّسْتَ آباءَنا القدِّيسينَ على الأرضِ كواكِبَ لامِعَة، وبهم هَدَيْتَنَا جميعًا إلى الإيمانِ الحقيقيّ، يا جزيلَ الرَّحمةِ المجدُ لك.

القنداق (باللّحن الثّاني)

يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرّدودةِ، لا تُعرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطلْبَةِ، يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائماً بمكرَّميك.

الرّسالة (تيطس 3: 8-15)

مباركٌ أنت يا ربُّ  إلهَ آبائنا

لأنَّك عدلٌ في كلِّ ما صنعتَ بنا 

يا ولدي تيطُسُ، صادقةٌ هي الكَلِمةُ وإيَّاها أُريدُ أن تقرِّرَ، حتَّى يهتمَّ الذين آمنوا باللهِ في القيام بالأعمال الحسنة؛ فهذه هي الأعمالُ الحسنةُ والنافعة. أمّا المُباحَثات الهذَيانيَّةُ والأنسابُ والخُصوُمَاتُ والمماحكاتُ الناموسيَّة فاجتنِبْها، فإنَّها غَيرُ نافعةٍ وباطلةٌ. ورجُلُ البدعَةِ، بعدَ الإنذار مرَّةً وأُخرى، أَعرِض عنهُ، عالِماً أنَّ مَن هو كذلك قدِ اعتَسفَ، وهُوَ في الخطيئةِ يَقضي بنفسهِ على نَفسِه. ومتَى أرسلتُ إليكَ أرتمِاسَ أو تِيخيكوسَ فبادِرْ أن تأتيَني إلى نيكوبولِس لأنّي قد عزمتُ أن أُشتّيَ هناك. أما زيناسُ معلِّم الناموس وأبُلُّوسُ فاجتَهد في تشييعهما متأهِّبَين لئلّا يُعوزَهما شيءٌ. وليتعلَّمْ ذَوونا أن يقوموا بالأعمال الصالِحةِ للحاجاتِ الضَّروريَّة حتَّى لا يكونوا غيرَ مثمرين. يسلّمُ عليكَ جميعُ الذين معي. سَلِّمْ على الذين يُحبُّوننا في الإيمان. النّعمةُ معكم أجمعين، آمين.

الإنجيل (متّى 5: 14-19)

قال الربُّ لتلاميذه: أنتم نورُ العالَم. لا يمكنُ أن تَخفْى مدينةٌ واقعةٌ على جبلٍ، ولا يُوقَد سِراجٌ ويُوضَعُ تحتَ المكيال لكِنْ على المنارة ليُضيءَ لجميع الذين في البيت. هكذا فليُضئ نورُكم قدَّام الناس ليَرَوا أعمالكم الصالحةَ ويُمجِّدوا أباكم الذي في السَّمَوات. لا تَظُنّوا أنّي أتيتُ لِأَحُلَّ الناموسَ والأنبياءَ، إنّي لم آتِ لأحُلَّ لكن لأُتممّ. الحقَّ أقول لكم: إنَّهُ إلى أن تَزولَ السماءُ والأرضُ لا يزولُ حَرْفٌ واحدٌ أو نُقطةٌ واحِدةٌ من الناموس حتّى يَتمَّ الكلُّ. فكلُّ مَن يَحُلُّ واحدةً من هذه الوصايا الصغار ويُعَلّمُ الناسَ هكذا، فإنَّهُ يُدعَى صغيراً في ملكوتِ السَّمَوات. وأمَّا الذي يعمَلُ ويُعلّم فهذا يُدعى عظيماً في ملكوت السَّمَوات.

