Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

  


الأحد 7 نيسان 2019

العدد 14

الأحد البارّ يوحنّا السّلّميّ

اللّحن 4- الإيوثينا 1

أعياد الأسبوع: *7: (البارّ يوحنّا السّلّميّ)، الشّهيد كليوبيوس، جرجس أسقف ميتيلين *8: الرّسول هيروديون ورفقته وهم من السّبعين *9: الشّهيد أفبسيشيوس، رفائيل ونيقولاوس وإيريني (ميتيليني) *10: ترانتيوس وبومبيوس، ورفاقهما *11: الشّهيد أنتيباس أسقف برغامس (القانون الكبير) *12: باسيليوس المُعترف أسقف ڤارية، أكاكيوس الآثوسيّ، (المَديح الكبير) *13: مرتينوس المُعترف بابا رومية.

كلمة الراعي

السُّلَّم إلى الله

 

في كلّ سنةٍ تَتَكرَّر المَواسم ونُعيّد تَعييد الأحداث الخلاصيّة ونَسير في مَوْكِب تحضير الفصح، عيد الأعياد ومَوسم المَواسم. في هذا الخطّ يأتي أحد القدّيس يوحنّا السُّلَّميّ، مُعلّم النُّسك ومَعرفة النّفس البشريّة.

*      *      *

مَعرفة الذّات أساسها موهبة التّمييز المُعطاة من روح الرّبّ والخِبرة. بحسب السُّلّميّ "التّمييز عند المُبتدئين هو مَعرفة ذواتهم معرفة حقيقيّة. أمّا عند المتوسّطين فهو حسّ داخليّ لا يُخطئ، يُميّز السّجيّة الصّالحة حقًا عن السّجيّة الطّبيعيّة وعن السّجيّة الرّديئة. وأمّا عند الكاملين فهو معرفة ناتجة عن استنارة إلهيّة تستطيع أن تُضيء بمِصباحها ما هو مُظلِم عند الآخرين. ولعلّ تحديد التّمييز بصورةٍ عامّةٍ هو أنّه معرفة ثابتة لمشيئة الله في كلّ ظرف وفي كلّ آن ومكان، تتوفّر فقط لأنقياء القلوب والأجساد والأفواه". قد يقول قائلٌ: أين نحن من هذه الفَضائل، وهل مِنْ جهادنا طائل؟!...، هنا يتساءل العاقِل...

الجهاد الرّوحيّ الحَقّ لا بُدَّ أن يؤدّي إلى مَعرفة النّفس وإلى اقتناء التّمييز الّذي هو في النّهاية عَطيّة الرّوح القُدُس. لكنّ طريق الجهاد الرّوحي المُؤدّي إلى التّمييز يَمُرُّ  حُكمًا بالتّوبة الّتي هي أساسُ معرفةِ الذّات. لا يستطيع الإنسان أن يتوب ما لم يُدرِك خطيئتهُ، ولكي يَعرف الإنسان ما في داخِلِهِ من خطايا مُعشِّشَة وأهواء لا بُدَّ له أن يُواجِهَ ذاتَه بالكلمة الإلهيّة في الصّلاة والخِدمة. لذلك فالحياة المُشتركة أو حياة الشَّرِكَة مُهمّة جدًّا لِكَشف عُيوب الإنسان الدّاخليّة والخطايا والأهواء الّتي عادةً ما تَكونُ مَحجوبَةً عن أَعيُن الآخرين، وحتّى على الإنسان نفسِه الّذي لا يَفْحَص ذاتَهُ بكلمةِ الإنجيل. يُميّز الإنسان أوّلًا حركات النَّفس ونَواياها لأنّها هي المُنطَلَق لأيّ عمل. فكلّ ما يصنعهُ الإنسان مَبنيٌّ على حاجةٍ أو رغبة، وأحيانًا كثيرة ما تكون هذه الأمور غير مُدرَكَة بوضوح للإنسان. نتائجُ حَرَكةِ النَّفس والنَّوايا تُترجُم بأفعالٍ وهذه الأفعال يجب أن تُقاس بِفِكْر المسيح. نبدأ بالمَعرفة من الخارج إلى الدّاخل في الفحص العقليّ والرّوح القدس يُنير العقل والقلب لِكَيما يلِجَ الإنسان إلى دواخله ويميّز تفاصيل نفسه في تحرّكها سواءً نحو الله أو نحو الآخر أو نحو نفسها.

