Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 3 تمّوز 2022                

العدد 27

الأحد (3) بعد العنصرة

اللّحن 2- الإيوثينا 3

أعياد الأسبوع: *3: الشَّهيد ياكنثس، القدّيس أناطوليوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة *4: القدّيس أندراوس الأورشليميّ رئيس أساقفة كريت، القدّيس أندره روبلاف *5: البارّ أثناسيوس الآثوسيّ، القدّيس لمباذوس العجائبيّ *6: القدّيس سيصوي الكبير (ساسين) *7: البارّ توما الميليونيّ، القدّيسة الشّهيدة كرياكي *8: العظيم في الشّهداء بروكوبيوس، الشّهيد في الكهنة أنستاسيوس *9: القدّيس بنكراتيوس أسقف طفرومانيّة.

كلمة الرّاعي

العَيْن والقَلْب والنُّور والنَّقاوَة

”لأَنْ مِنَ الْقَلْب تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ،

سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ“ (مت 15: 19)

في إنجيل هذا الأحد، يحدِّد لنا الرَّبّ مدخل النُّور والظّلمة في الإنسان بالعَيْن، لأنّ العَيْن هي الواسطة لما في الخارج أن يدخل إلى الدّاخل ولما في الدّاخل أن يخرج إلى الخارج. لذلك، يقول: ”فإنْ كانت عينُك بسيطةً فجسدُك كلُّهُ يكونُ نَيِّرًا، وإن كانت عينُك شرّيرةً فجسدُك كلُّهُ يكونُ مُظْلمًا“، جاعلًا حالة العَيْن تعبيرًا عن ما في القلب. فالعَيْن البَسيطة هي ثمرة القلب المستَنير، والعين الشّريرة هي ثمرة القلب المُظلِم. والكتاب يقول صريحًا: ”فَوْقَ كُلِّ تَحَفُّظٍ احْفَظْ قَلْبَكَ، لأَنَّ مِنْهُ مَخَارِجَ الْحَيَاةِ“ (أم 4: 23). كيف يحفظ الإنسان قلبه بحفظ عينه أي حواسه، لأنّ العين هنا  هي واجهة التَّواصل أو الواسطة (interface) ما بين العالمَين الدّاخليّ والخارجيّ للإنسان وبالتّالي هي تمثّل الحواس بشكل عام.

المسألة المَطروحة علينا هي كيف ننظر أو كيف نرى. هذا يتعلَّق بالكَوامِن الدَّاخليّة للنَّفْس الَّتي تكشف ما في القلب. إنسان ما بعد السّقوط مملوء بالأهواء والخطايا الَّتي يُدركها والَّتي لا يُدركها، لذلك يقول كاتب المزامير: ”مِنَ الْخَطَايَا الْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي“ (مز 19: 12).

إظلام الإنسان أو استنارته مرتبطان بنقاوة القلب. ”مَنْ يَصْعَدُ إِلَى جَبَلِ الرَّبِّ؟ وَمَنْ يَقُومُ فِي مَوْضِعِ قُدْسِهِ؟ اَلطَّاهِرُ الْيَدَيْنِ، وَالنَّقِيُّ الْقَلْبِ، الَّذِي لَمْ يَحْمِلْ نَفْسَهُ إِلَى الْبَاطِلِ، وَلاَ حَلَفَ كَذِبًا“ (مز 24: 3—4). نقاوة القلب تُترجَم بطهارة اليدين مع كلّ ما يرمز إليه هذا الأمر من ابتعاد عن صنـــع الــــــشّـــرّ ومن فِعلٍ للخير. في النّهاية الأفكار ستترجم أعمالًا، والأعمال تكشف حقيقة الأفكار وبالتّالي حقيقة الإنسان الدّاخليَّة هل هي نور أم ظلمة!...

