Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 19 آذار 2023

العدد 12

الأحد (3) من الصّوم (السّجود للصَّليب)

اللّحن 7- الإيوثينا 7

أعياد الأسبوع:  *19: السُّجود للصَّليب، الشّهداء خريسنثوس وداريّا ورفقتهما *20: الآباء ال 20 المقتولون في دير القدّيس سابا *21: تذكار القدّيس  يعقوب الأسقف المعترف، البارّ سرابيون  *22: الشّهيد باسيليوس كاهن كنيسة أنقرة *23: الشّهيد نيكن وتلاميذه ال 199 المستشهدون معه *24: المديح الرّابع، تقدمة عيد البشارة، القدّيس أرتامون أسقف سَلَفكية *25: عيد بشارة والدة الإله الفائقة القداسة.

كلمة الرّاعي

صليب الخلاص

"فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّلِيبِ عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ" (1 كو 1: 18)

عقاب الإعدام بالصَّلْب هو مِنْ أقسى الوسائل وأفظعها، وقد اخترعه الفرس وأخذه عنهم الرُّومان. هذا العقاب كان حكم أكثر المجرمين إجرامًا. ما هي جريمة يسوع المسيح ليُعَلَّق عليه؟!... أنّه كان بارًّا هزَّ عروش المتسلِّطين من رجال الدّنيا والدِّين. هم لم يكونوا يعرفون أنّه "الله" و "الملك"، مع أنّه قال لهم، ولكنّهم لم يريدوا أن يصدّقوا لأنّهم أرادوا قتل الله إذ "أحبُّوا الظّلمة أكثر من النّور".

فيلسوف من القرن التّاسع عشر، نيتشه، قال إنَّ الله مات. تَوْقُ النّاس أنْ يُميتوا الله لأنّ وجوده يُبَكِّتهم على خطاياهم. وإلَّا يخترعون آلهة تُشبع لهم شهواتهم وأهواءهم. الإنسان ميّال إلى القتل، إلى إبادة الآخَر المختلف عنه، وهذا ينطبق أيضًا على موقفه من الله. حركتان في نفس الإنسان تتحكّمان به: العنف واللَّذَّة. العنف مصدره الغضب الكامن في الكيان والمُغَذَّى من الأنانيَّة والكبرياء، واللَّذَّة مصدرها اللَّامعنى في الحياة.

عالم اليوم يُغَذِّي في الإنسان المعاصر هاتَيْن الحَرَكَتَيْن في النّفس، ولذلك يصير اتّباع المسيح وحمل صليب حبّه جنونًا مُطبقًا في نظر أهل الدُّنيا الَّذين أُسِروا بمنطق عالم الاستهلاك والهلاك والحضارة الزّائفة الخائفة من الحبّ.

*          *          *

هناك من يريد من الله أن يُظهر ذاته بقوّته وسحق الآخَر، وهناك من يريد أن يكون الله داخل دائرة العلم والمعرفة. ومع أنّ الله كلِّيُّ القدرة والمعرفة إلّا أنّه لا يتطابق مع أوهام البشر عنه أو رغباتهم منه.

الإيمان صليب لطالبي المعجزات والفلسفة في آن معًا. فالفئة الأولى تطلب الخوارق لتؤمن ولتؤكِّد وجودها من خلال إله يتمِّم لها نظرتها بالتَّفَوُّق على الآخرين، والفئة الثَّانية، وهي لا تختلف عن الأولى إلّا بالوسيلة، فهي أيضًا تطلب الفلسفة الفائقة لتؤكِّد وجودها من خلال تفوّقها بسبر الواقع المنظور وغير المنظور بالعقل.

إلهنا المصلوب يدمِّر هاتين الحركتين في السَّعي للقبض عليه وتحديده. هو لا يستجيب لمنطق القوَّة بحسب منظور النَّاس ولا لمفهوم الحكمة والفلسفة بحسب المفكِّرين والعلماء، إنّه إله المحبّة الإلهيّة الّتي تجلّت بكامل قوّتها في قمّة الضُّعف وفي كلّ مجدها في كلّيّة الذّل وفي لانهائيّة حنانها في غلبة الحقد والحسد الظّاهرة. كذلك، حكمة الله الفائقة على كلّ عقل تجلَّت في تجهيل حكمة العالم، ومعرفة الله استُعلِنَت في ظلمة العدالة البشريّة. هذا كلّه تمّ على الصّليب...