أساسُ الجِهادُ الرّوحيّ هو الصّدق مع النّفس أوّلًا ومع الله ومع القَريب. يقول كاتب المَزامير: "قُلتُ في حَيْرَتي كُلُّ إنسانٍ كاذِبٍ، بماذا أُكافئ الرَّبَّ عن كُلّ ما أعطاني؟ كأس الخَلاص أقبل وباسم الرَّبِّ أدعو..." (مز 115). الصّدقُ إذًا مُرتبط بمَعرِفَةِ وَتَقديرِ ما وَهَبَنا الله، وأهمُّ عَطيّةٍ مِن الرَّبّ إلينا هي أنّه أوْجَدَنا على صورَتِهِ لِكَيْما نَصيرَ إلى مثالِه. مَنْ يُدرِكُ هذه الحقيقة لا يستطيع إلّا أن يَبذُلَ ذاتَهُ أي أن يتخلّى عنها بإزاءِ مَن أعطاهُ إيّاها وذلكَ في حِفْظِ الوَصيَّةِ لأنّ هذا هو التّعبير الحَقّ عن المحبّة لله. يَقولُ الرَّبّ يسوع: "مَنْ يُحبُّني يَحفظُ َصاياي، وأنا أحبُّهُ وأبي يُحبُّه وإليه نأتي وعندَهُ نَصنَعُ مَسكِنًا" (إنجيل يوحنّا 14: 23). محبّةُ الله مُرتبطة بحِفْظِ الوَصيَّة، وحِفظُ الوَصيَّةِ ثمرتُهُ سُكنى الله في النّفس الآب والابن والرّوح القُدُس يَسكنون بالنّعمةِ الإلهيّة في قلب الإنسان. هذه السُّكنى يَطلُبُها الإنسان، وهو يُعبّر عن طلَبِهِ هذا بجهاده لصُنعِ مَشيئةِ الله وانكارِ مَشيئتِه أي انكار أناه بإزاءِ المحبّةِ الإلهيّة. المَحبّةُ المُتَنزِّلَة علينا من الآب بالإبن في الرّوح القُدُس هي الّتي تَكشِفُ وتُنقّي دَواخِلَ القلب لأنّ الإنسانَ بمجاوَبَتِهِ الرَّبّ على هذه المحبّة يَعرفُ ذاتَهُ ويُدرِكُ حقيقةَ ما يُكَبِّلُهُ وما يَحُدُّهُ وما يَمنعُهُ عن تحقيق مَصيرِهِ بأن يَصيرَ على مِثالِ الله. هذا الكلام يَصُحُّ للمؤمنين أمّا غير المؤمِن فلا يَعنيهِ بشيء لأنّهُ يرفضُ أن يرى الوُجودَ خارِجَ ذاتِهِ. المُؤمن هو الّذي يَرى الوُجود بِعَيْنَيْ الله من خلال الكلمة الإلهيّة المُجسّدَة في حياة الرّبّ يسوع المَسيح الّذي عرَّفَنا مَن هو الإنسان. الإله المُتَجَسِّد لم يأتَمِن الإنسان على نفسه كما يقول في إنجيل يوحنّا (يو 2: 24- 25)، لأنّ الإنسان لا يُؤتَمَن على ذاتِهِ. هذه حقيقةُ السُّقوط لأنّ الكائن البَشَريّ صار خائنًا لذاتِهِ في دعوَتِهِ الإلهيّة وبالتّالي مُدمِّرًا لكَيْنونتِهِ وللخَليقةِ كافّةً.