*          *          *

مبدئيًّا، ليس من إنسان طاهرًا بل الكلّ في السَّعِي، من هنا المَسيرة الرّوحيّة تبدأ بالتَّنقية وتعبر بالاستنارة ثم تتكلَّل بالمعاينة (ثاوريَّا). فلا يوجد إنسان بلا خطيئة ولو كان ابن يوم واحد، ”إذ الكلّ أخطأوا وأعوزهم مجد الله“ (رو 3: 23). والخطيئة إمّا تأتيك من الخارج إمّا تصدر من الدَّاخل. ما يأتي من الخارج أي من الفكر والعقل والحواس قابل للمُحارَبَة أكثر ممّا ينتج عن الدَّواخِل. الأفكار الَّتي تدخل عليك تستطيع أن تحاربها أكثر من الَّتي تصدر منك، فالآتية من الخارج تدخُل معها في حرب، وطالما أنّك لم تقبلها فأنت تسود عليها، وهي لن تغادرك سريعًا لأنّها تمتحن أمانتك للرَّبّ. بقاء الفكر ولجاجته ليس سقوطًا، بالعكس صمودك أمامه برٌّ عند الله ولكن إن ضعفت وقبلت الفكر تكون على شفير الهاوية وأمامك فرصة أخيرة بأن تطلب معونة الله باتّضاع  وانسحاق ولَجاجَة، إذا استيقظ ضميرك قد ينجّيك الله من تحقيق سقوطك ويرفع عنك التّجربة. مرحلة قبول الفكر الخاطئ هي مرحلة خطرة لأنّها عادةً ما تؤدِّي إلى دخوله إلى القلب واستقراره هناك حيث يتحوّل الفكر بعادة الخطيئة إلى هوًى قابض على مخارج القلب. التَّوبة بعد هذه المرحلة مسألة فيها الكثير من الألم والشَّقاء، وتحتاج إلى إرادة بشريّة صادقة وصارِمَة ونعمة إلهيّة غزيرة مع آلام ودموع وصلوات مكثّفة من الشَّخص نفسه ومن الكنيسة لكي يُختطف الإنسان من براثن إبليس الَّذي يكون قد قبض عليه مكبَّلًا من الدَّاخل والخارج...

*          *          *

أيّها الأحبّاء، من كان قلبه من الدَّاخل أمينًا جدًّا لله، لا يَخُون خالقه مع الأفكار الشِّـرّيرة أفكار الشَّهوات والغضب، ولا يفتح لها بابًا أو نافذةً من خلال الحواس في القلب، ولا يتعامل أو يتحاور معها ولا يقبلها. مَنْ سَلَكَ هكذا، يهرب منه كلّ فكرٍ شرّير وتخافه الشَّياطين... أمّا من تساهل مع الأفكار، فإنّها تجرؤ عليه...

القلب المنحرف عن الأمانة لله، أصدر عنه أفكار مصدرها رغبات أو شهوات مُعشِّشة فى القلب، وقد يكون الكثير منها مكبوتًا فى العقل الباطن أو اللَّاوعي من مشاهدات الإنسان اليوميّة وحركاته وعلاقاته. من هذا المخزون في الدّاخل تخرج الأفكار بسبب أي مُحفِّز لفكرة من الأفكار أو لصورة من الصُّوَر. لذلك، لا بُدَّ من تنقية القلب والعقل الباطن بالصَّلاة والقراءة الرُّوحيّة للكلمة الإلهيّة والآباء وبعمل التَّوبة والاعتراف وبتطهير البيئة الخاصَّة الَّتي يَحيا فيها الإنسان من خلال الابتعاد عن كلّ ما يغذّي في النّفس حرارة الشّـرّ والأهواء الغضبيّة، حين يكون خارج الأطر المفروضة عليه في العمل اليوميّ والعلاقات الخارجيّة.

لتصير العين بسيطة يجب أن يكون القلب نقيًّا، وليصير القلب نقيًّا لا بدّ أن يكون الله هو السّاكن فيه، وليسكن الله قلب الإنسان لا بُدَّ للإنسان أن ينكر ذاته ويطلب إرضاء الرَّبّ، وليطلب الإنسان إرضاء الرَّبّ يجب أن يكون حبّه موجَّهًا، أوَّلًا، نحو السّيّد ومن حبّ السّيّد، يتوجّه، ثانيًا، إلى محبّة القريب كالنّفس، وهذا كلّه يتمّمه بطاعة وصيّة المسيح.

الظُّلمة في القلب تخنق الفرح في الإنسان، والنُّور في القلب يمنحه سعادة أبديَّة. يسوع دلّنا على طريق النّور والفرح والسّلام، والطَّريق هو هو، أمّا ما هو مطلوب منّا لنسلك الطَّريق فهو أن نأخذ القرار بأن نطلب ”ملكوت الله وبرّه أوَّلًا“ ...