حول الإنجيل

اختارت الكنيسة هذا الإنجيلَ اليوم بِمُناسبة عيد آباء المجمع المسكونيّ الرّابع المُنعَقد في خلقيدونية سنة 451 م. قولَ المسيح: "أنتم نورُ العالم" يدلّ على من هم آباء الكنيسة القدّيسين. من دون نورٍ لا تنتفع أعيننا من الرّؤية، الرّؤيةُ تحتاجُ إلى نورٍ. ولكنّ النّور المَقصود اليوم هو نُورٌ إضافيٌّ استثنائيٌّ يكشفُ لنا أنّ الإنسانَ الّذي يُرى بِنُورٍ يَشعُّ منه هو إنسانٌ يحملُ اللّه، يحملُ المَسيحَ، وبِداخِله نورُ الألوهة الّتي أَعطَت النّورَ وهي الّتي نَحتاجها اليوم لتكون النّورَ، من أجل أن نرى من خلالها بعضنا البعض.

لقد أعلن الرّبّ لِتَلاميذه حقيقتهم قائلا لهم: "أنتم نور العالم. لا يُمكن أن تَخفى مدينة على جبل، ولا يوقَدُ سراج ويُوضعُ تحت المِكْيال، ولكن على المَنارة حتّى يُضيء لجميع الّذين هم في البيت". إنّهم "نور العالم" لأنّهم باستنارتهم بالنّور الحقيقيّ الأبديّ يُصبحون نُورًا في الظّلام. وبما أنّه هو نفسه شمس البرّ، فإنّه يُسمّي تلاميذه أيضًا "نور العالم". وبهم، كما بأشعّةٍ لامعةٍ، يشعّ بنور معرفته على العالم بأسره. وبإظهار نور الحقّ، يكسح تلاميذ الرّبّ ظلام الظّلال من قلوب النّاس.

ما هي هذه ”المدينة“ الّتي يتكلّم عنها الرّبّ؟ إنّها كنيسة المُقدَّسين الّتي يقول عنها النّبيّ: "لقد قيلَتْ الأمجاد فيكِ يا مدينة مَلِكِنا" (مزمور 3:87). فجميع المؤمنين هم مواطنوها الّذي خاطبهم الرّسول بقوله: "أنتم مواطنون مع القدّيسين ومن أهل بيت اللّه" (أفسس 19:2). توضع هذه المدينة على جبل. وهي تشير إلى الرّسل والأنبياء والمعلّمين الآخرين الّذين تعلّموا من المسيح. فالمسيح هو الجبل الّذي يقول عنه دانيال: "صار جبلًا كبيرًا وملأ الأرض كلّها" (دانيال 2: 34-35). بتشبيهٍ آخر يريد الآن أن يبيّن لماذا يجعل المسيح نفسه قدّيسيه بارزين. إنّه يأبى أن يكونوا وراء السّتر: "ولا يُوقَد سِراج وُيوضَع تحت المكيال، ولكن على المنارة حتّى يُضيء لجميع الّذين هم في البيت". مَنْ هُم مُوقِدو السّراج؟ إنّهما الآب والابن. وما هو ذلك السّراج؟ إنّه الكلمة الإلهيّة الّتي قيل عنها: "كلامُكَ سِراجٌ لخطواتي، ونورٌ لطريقي" (مزمور 5:118). مصباح الكلمة يشعّ نُورًا، لكي يكون الطّريق واضحًا، فيضـيء لجميع الّذين هم في البيت. ما هي هذه المَنارة؟ إنّها الكنيسة الّتي تَحمل كلمة الحياة. ولذلك يقول بولس: "تُضيئون فيه كالكواكب في الكون، مُتمسّكين بكلمة الحياة (فيليبي 2: 15-16). وهكذا يُسمَّى كلّ فَرْد في الكنيسة مَنارة، لأنّه يملك كلمة اللّه. والمقصود "بالمِكْيال" الرَّذيلة، وبـ "السّراج" الفَضيلة. فالنّاس الّذين يبتغون أن يصنعوا الخطيئة والشر يسيرون في الظّلام مُعرِضين عن النّور. من يَضَع السّراج تحت المِكْيال هو الّذي يَحجُب نور التّعليم الصّالح ويُخفيه بالدّنيويّات. بالأحرى، يجب أن يرفع المرء الحقّ عاليًا على "المنارة". وهذا يدلّ على أنّ النّور يشرق نتيجة خدمةٍ مجسّدة. بهذه الطّريقة تُترجم أصواتنا وألسنتنا وتصرّفات الجسد الأخرى إلى أعمالٍ صالحةٍ على أيدي الّذين يتعلّمون. هكذا كانوا آباء المَجمع المَسكوني الرّابع منارةً تشعّ ضيائها لكي نستنير من خلال تعاليمهم.