*      *      *

محبّةُ الله هي الّتي تَدفعُنا إلى التَّوبَة لأنّ الله أحبّنا أوّلًا. يَلمُسُ الله كلَّ إنسان في حياتِهِ لِيَشُدَّهُ إليه. لا يوجَدُ إنسان خارج رحمة الله ولكن علينا نحنُ أيضًا أن نكونَ رُحماء لِكَيْما يَتمَّ عملُ الله في العالم بِحَسَبِ مَشيئتِه إذ هو أتى إلينا كإنسان لابسًا جسدًا لِكَيْما ينقلنا بمثاله كإبنٍ للبشر إلى الارتقاء نحو التّألُّه الّذي هو غايَةُ الوُجود وغايَةُ التَّجسُّد وغايَةُ البشارَة وغايَةُ القِيامَة، وكلّ تدبير الله الخَلاصيّ وغايَةُ جهادِنا الرّوحيّ.

القدّيس يوحنّا السُّلَّميّ سَبَرَ غَوْرَ النَّفْس البَشَريَّةِ بتَمْحيصِها في النُّسكِ المَجبولِ بالصَّلاةِ، والصَّلاةُ المَجبولَةُ بالخدمَةِ، والخدمَةُ المَجبولَةُ بروحِ الشَّرِكَة وعَيْشِها. هذا طريقُ كُلّ إنسانٍ لِيَعرِفَ ذاتَهُ وليَرتَقي مِنْ مَرحَلَةٍ إلى مَرحَلة. لكنّ هذا يُكلِّفُ دَمًا، هذا هو صليبُ المؤمِن في سَعيِهِ نحوَ القَداسَة وهذا هو الطّريقُ الّذي اخْتَطَّهُ لنا الرَّبُّ يسوع في حياتِهِ على الأرض لِكَيْما يكونَ لنا قُدوَةً ومِثالًا في الارتقاءِ نحو الله إذ سارَ هو وصَعِدَ هذه السُّلَّم المُصعِدَة مِن الأرضِ إلى السَّماء وصارَ هو هذه السُّلَّم الّتي تَرتَقي بالّذي يَدخُلُ في رِكابِها ويتَّحِدُ بها نحو السَّماء. ها الكنيسة تضعُنا اليوم مُجدَّدًا بإزاء حَقيقتِنا "فَهَل مِن فاهِمٍ طالبٍ لله" هَل مَنْ يُريدُ أن يَخلُص، هَل يوجَدُ إيمانٌ على الأرض؟!... الرّبُّ اليوم يُسائلنا بِمِثالِ يوحنّا السُّلَّميّ وبأيقونَةِ تَعاليمِهِ الّتي خَطَّ في كتابِهِ السُّلَّم إلى السّماء، الرَّبُّ يُنادينا ويَدعونا فيها لِكَيما نَدخُلَ في رَكْبِ القدّيسين، لأنّه لهذا أوْجَدَنا ولهذا خلَقَنا ولهذا أتى إلَينا وأتْحَدَنا بأقنومِهِ لمّا صار بَشَرًا لِكَيْما نَلِجَ الحياةَ الأبديّة في سرِّ وَحدتنا معهُ بطاعَةِ الوَصيَّة للحياة الأبديّة.

ومَن استطاعَ أن يَقبَل فَليَقبَل.

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن الرّابع)

إنَّ تلميذاتِ الرَّبّ تعلَّمنَ مِنَ المَلاكِ الكَرْزَ بالقيامةِ البَهج. وطَرَحنَ القَضاءَ الجَدِّيَّ. وخاطبنَ الرُّسلَ مُفتَخِراتٍ وقائِلات. سُبيَ المَوتُ وقامَ المَسيحُ الإله. ومنحَ العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.

طروباريَّة القدِّيس يوحنَّا السُّلَّميّ (باللَّحن الثّامن)

للبرِّيَّة غَيرِ المُثمِرَة بمجاري دُموعِكَ أمْرَعْتَ، وبالتَّنَهُّدَاتِ الَّتي منَ الأعماق أَثْمَرْتَ بأتعابِكَ إلى مئةِ ضِعْفٍ، فَصِرتَ كَوكَبًا للمَسْكونَةِ مُتلألِئًا بالعجائِب يا أبانا البارَّ يوحنَّا. فتشفَّعْ إلى المسيحِ الإله في خلاصِ نفوسِنا.