ومن له أذنان للسَّمع فليسمع ...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّاني)

عندما انحدرتَ إلى المَوْت. أَيُّها الحياةُ الَّذي لا يَموت. حينئذٍ أَمَتَّ الجحيمَ بِبَرْقِ لاهوتِك. وعندما أقمتَ الأمواتَ من تحتِ الثَّرى. صرخَ نحوكَ جميعُ القُوّاتِ السّماويّين. أَيُّها المسيحُ الإله. مُعطي الحياةِ المَجدُ لك.

القنداق (باللَّحن الثّاني)

يا شفيعَةَ المَسيحيّين غَيْرَ الخازية، الوَسيطةَ لدى الخالِق غيْرَ المرْدودةِ، لا تُعْرضي عَنْ أصواتِ طلباتِنا نَحْنُ الخَطأة، بَلْ تدارَكينا بالمعونةِ بما أنَّكِ صالِحَة، نَحنُ الصّارخينَ اليكِ بإيمان: بادِري إلى الشَّفاعَةِ وأسَرعي في الطّلْبَةِ يا والدَة الإلهِ، المُتشَفِّعَةَ دائمًا بمكرِّميك.

الرّسالة (رو 5: 1-10)

قوَّتي وتسبحتي الرَّبُّ       

أدبًا ادَّبني الرَّبُّ

يا إخوةُ، إذ قد بُرّرنا بالإيمانِ فلنا سَلامٌ معَ اللهِ بربِّنا يسوعَ المسيح، الَّذي بهِ حصَلَ أيضًا لنا الدُّخولُ بالإيمان إلى هذه النِّعمةِ الَّتي نحنُ فيها مُقِيمون ومفتَخِرون في رجاءِ مجدِ الله. وليسَ هذا فقط بل أيضًا نفتَخِرُ بالشَّدائِد، عالِمينَ أنَّ الشِّدَّةَ تُنشئُ الصَّبرَ، والصَّبرَ يُنشئُ الامتحانَ، والامتحانَ الرَّجاءَ، والرَّجاءُ لا يُخزي. لأنَّ محبَّة اللهِ قد أُفيضَت في قلوبِنا بالرُّوحِ القدسِ الَّذي أُعطِيَ لنا. لأنَّ المسيحَ، إذ كُنَّا بعدُ ضُعفاءَ، ماتَ في الأوانِ عن المُنافِقين، ولا يكادُ أحدٌ يموتُ عن بارٍّ، فلعلَّ أحدًا يُقدِمُ على أن يموتَ عن صالح. أمّا الله فَيدُلُّ على محبَّتِه لنا بأنَّهُ إذ كنَّا خَطأةً بعدُ مات المسيحُ عنَّا. فبالأحرى كثيرًا إذ قد بُرّرنا بدمِهِ نخلُصُ بهِ من الغَضَب، لأنَّا إذا كنَّا قد صولِحنا معَ اللهِ بموتِ ابنِهِ ونحنُ أعداءٌ فبالأحرى كثيرًا نخلُصُ بحياتِه ونحنُ مُصالَحون.

الإنجيل (متّى 6: 22-33)(متّى 3)