*          *          *

أيُّها الأحبّاء، نحن أبناء المصلوب نكون أو لا نكون. أنا مصلوب بمحبوبيّتي للرّبّ في طاعة وصيّته إذًا أنا كائن. بالصَّليب نستمدُّ وجودنا السَّرمديّ في المسيح يسوع مع الله في شركة الثّالوث القدّوس، "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي" (غل 2: 20).

أنا أُصلب مع المسيح حين أطيعه بالكلّيّة أي لا يعود لي مشيئة سوى مشيئته. حينها أنا لا أعود أحيا لنفسي بل للمسيح "الَّذي أحبّني وأَسْلَم نفسه لأجلي". لا مسيحيّة دون صليب، ولا قداسة دون مصلوبيّة، ولا مصلوبيّة دون محبّة لله والقريب.

الفرح يأتي من الحزن، والحياة من الموت. هذا هو صليب الحبّ الإلهيّ للبشر الَّذي وُهبنا في المسيح أن نشترك فيه لنغلب العالم وما في العالم، ولنلج ملكوت الدّهر الآتي بالموت على الصَّليب عن الدّهر الحاضر، إذ نعلم "أَنْ لَيْسَ لَنَا هُنَا مَدِينَةٌ بَاقِيَةٌ، لكِنَّنَا نَطْلُبُ الْعَتِيدَةَ" (عب 13: 14).

خبرة الحياة الجديدة نعرفها بالتّوبة الصّادقة، لأنّنا بها نعبر من الموت إلى الحياة ومن العتاقة إلى الجدَّة ومن الحزن إلى الفرح ومن الاضطراب والقلق إلى السّلام والطّمأنينة. الصّليب هو تغيير كياني يتمّ بمشيئتنا إذ نقبل بشجاعة ألم التّحرُّر من مشيئتنا ونواجه الموت فنقول مع المسيح: "يَا أَبَتَاهُ، إِنْ لَمْ يُمْكِنْ أَنْ تَعْبُرَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسُ إِلَّا أَنْ أَشْرَبَهَا، فَلْتَكُنْ مَشِيئَتُكَ" (مت 26: 42). حين نسلّم كلّ حياتنا ومشيئتنا لمن بذل نفسه لأجلنا تأتي النّعمة الإلهيّة وتسكن فينا وتغيّر طبيعتنا وتطهّرها إذ تتنقَّى الحواس الرّوحيّة ويحصل الإنسان على قوّة من الله تساعده على عيش الصّليب كطاقة قياميَّة لحياة جديدة على صورة المسيح الغالب...

ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن السّابع)

حطمْتَ بِصَليبِكَ المَوت. وفتحتَ للِّصِّ الفِرْدَوس. وحوَّلتَ نَوْحَ حامِلاتِ الطّيب. وأمَرْتَ رُسلَكَ أن يَكرزِوا. بأنَّكَ قد قُمتَ أَيُّها المسيحُ الإله. مانِحًا العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.

طروباريّة الصّليب (باللَّحن الأوّل)

خلِّصْ يا ربُّ شعبَكَ وبارِكْ ميراثَك، وامنَحْ عبيدَكَ المؤمنينَ الغلبَةَ على الشِّرِّير، واحفَظْ بقوَّةٍ صليبِكَ جميعَ المختصِّينَ بك.

القنداق (باللّحن الثّامن)

إنّي أنا عَبْدُكِ يا والدةَ الإله، أكتبُ لكِ راياتِ الغَلَبة يا جُنديَّةً مُحامِيَة، وأُقَدِّمُ لكِ الشُّكرَ كمُنقِذةٍ مِنَ الشَّدائد. لكنْ، بما أنَّ لكِ العِزَّة الَّتي لا تُحارَب، أعتقيني من صُنوفِ الشَّدِائد، حتّى أصرُخَ إليكِ: إفرحي يا عروسًا لا عروسَ لها.