آباء الكنيسة المقَدَّسة، مَنْ هُم؟

لطالما لجأنا في أحاديثنا الرّوحيّة إلى ذكر "آباء الكنيسة"، غير عالمين أنّ لهذا المصطلح تعريفًا واضحًا، بحسب ما يُعرَف بعلم الباترولوجيا (الآبائيّات)، قد لا ينطبق على كافّة القدّيسين في الكنيسة، من دون أن يُنقص ذلك من قداسة أيّ منهم. بدايةً، لا بدّ أن نوضح أنّ في كنيستنا الأرثوذكسيّة، لا حدود لعصر الآباء، فظهور الآباء مستمرٌّ في الكنيسة المقدّسة إلى يومنا هذا. والكنيسة لا تزال تتمتّع بسلطانها كاملًا كما كانت في القديم، وروحُ الحَقّ يُحييها اليوم كما أحياها في القديم. والقول إنّ عصر الآباء انتهى دلالة جهل وعدم فهم لمصطلح "أب" و "معلّم".

من هنا، لا بدّ لنا أن نحدّد أنّ ما هو مميّز في الأب والمعلّم هو أنّه مستنير من الرّوح القدس وأنّ له مساهمةً فعّالةً في التّصدّي للأزمات اللّاهوتيّة الّتي تُهدّد الكنيسة وخلاص المؤمنين. وهذان العُنصـران، أي الاستنارة وظهور الأزمات اللّاهوتيّة، حاضران في كلّ زمن وعصر، وبالتّالي نحن نؤمن أنّ اللّه سَيُـرِسل لنا آباء مُستنيرين في كلّ زمن وعصر، للتّصدّي لتلك الأزمات! والقول إنّ عصر الآباء انتهى مع هذا الأب أو ذاك، يَعني توقُّف عمل الرّوح القدس في الكنيسة. وهذا ما نرفضه رَفضًا قاطِعًا. عبر تاريخ الكنيسة، كانت الأزمات اللّاهوتيّة تَظهَر تِباعًا، الواحدة تلو الأخرى. ففي القرن الرّابع مثلًا، ظهرت مشكلة ألوهيّة الابن، ومن ثمّ ألوهيّة الرّوح القدس، مع آريوس وأتباعه وغيرهم، فكان أن أرسل اللّه القدّيس أثناسيوس الكبير والآباء الكبادوكيّين ليَدْحَضوا تلك الهَرطقات. وفي القرن الخامس، ظهرت مشكلة العَلاقة بين طبيعتَيْ المسيح مع نَسطوريوس، فلعب القدّيس كيرلُّس الإسكندريّ دورًا بارِزًا لحلّ المشكلة. وفي القرن السّادس، كانت الأزمة بين فِعْلَي وإرادتَي المسيح، فبَرَزَ القدّيس مَكسيموس وبدّد المعضلة. أمّا في القرن الثّامن، فقد ظهرت مُشكلة الإيقونات وإكرام القدّيسين، ومِن الآباء الّذين بَرَزوا كان القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ. وُصولًا إلى القرن التّاسع، واجهنا مُشكلة الـ"فيليوكفي"، أي انبثاق الرّوح القدس من الآب والابن معًا، فبَرَزَ القدّيس فوتيوس بطريرك القسطنطينيّة، ولمَعَ في توضيح التّعليم الصّحيح في هذا الموضوع. وفي القرن الحادي عشر، ظهرت مُشكلة اتّحاد اللّه بالإنسان (مفهوم التّألّه)، فكان القدّيس سِمعان اللّاهوتيّ الحديث خير من وَضَّحَ وحَلَّ الأزمة. وفي القرن الرّابع عشر، ظهرت مُشكلة ماهِيّة القِوى الإلهيّة الّتي يشترك بها الإنسان (ما إذا كانت مخلوقة أم غير مخلوقة)، وهنا تألّق القدّيس غريغوريوس بالاماس في تحديد تعليم الكنيسة في هذا الشّأن... وبالتّالي، وبِصُورة عامّة، نلحظ أنَّه في خضم هذه المشاكل والأزمات كلّها، كانت تظهر في كلّ مرّة، شخصيّات هامّة، مُستنيرة، تقدّم مساهماتٍ وحلولًا مُناسِبة، وهم مَن تسمّيهم الكنيسة المقَدّسة "الآباء المعلّمين".