قال الرَّبُّ: سراجُ الجسدِ العينُ. فإنْ كانت عينُك بسيطةً فجسدُك كلُّهُ يكونُ نيرًّا، وإن كانت عينُك شرّيرةً فجسدُك كلُّهُ يكونُ مُظْلمًا. وإذا كان النُّورُ الَّذي فيك ظلامًا فالظَّلامُ كم يكون؟! لا يستطيع أحدٌ أنْ يعبُدَ رَبَّينِ لأنُّهُ إمَّا أنْ يُبغِضَ الواحِد ويُحِبَّ الآخَرَ، أو يلازِمَ الواحِدَ ويَرْذُلَ الآخر. لا تقدرون أن تعبُدوا اللهَ والمالَ. فلهذا أقولُ لكم لا تهتمُّوا لأنفسِكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا لأجسادِكم بما تلبَسون. أليستِ النَّفسُ أفضلَ مِنَ الطَّعامِ والجسَدُ أفضَلَ من اللِّباس. أنظروا إلى طيور السَّماءِ، فإنَّها لا تزرعُ ولا تحصِدُ ولا تخزُنُ في الأهْراءِ، وأبوكم السَّماوي يَقوتُها. أفلستم أنتم أفضلَ منها. ومن منكم إذا اهتمَّ يقدِرُ أنْ يَزيدَ على قامتهِ ذراعًا واحدة؟ ولماذا تهتمُّونَ باللِّباس. اعتَبروا زنابقَ الحقلِ كيف تنمو. إنَّها لا تتعبُ ولا تَغْزِل، وأنا أقولُ لكم إنَّ سليمانَ نفسَهُ في كلِّ مجدِهِ لم يلبَسْ كواحِدَةٍ منها. فإذا كان عشبُ الحقلِ الَّذي يُوجَدُ اليومَ وفي غدٍ يُطرَحُ في التَّنُّورِ يُلبِسهُ اللهُ هكذا، أفلا يُلبِسُكم بالأحرى أنتم يا قليلي الإيمان. فلا تهتُّموا قائلين ماذا نأكُلُ أو ماذا نشربُ أو ماذا نلبَسُ، فإنَّ هذا كلَّهُ تطلُبهُ الأُمم، لأنَّ أباكم السَّماويَّ يعلمُ أنَّكم تحتاجون إلى هذا كلّهِ. فاطلبوا أوّلًا ملكوتَ اللهِ وبِرَّهُ، وهذا كلُّهُ يُزادُ لكم.

حول الرّسالة

تشتمل الرّسالة اليوم على كلّ التّدبير الإلهيّ من أجلنا. فيها نقرأ عن التّبرير والإيمان والنّعمة ومحبّة الله. ولكي نفهم هذه الحقائق، لا بدّ من نظرةٍ شاملةٍ إلى التّاريخ كلّه بدءًا من جنّة عدن.

خُلِق آدم على صورة الله ومثاله وأُعطِي حرّيّة أن يُطيع أو يَعصي الله. كذلك أُعطِي وصيّةً ألّا يأكل من شجرة معرفة الخير والشّرّ. بحفظه هذه الوصيّة، كان لينمو في كمال نعمة الله المعطاة له. وبمخالفتها، كانت النّعمة ستُؤخَذ منه وسيسقط في الفساد والموت.

اختار آدم عصيان الله فأصبح عريانًا وخسر نعمة الله الّتي كانت تكتنفه. باتت طبيعته قابلةً الموت والفساد وانتقل هذا إلى ذرّيّته، ومنهم نحن. غير أنّه حافظ على صورة الله ولكن كصورةٍ ممزّقةٍ، مثل صورة الله فينا. لذلك تجسّد المسيح وأخذ جسدنا كي ينتشل الإنسان من الموت والفساد ويعيده إلى الشّركة مع الله، كما يقول بولس الرَّسول: "لأنّ محبّة المسيح تحصرنا. إذ نحسب هذا: أنّه إن كان واحدٌ قد مات لأجل الجميع، فالجميع إذًا ماتوا. وهو مات لأجل الجميع كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم، بل للّذي مات لأجلهم وقام" (2كورنثوس 14:5-15).

أمّا بالنّسبة إلينا، يقول القدّيس سمعان اللّاهوتيّ الجديد إنّنا أُعطِينا ولادةً جديدةً وأُعِيد خلقنا بالمعموديّة، ففيها نحصل على نعمة الرّوح القدس كما كانت لآدم قبل المعصية. من ثمّ أخذنا الميرون الّذي أهّلنا لأن نتناول جسد الرّبّ ودمه. نستنتج من ذلك أنّنا جُعِلنا أبرارًا فقط لأنّنا متّحدون بالمسيح. ويقول القدّيس مرقس النّاسك: "الأعمال بعينها لن تستأهل الجحيم أو الملكوت، بل إنّ المسيح يكافئ كلّ إنسانٍ إذا ما فعل أعماله بالإيمان أو من دونه، فالمسيح ليس تاجرًا مرتبطًا بعقدٍ، بل الله خالقنا وفادينا".

لعلّنا ندرك جميعنا عظمة الله وتنازله من أجلنا ومحبّته الفائقة للجنس البشريّ وللقريب ولذواتنا. وبذلك نتوق لأن نقترب من تلك المحبّة الّتي أعطتنا حياةً جديدة.