الرّسالة (عب 4: 14-16، 5: 1-6) 

خلِّص يا ربُّ شَعبَك وباركْ ميراثك

إليكَ يا ربُّ أصرُخُ إلهي

يا إخوة، إذ لنا رئيسُ كَهَنةٍ عظيمٌ قد اجتازَ السّماواتِ، يسوعُ ابنُ اللهِ، فَلْنَتَمَسَّكْ بالاعترافِ. لأنْ ليسَ لنا رئيسُ كهنةٍ غيرُ قادرٍ أن يَرثيَ لأوهانِنا، بل مُجَرَّبٌ في كلِّ شيءٍ مِثلَنا ما خَلا الخطيئة. فَلْنُقْبِلْ إذًا بثقةٍ إلى عرشِ النّعمةِ لِنَنالَ رحمةً ونجدَ ثِقةً للإغاثةِ في أوانها. فإنَّ كلَّ رئيسِ كهنةٍ مُتَّخَذٍ من النّاسِ ومُقامٍ لأجلِ النّاس في ما هو لله ليُقرِّبَ تَقادِمَ وذبائحَ عن الخطايا، في إمكانِهِ أنْ يُشفِقَ على الّذينَ يجهَلونَ ويَضلُّونَ لِكونِهِ هو أيضًا مُتَلَبِّسًا بالضُّعْفِ. ولهذا يجب عليهِ أنْ يقرِّبَ عن الخطايا لأجلِ نفسِهِ كما يُقرِّبُ لأجلِ الشَّعْب. وليس أحدٌ يأخذُ لِنَفسِهِ الكرامةَ بَلْ من دعاه الله كما دعا هارون. كذلكَ المسيحُ لم يُمَجِّدْ نَفْسَهُ ليَصيرَ رئيسَ كهنةٍ، بل الّذي قالَ لهُ: "أنْتَ ابني وأنا اليومَ ولدْتُكَ"، كما يقولُ في مَوضِعٍ آخَرَ: "أنْتَ كاهنٌ إلى الأبَدِ على رُتبَةِ ملكيصادق".

الإنجيل (مر 8: 34-38، 9: 1) 

قال الرَّبُّ: مَنْ أرادَ أنْ يَتبَعَني فَلْيَكْفُرْ بنَفْسِهِ ويَحمِلْ صَليبَه ويَتبَعْني. لأنَّ مَنْ أرادَ أنْ يُخَلِّصَ نفسَه يُهْلِكُها، ومَنْ أهلكَ نفسَهُ مِن أجلي وَمِنْ أجْلِ الإنجيل يُخَلِّصُها. فإنَّهُ ماذا يَنْتَفِعُ الإنسانُ لو رَبحَ العالَم كُلَهُ وخَسِرَ نفسَهُ؟ أمْ ماذا يُعطي الإنسانُ فِداءً عن نَفْسِهِ؟ لأنَّ مَن يَسْتحي بي وبكلامي في هذا الجيلِ الفاسقِ الخاطئ يَسْتحي بهِ ابْنُ البَشَر متى أتى في مَجْدِ أبيهِ مَع الملائكةِ القِدِّيسين. وقالَ لهُمْ: الحقَّ أقولُ لكم إنَّ قَوْمًا مِنَ القائمين ههنا لا يَذوقونَ الموْتَ حتّى يَرَوا مَلكوتَ اللهِ قد أتى بقُوّةٍ.

حول الإنجيل

مباشرةً بعد نبوءة يسوع الأولى عن آلامه وقبل حادثة التَّجلّي، يقدّم لنا الإنجيليّون مجموعة أقوال له تتطرّق إلى أهميّة الالتحاق بيسوع وشروطه وتبعاته.

"مَنْ أرادَ أنْ يتبعني". هذا خيارٌ حُرّ وشخصيّ. هذا يستتبع من تلميذ المسيح قرارًا حُرًّا ومسؤوليّة شخصيّة وتحمُّلًا للنَّتائج. ما سينال صاحبه من ضيقٍ ونبذٍ اجتماعيّ وآلامٍ لن ينسبها إلى الله وتجاربه ظانًّا أنّه يرسلها إليه لامتحانه. بل عليه أنْ يدرك أنَّ الشَّيطان هو المُجَرِّب الأكبر وأنَّ السِّهام الشِّرّيرة الَّتي ستصيبه هي نتيجة قراره بمواجهة إبليس وأزلامه في هذا العالم كونه على صورة معلّمه. عند لوقا نصادف عبارة "كلّ يوم" وهي تشير إلى نَهجِ حياةٍ يلتزم به تلميذ المسيح في مجمل ظروف حياته اليوميّة. "يجب علينا أن نجتاز ضيقاتٍ كثيرةٍ لندخل ملكوت الله" (أع 14: 22).