قنداق  (باللَّحن   الثّامن)

إنّي أنا عبدكِ يا والدة الإله، أكتب لكِ رايات الغلبة يا جنديّة مُحامية، وأقدّم لكِ الشّكر كمنقذة من الشّدائد، حتّى أصرخ إليكِ، إفرحي يا عروسًا لا عروس لها.

الرّسالة   (عب  6: 13– 20)

الرَّبُّ يُعطِي قوّةً لشَعبْه 

قدّموا للرّبّ يا أبناءَ الله

يا إخوةُ، إنَّ اللهَ لمَّا وَعَدَ إبراهيمَ، إذ لم يُمكِنْ أنْ يُقسِمَ بما هُوَ أعظَمُ منهُ، أقسَمَ بنفسِهِ قائلًا: لَأُبارِكَنَّكَ برَكَةً وأُكَثِّرنَّكَ تكثيرًا. وذاكَ إذ تَأنَّى نالَ المَوْعِد. وإنَّما النَّاسُ يُقسِمُونَ بما هُوَ أعظَمُ منهمُ، وتنْقَضِي كلُّ مُشاجَرَةٍ بينَهُم بالقَسَم للتَّثْبِيتِ. فَلِذلك، لمَّا شاءَ اللهُ أنْ يَزيدَ وَرَثَةَ الموعِد بَيَانًا لعدَمِ تَحوُّلِ عزْمِهِ، توسَّطَ بالقَسَمِ حتَّى نَحصُلَ، بأمْرَيْنِ لا يتحوَّلان ولا يُمْكِنُ أنْ يُخْلِفَ اللهُ فيهِما، على تعْزيَةٍ قويَّةٍ نحنُ الَّذين التجَأْنَا إلى التَّمَسُّكِ بالرَّجاءِ الموضوعِ أمامَنا، الَّذي هو لنا كَمِرسَاةٍ للنَّفْسِ أمينةٍ راسِخَةٍ تَدْخُلُ إلى داخِلِ الحِجابِ حيث دَخَلَ يسوعُ كسابقٍ لنا، وقَدْ صارَ على رُتبةِ مليكصادَق، رئيسَ كهنةٍ إلى الأبَدِ.

الإنجيل  )مر 9: 17– 31)

في ذلك الزَّمان، دنا إلى يسوع إنسانٌ وسَجدَ له قائلًا: يا مُعَلِّمُ قد أتيْتُك بابْني بِه روحٌ أَبْكَم، وحيثما أَخَذَهُ يصرَعُهُ فيُزْبِدُ ويصرفُ بأسنانِه وَيـَيْبَس. وقد سأَلْتُ تلاميذَكَ أن يُخرِجوهُ فلم يَقدِرُوا. فأجابَهُ قائلًا: أيُّها الجيلُ غيرُ المؤمِن، إلى متى أكونُ عِندَكُم، حتَّى متى أَحْتَمِلُكُم؟ هَلُمَّ بهِ إليَّ. فأَتوهُ بهِ. فلمَّا رآهُ للوَقتِ صَرَعَهُ الرُّوحُ فسَقَطَ على الأرض يَتَمَرَّغُ ويُزْبِدُ. فسألَ أباهُ: منذ كَمْ مِنَ الزَّمان أصابَهُ هذا؟ فقالَ: مُنذُ صِباهُ، وكثيرًا ما ألقاهُ في النَّار وفي المياه ليُهلِكَهُ، لكنْ إنْ استَطَعْتَ شيئًا فَتَحَنَّنْ علينا وأَغِثْنَا. فقال لَهُ يسوعُ: إنْ استَطَعْتَ أنْ تُؤْمِنَ فكُلُّ شيءٍ مُستَطَاعٌ للمؤْمِن. فصاحَ أبو الصَّبِيّ مِنْ ساعَتِه بدموعٍ وقالَ: إنّي أُؤْمِنُ يا سيِّد، فأَغِثْ عَدَم إيماني. فلمّا رأى يسوعُ أنَّ الجميعَ يتبادَرُون إليهِ انتهَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ قائلًا لَهُ: أَيُّها الرُّوحُ الأَبْكَمُ الأصَمُّ، أنا آمُرُكَ أنْ اُخْرُجْ مِنهُ ولا تَعُدْ تَدخُل فيه، فصرَخَ وخبَطَهُ كثيرًا وخرجَ مِنهُ فصارَ كالمَيْت، حتّى قال كثيرون إنَّه قدْ ماتَ. فأَخَذَ يسوعُ بيدِه وأنهضَهُ فقام. ولمّا دخلَ بيتًا سألَهُ تلاميذُه على انفراد: لماذا لم نستَطِعْ نحن أنْ نخرجَه؟ فقال لهم: إنَّ هذا الجنسَ لا يُمْكِنُ أنْ يخرُجَ بشيءٍ إلَّا بالصَّلاة والصَّوم. ولمّا خرجوا من هناك اجتازوا في الجليل ولم يُرِدْ أن يدريَ أحَدٌ، فإنَّه كان يُعَلِّمُ تلاميذَه ويقولُ لهم: إنَّ ابنَ البشرِ يُسَلَّمُ إلى أيدي النَّاس فيقتُلُونَهُ وبعد أَنْ يُقْتَلَ يقومُ في اليوم الثَّالِث.