بين راعوث وإستير في العهد القديم

لكلّ من راعوث وإستير دورٌ مُهمٌّ في تاريخ الشَّعب اليهودِيّ ومَسيرة الخلاص، لهذا خُصِّصَ لكلّ واحدةٍ منهما سِفر خاص من أسفار العهد القديم.

إستير هي فتاة يهوديَّة أصبحت ملكة فارس، ودورها كان إنقاذ شعبها من الهلاك والإبادة بسبب مؤامرة خبيثة محركها هو الحسد والغيرة. نجد القصَّة كاملةً في سِفر يحمل أسمها. أمَّا راعوث فلم تكن يهوديّةً، عاشت في زمن القضاة. كانت من نساء "مُوآب" لكنّها تزوَّجتْ من رجلٍ يهوديّ، لكنّه مات لاحقًا فقرَّرتْ أن تتركَ موآب لتبقى مع حماتها "نعمي"، وتذهب معها إلى أرض يهوذا الَّتي لم تعرفها من قبل. ونجد قصّتها أيضًا كاملةً في سِفرٍ يحمل اسمها.

عندما اختيرَتْ إستير كملكةٍ، طُلِبَ منها أن تُخفي خلفيَّتها اليهوديّة لكي لا يضايقوها. كان اختيارها تدبيرًا من الرَّبّ لكي تكون هي لاحقًا، بحكم قربها من الملك وسلطتها، محامية عن شعبها المظلوم. لهذا، بالإضافة إلى كَوْنِها "جميلة الصَّورة وحسَنَةَ المنظر"، كانت مُطيعة، وجذّابة من كلّ النَّواحي، لأنّها بسبب إيمانها تعلَّمَتْ أن تُطيع وتتبع نصائح المرشدين لها رغم أنّها ملكة. نرى أيضًا أصالتها العميقة، لأنّها أبقت على صِلتها مع مردخاي الَّذي كان وصيًّا عليها بعد موت والدها. وأصالتها أيضًا نتلمّسها من تعاونها مع مردخاي لحماية الملك من أعدائه واحترامهما له، مع أنّه ليس بمَلِكٍ يهودي.

عظمة إيمانها بالرَّبّ، تتجلّى حين خاطرت بحياتها عندما قرَّرَتْ الوقوف أمام الملك من دون إذنٍ مُسبق. صَلَّتْ إلى الرَّبِّ واتّكلّتْ على رحمته، وصامَتْ هي وجواريها، لا مِن أجل نفسها، بل مِن أجل شعبها. أي أنّها ضَحَّتْ بنفسها فدية عن شعبها كلّه. وبالفعل ترأَّفَ الرَّبُّ بها وبشعبها، واستطاعَتْ أن تكشف للملك من هو الخائن الفعليّ، وانقلب كلّ شيءٍ شرّير كان يُحيكه ضِدَّ اليهود على رأسه، ونال جزاءه العادل.

هكذا نرى شجاعة إستير وإيمانها بالله الحَيّ، لأنّها تشدَّدَتْ به واستعدَّتْ للمُواجَهة من أجل شعبها. كانت أمينةً له في طاعتها وثقتها به، لهذا خدمته بتواضعٍ رغم أنّها كانت ملكة، ووَصَلَتْ أن تُقّدِّم نفسها فدية عن شعبها.

أمّا راعوث فموقفها مختلف بالكلّيَّة، لأنّها لم تكن يهوديّة أساسًا، تعرّفت على إله إسرائيل لاحقًا بعد زواجها. لهذا نرى في قصَّتِها أنّها بعد موت زوجها وأخاه تمّ تخييرها بين البَقاء مع شعبها الموآبيّ أو العودة مع حماتها نعمي. بسبب أمانتها رفضت التَّخَلِّي عن حماتها وعن إلهِهَا، وقرَّرت الذَّهاب معها وترك شعبها. فذهبا إلى يهوذا، وسكنا في بيت لحم، الَّتي سيولد فيها المسيح عند ملء الزَّمان. اشتهرت لاحقًا بأمانتها، فسُمح لها العمل في حقول أحد أقرباء زوجها الَّذي يُدْعَى"بوعَز"، الَّذي حماها من النَّاس حَوْلَها وسهّل لها العمل الَّتي كانت تقوم به. غايتها من العمل المُضني الَّذي عملت فيه، كانت أن تُعيل حماتها ونفسها. كانت تعملُ بِشَكل دؤوب، باتّضاعٍ وتقدير، وتضحية كبيرة من أجل حماتها، وهذا ما لفت انتباه بوعَز.