لاتّباع يسوع شرط ذو ثلاثة أوجه: 1- أنْ تُنْكِر ذاتَك. 2- أنْ تحمل صليبَك. 3- وأنْ تتَّبِع يسوع. أنْ تُنْكِر ذاتَك يَعني أنْ تُهمل متطلّباتك المشروعة والمُحِقَّة، أنْ تُميتَ فيك رغبة الأنا تجاه حياتك البيولوجيّة وكلّ مظاهر هذه الحياة. أنْ لا تنتمي إلى ذاتك، أنْ تُنْكِر أمانَكَ الشَّخْصيّ أمانًا يُنشده، غريزيًّا، كلّ إنسان. أنْ تحمل صليبك، يعني إنْ كان الصَّليبُ الَّذي تنبّأ عنه يسوع قبل كلامه هذا نصيبَه فسيكون هو أيضًا نصيبَ كلّ مَنْ قرّر اتّباعه. المؤمن يشابه ربّه المتجسّد في حياته ومماته. كلّ ما ذُكر لن تكون له قيمة إنْ لم يهدف إلى اتّباع يسوع. كلّ هذه المُستَلْزَمات تفقد قيمتها إنْ لم تَقُد إلى السَّير على خُطى يسوع. الأفعال الثَّلاثة، "يُنكر، يحمل ويتبع" متلازمة وتفسّر بعضها بعضًا وتُعطي هذا التَّخلِّي الحُرّ والشَّخصيّ معناه وفعاليّته الخلاصيَّين.

تُشَكِّل صيانة الإنسان لحياته البيولوجيّة همًّا غريزيًّا مبرَّرًا ومنطقيًّا في هذه الحياة الدُّنيا. لكنّ المستغرب، بِحُسْنِ منطق هذا العالم، أنْ تربح حياتك الحقيقيّة عبر خسارتك لحياتك البيولوجيّة الآيلة، أصلًا، للزَّوال، بالصَّليب والآلام. كلّ هذا "من أجلي ومن أجل البشارة". كلّ تضحية  بحياتنا البيولوجيّة دون هذا الهدف هي انتحار وعبث. كلّ موت وتخلٍّ لا ينطلقان من حبٍّ للرَّبِّ ولكنيسته وطاعةً له ولبشارته لن يكونا موت صليب وقيامةٍ وخلاصٍ.

 الحياة الأبديّة هي الحياة الحقيقيّة والعالم كلّه لا يُوازيها قي قيمتها والإنسان لا ينتفع شيئًا إنْ رَبِح خيرات هذا العالم الزَّائلة وخسرها. هي لا تُشتَرى بأرباح هذا العالم الَّتي يتخلّى الإنسان عن إنسانيّته ليقتنيها. هي هبة مجّانيّة مِنَ الله تُعطى لِمَنْ أحَبَّ الرَّبّ ووضع رجاءه على الخيرات الأبديّة عِبْرَ تخلّيه عن "العالم كلّه".

هذا الكلام موجّه إلى كلّ من قرّر أن يتبع يسوع في كلّ الأزمنة والأمكنة وإلى الأبد. الضيق والاضطهاد حاضران دومًا حضور الشيطان وأزلامه في هذا العالم ويتلّونان بألوان عديدة والَّذين يتراجعون عن وفائهم للمسيح في أزمنة الضيق، ونحن في أقساها اليوم دون شكّ، يتلوّنون هم أيضًا بألوان عديدة ويتعلّلون بعلل الخطايا ويخونون محبّة المسيح لهم ليكسبوا أمان هذا العالم وراحته ورفاهه مقابل خسارتهم لنفوسهم.