حول  الإنجيل

يقول الذّهبيّ الفم أنّ المسيح سمح للشّيطان أن يصرع المسكون، لا لأنّ الرّبّ يحبّ الألم بل كي يدفع أباه للإيمان والتّواضع. "لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لكي يتمجّد الله فيه" ( يو٩ : ١ - ٤١) "ألله لا يجرَّب بالشّرور" ( يع ١: ١٣ - ١٨).

ألحالات الهستيريّة الّتي كان الرّوح الأبكم يوقع الصّبيّ فيها حين يصرعه  فيُزبد، يصرف بأسنانه، ييبس... يُلقيه في النّار أو في الماء، تدلّ على هلاكه أي على أعمال الشّيطان من جهة، ومن جهة أخرى تحذير لنا لنعرف شرّ إبليس أنّه يودّ قتل الصّبيّ وهدفه الشّامل هو قتل كلّ إنسان كما يُدعى "قتال النّاس" ( يو ٨: ٤٤). عندما أخرج الرّبّ الرّوح الأبكم من الصّبيّ صار كميتٍ، إذ أنّ كلّ من يتحرّر من سلطان الخطيئة وروح الشّرّ يُحسب كَمَيتٍ، لأنّه كان حاضنًا للشّهوات الجسديّة ومحبّة العالم الّتي يُرمز إليها بالماء "وكثيرًا ما ألقاه في الماء"، والآن يسوع بشفائه يُميت في داخله هذه الحياة الجسدانيّة ويَظهر للعالم كميتٍ. إنّ الّذين لا يعرفون كيف يعيشون حسب الرّوح يظنّون أنّ من لا يسلك بالشّهوات والأهواء هو ميت، ولا يعرف أن يعيش لأنّه يحرم نفسه من متعة الحياة، لا بل هذه نظرة العالم نحو الرّوحيّين. النّار والماء يُشيران إلى دينونة العالم العادلة منذ القديم ( تك ٧- ١٩). وهنا تحمل النّار أيضًا معنى الغضب الّذي يحرق كلّ ما حوله حتّى الإنسان ذاته.        "الشّديد الغضب يحمل عقوبةً" ( أم ١٩: ١٩، ٣٠: ٣٣) "... الغضب يستقرّ في حُضن الجهّال" ( جا ٧: ٩).