تمتَّعَتْ راعوث بذهْنٍ مُنفَتِحٍ وقابلٍ للتَّعلُّم، لأنّها بسبب طاعَتِها وأمانتها كانت تُصغي لنصائح حماتها وتنفِّذ ما تطلبه منها بحرفيَّتِه. وهذا ما أوصل راعوث بأن تتزوَّج من بوعَز، وأنجبت منه "عوبيد". فقد كانت نساء إسرائيل تردِّد بأنَّ هذا الولد هو ثمرة محبَّتِها وأمانتها لحماتها.

وضعت ثقتها كاملةً بالرَّبّ، فكافأها ليس فقط بأن أعطاها زوجًا، بل أيضًا بابن هو"عوبيد"، وبحفيد "يسّى"، وبابن لحفيده اسمه "داود"، ملك إسرائيل، الَّذي من نسله سيأتي المسيح. وفوق كلّ هذه العطايا، أعطاها الرَّبّ بركة كبيرة بأن تُذكر في سلسلة نسب المسيح.

رغم أنّ راعوث كانت من خلفيّةٍ وثنيّةٍ، إلّا أنّها عندما التقت بإله إسرائيل صارت شهادةً حَيَّةً عنه بالإيمان. عاشت في ظروف متواضعة جدًّا قبل أن تتزوَّج من بوعَز، لكنّها آمنت بأنّ الله دَوْمًا أمينٌ يهتمّ بأولادِهِ في الوقت المحدّد عنده وبالطَّريقة المناسِبَة لكلِّ واحِدٍ منهم، لهذا عملت بجِدٍّ وأمانة، والرَّبّ كان أمينًا تجاهها، ليس إلى جيلٍ واحدٍ، بل إلى جيلِ الأجيال.

الموضوع الجوهريّ في كلا الشَّخصيَّتَيْن هو الإيمان والثِّقة والتَّسليم للإله الحَيّ. كلّ واحدة منهما كانت من خلفيَّةٍ مُختلفة بالكلّية عن الأخرى، ولكنَّ الجَوْهَر واحد وهو الإيمان والأمانة. وأمّا الرَّبّ الإله، فله تدبيره وحكمته الَّتي لا نفهمها نحن البشر، وله وقته المناسب لتحقيق وعوده وأمانته لشعبه.

من أقوال القدّيس سيصوي الكبير

- جوابًا على سؤال وُجِّه إليه: "هل الهروب نافع للرّاهب؟"، فقال جاعلًا إصبعه على فمه: "إنْ حفِظتَ نفسك مِن هذا يا ابني، فهذا هو الهروب".

- سألوه: "كم مِن الزَّمن يحتاج الإنسان لقطع الأهواء؟"، فأجاب: "حالما تتحرّك فيك الشَّهوة اقطعها".

- سأله أخ: "كنتُ جالسًا في البَرّيّة وقَدِمَ بربريّ وأراد قتلي ولكنّني قويت عليه، فهل أقتله؟"، أجاب: "كلّا، بل سلّم أمرك لله لأنّ كلّ محنةٍ تأتي على الإنسان ليس له إلّا أن يقول: "إنّها من أجل خطاياي"!.

- سأله، مرّةً، أحد الرُّهبان: "ألم تَصِلْ، يا أبانا، إلى درجة الأنبا أنطونيوس؟"، فأجاب: "لو كانت لي واحدة فقط مِن فضائل هذا الرَّاهب، لتحوّلتُ إلى شعلة حبٍّ إلهيّ".

- قال له أحد الرُّهبان مرّةً: "يا أبي، إنّي أضع نفسي دائمًا في حضرة الله"، فأجابه القدّيس سيصوي: "خير لك يا بُنيّ أن تَضَعَ نفسك تحت كلّ المخلوقات، حتّى تكون مطمئنًّا في تواضعك".

أنقر هنا لتحميل الملفّ