"آباء الكنيسة المقَدّسة"، إذًا، هم الّذين شُهِد لهم بالقداسة والبرّ، والّذين أخذوا على عاتِقِهم مَسؤوليّة توجيه المؤمنين وتربيتهم روحيًّا. دورهم ذو وجهين اثنين: الوَجه الأوّل رعائيّ، والوَجه الثّاني تَعليميّ. يهتمّ الوجه الأوّل بالولادة والتّوجيه الرّوحيّ للمؤمنين، ليرتبطوا بالمسيح بِرِباط الرّوح القدس، ويتمّ ذلك بكرازة الإنجيل وبإتمام الأسرار المقدّسة. أمّا الوجه التّعليميّ فيهتمّ بتعليم المؤمنين وبتفسير حقائق الإيمان، كما يواجه بالدّرجة الأولى المشاكل والأزمات اللّاهوتيّة الكبرى في الكنيسة، وهو الدّور الكبير الّذي يَلعبه الآباء في حياة الكنيسة. وبالتّالي، خصائص الآباء تأتي على الشّكل التّالي: لاهوتيًّا، هم تجسّد لتقليد الكنيسة وخُلُقها وتعليمها. وهم مُستنيرون بالرّوح القدس، ليتمكّنوا من التّعبير وبشكلٍ مُوَسَّع عن خبرة واختبار الحقيقة الّتي نملكها سلفًا في التّقليد الشّريف (سواء في الكتاب المقدّس أو في التّقليد المصادَق عليه لدى الآباء). وأخيرًا، هم مساهمون فعّالون وناجحون في مواجهة وتجاوز الأزمة اللّاهوتيّة الّتي هّزت الكنيسة في عصرٍ ما، وحاولت تشويه حقيقة الإيمان المُسَلَّم، وبالتّالي خلاصَ المؤمنين. باختصار، آباء الكنيسة المقدّسة هم حاملون أصيلون للتّقليد الكنسيّ، يستنيرون من الرّوح القدس ويعبّرون لاهوتيًّا، وبشكلٍ مُوَسَّع، عن خبرة الحقيقة الّتي تُهدِّدها أزمة لاهوتيّة خطرة على خلاص المؤمنين، وهذا كلّه طبعًا بِنِيَّة مواجهة تلك الأزمة. فلنطلبنَّ شفاعاتهم وصلواتهم من أجلنا جميعًا كي تبقى الكنيسة، بفضلهم وبنعمة الثّالوث القدّوس، قويّةً، مُصانةً، مُحصَّنة، عروسًا بهيّةً للمسيح الإله، آمين!

تعليم مجمع خلقيدونية (415 م): ”إنّ المسيح هو نفسه تامّ في الألوهة وتامّ في البشريّة، إله حقّ وإنسان حقّ. إنّه مساوٍ للآب في الألوهة ومساوٍ لنا في البشريّة، شبيه بنا في كلّ شيء ما خلا الخطيئة. قبل كلّ الدهور وُلد من الآب بحسب الألوهة، وفي الأيّام الأخيرة هو نفسه، لأجلنا ولأجل خلاصنا، وُلد من مريم العذراء و الدة الإله ، بحسب البشريّة. واحدٌ هو، وهو نفسه المسيح، ابن الله، الربّ، الذي يجب الاعتراف به في طبيعتين متّحدتين دون اختلاط ولا تحوّل ولا انقسام ولا انفصال. وهو لم ينقسم ولم ينفصل إلى شخصين، بل واحدٌ هو، وهو نفسه الابن الوحيد، الإله الكلمة، الربّ يسوع المسيح".

انقر هنا لتحميل الملف