الصَّليب بين الصَّبر والصَّلاة

عندما نسمع كلمة "الصَّليب" يترَدَّد إلى ذهننا معاني عديدة منها: الألم، الضُّعف، العذاب، الصَّبر، الموت، كما وتعني لنا كلمة الصَّليب: النَّصر، الغَلَبة، الحياة، القُوَّة، المَحَبَّة. فكيف لكلمةٍ واحِدَةٍ أن تجمع في معانيها أضداد مُتناقِضَة، فكيف نفهم بالصَّليب معنى الموت والحياة، والانهزام والغَلَبَة، العَذاب والفرح، الضُّعف والقُوَّة و ...؟؟ يأتي الجواب في قَوْل القدِّيس بولس الرَّسول: "فَإِنَّ كَلِمَةَ الصَّليب عِنْدَ الْهَالِكِينَ جَهَالَةٌ، وَأَمَّا عِنْدَنَا نَحْنُ الْمُخَلَّصِينَ فَهِيَ قُوَّةُ اللهِ" (1 كو 1: 18).

أمّا بِخُصوص علاقة المَسيحيّ بالصَّليب فيأتي قَوْلُ الرَّبّ يسوع له المَجْد "إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي" (لو 9: 23). ذلك ليشَدِّدَ على حَمْلِ الصَّليب كضرورةٍ لاتِّباع المسيح، وعبارة "كلَّ يَوْمٍ" تعني الالتزام والصَّبر في حَمْلِ الصَّليب. فالصَّبر والتَّحمُّل والصَّليب ثلاث عبارات لِمَعْنَى واحد. فقد صبر قدِّيسونا على جميع أصناف التَّجارب والعَذابات وذاقوا الهُزْءَ والجَلْدَ والمَوْت مُعْتَبِرين ذلك حملًا للصَّليب. فقال القدِّيس بولس بعد صبرٍ كثيرٍ على عذاباتٍ وضيقاتٍ عديدة: "حاشا لي أن أفتخر إلَّا بصليبِ ربِّنا يسوع المسيح" و "حاشى لي أنْ أفْتَخِر إلَّا بأوْهاني"، مُعْتَبِرًا بذلك الصَّليب كعلامة الصَّبر والجهاد. كما وشَدَّد أباؤنا القدِّيسون على أنَّ حَمْلَ الصَّليب هو صلاة لأنَّه يحمل المعاني السَّامِيَة لجوهر الحياة المسيحيَّة. فيقول القدِّيس أفرام السُّوريّ: "بدلًا مِنْ أنْ تَحْمِلَ سِلاحًا أو شيئًا يَحْميك، اِحْمِل الصَّليب واطبع صورته على أعضائِك وقلْبِك، وارسم بـه ذاتَكَ لا بتحريك اليَدِ فقـط بل لِيَكُن بِرَسْمِ الذِّهن والفِكْرِ أيضًا، ارسمه في كلِّ مناسبةٍ: في دخولك وخروجك، في جلوسك وقيامك، في نومك وفي عملك، ارسمه باسم الآب والابن والرُّوح القُدُس". أليس هذا التَّعاطي مع الصَّليب ما نُسَمِّيهِ "الصَّلاة"؟ إنَّ المُؤمِنَ بِرَشْمِ الصَّليبِ على جَسَدِهِ والاستعانةِ به وَقْتَ الشِّدَّةِ ومُناجاته وَقْتَ الخَوْف والتَّسَلُّحِ به على كلِّ قوَّةِ العَدُوّ والاقتداء به في النَّصر كما فعل القدِّيس قسطنطين الكبير عندما رأى علامَةَ الصَّليب في السَّماء وسَمِعَ صَوْتًا يقول له: "بهذه العلامة تنتصر"، دلالةً على أنَّ الصَّليب هو صِلَتُنا ورباطُنا الوَطيد مع الله.

لذلك، نحن نحملُ صليبَ ربِّنا يسوعَ المَسيحِ في قَلْبِنا وأفكارِنا كصَلاةٍ دائمةٍ ونعيشُهُ كلَّ يومٍ في حياتٍنا إشارةً لِصَبْرِنا وثباتِنا وإيمانِنا الرَّاسِخِ أنْ لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَّا بصليبِ ربِّنا يسوعَ المسيحَ الَّذي صُلِبَ العالم لي به وأنا صُلِبْتُ للعالم.

أنقر هنا لتحميل الملفّ