التّجلّي الّذي سبق هذه الحادثة هو إعلان مملكة المسيح وتجلّي ملكوت المَسيّا في حياتنا، فإنّ الشّيطان يحاول الإستيلاء على أبناء الملكوت وإذلالهم. ومن تجلّى هو الّذي له النّصرة على الشّيطان وتقييده وتقويض مملكته والحدّ من سلطانه ووقف إيذائه لأبناء الله. عدم قدرة التّلاميذ على إخراج الرّوح الأبكم، يقول الذّهبيّ الفمّ، بسبب خوف التّلاميذ أن يكونوا قد فقدوا عطيّة يسوع، إذ كانوا قد "نالوا سلطانًا على الأرواح النّجسة" (مر٣ : ١٣ -١٦). وذلك لأنّ إعلانات يسوع عن آلامه وموته أثّرت بالتّلاميذ وهزّت إيمانهم فصاروا عُرضة لسخرية الجمع والكتبة. وهكذا كلّ من يحمل إسم يسوع المسيح وليس لديه تلك القوّة على غلبة الشّيطان، فإنّه يصير سبب تجديف وعثرة على إسم يسوع. أمّا القدّيس غريغوريوس بالاماس يقول أنّ التّلاميذ لم يستطيعوا شفاء الصّبيّ بسبب ضعف إيمان أبيه، لذلك شفى أي قوّى الرّبّ إيمان أبيه الضّعيف أوّلًا. وعندما علم الأب من يسوع أنّ الشّفاء يفترض إيمانًا صرخ للوقت "أؤمن يا سيد فأَعِنْ عدم إيماني". وقول يسوع عن هذا الجنس لا يخرج إلّا بالصّوم والصّلاة، إذ عن طريقهما يُستبعد تأثير القوى الشّرّيرة، وفي حالة الصّبيّ لا يستطيع هو نفسه أن يصلّي ويصوم لأنّه مُكبَّل، بل يحتاج إلى من يسكنه الرّوح القدس ويصوم ويُصلّي، على حدّ قَوْل القدّيس بالاماس.

المحبّة في المسيح

الله في جوهره محبّة :"من لا يحبّ لم يعرف الله لأنّ الله محبّة" (1 يوحنّا 8:4). وإذا ما تفحّصنا صفات الله الّتي لا تُحصى، لوجدنا أن المحبّة هي الصّفة الغالبة والأكثر جاذبيّة عنده. وما الرّسالة الّتي أتمّها السّيّد المسيح أثناء وجوده بالجسد على الأرض من الكرازة ببشرى الخلاص وشفاء المرضى والرّفق بالخطأة وقبول التّائبين... سوى تعبير عن المحبّة المُختزنة في قلبه والّتي جاء يعملها ويعلّمها ويدعو الكلّ أن يحيا بموجبها. لذلك نجد هذه المحبّة هي المقياس الّذي على أساسه ستكون دينونة العالم: "كنت جائعًا فأطعمتموني، عطشانًا فسقيتموني، غريبًا فآويتموني..." (مت 25: 36-35). بالأصل المحبّة كانت الدّافع لسرّ التّجسّد والفِداء والخلاص الّذي حقّقه المسيح: "هكذا أحبّ الله العالم حتّى إنّه بذل ابنه الوحيد كي لا يهلك كلّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة" (يوحنّا 16:3). ونفس الرّسول الإنجيليّ يقول في موضعٍ آخر : "في هذا هي المحبّة، ليس أنّنا نحن أحببنا الله، بل أنّه هو أحبّنا، وأرسل ابنه كفارة لخطايانا" (يوحنّا 10:4). المحبّة هي قمّة الفضائل بل هي الفَضيلة الأولى والأساس. وعندما سأل النّاموسيّ الرّبّ يسوع عن الوصيّة العُظمى في النّاموس، كان جواب السّيّد المحبّة: "تحبّ الرّبّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ فكرك ومن كلّ قوّتك... والثّانية مثلها تحبّ قريبك كنفسك" (متى 22: 39-36). كلّ الوصايا تجلّيات للمحبّة، وكلّ الوَصايا تتجمّع في المحبّة. لدرجة أنّ الرّسول بولس اعتبر المحبّة أسمى وأهمّ من الإيمان والرّجاء: "أمّا الآن فيثبت الإيمان والرّجاء والمحبّة ولكن أعظمهنّ المحبّة" (1 كورنثوس 13: 13).

انقر هنا لتحميل الملف