Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 12 كانون الأوّل 2021                

العدد 50

أحد الأجداد القدّيسين

اللّحن 8- الإيوثينا  3

أعياد الأسبوع: *12: القدّيس اسبيريدون أسقف تريميثوس، :13* الشّهداء الخمسة إفستراتيوس ورفقته، لوكيّا البتول الشّهيدة *14: الشّهداء ثيرسُس ورفقته *15: الشّهيد في الكهنة إليفثيريوس وأمَّه أنثيّا *16: النّبي حجّي، ثاوفاني الملكة العجائبيّة *17: النّبي دانيال والفتية الثّلاثة القدّيسين، القدّيس ديونيسيوس أسقف إيِّينة *18: الشّهيد سابستيانوس ورفقته، القدّيس موذستُس أسقف أورشليم.

كلمة الرّاعي 

الاستعداد لميلاد الرّبّ 

تحضّرنا الكنيسة المقدَّسة لميلاد المخلِّص بالصّوم الأربعينيّ الَّذي يسبق العيد. ومع عيد دخول السّيّدة إلى الهيكل نبدأ بترتيل كاطافاسيّات عيد الميلاد (جمع كاطافاسيّة ومعناها ترنيمة النّزول. سُمِّيَتْ كذلك لأنّ المرتّلين في القديم كانوا ينزلون عن كراسيهم إلى وسط الكنيسة ويرتّلونها أمّا الآن فتُرَتَّل عند نزول رئيس الكهنة من قلّايته ودخوله إلى الكنيسة). وفي عيد القدّيس نيقولاوس العجائبيّ تدخل في خدم الغروب والسّحرّية قطع تتعلّق بميلاد الرَّبّ. وقبل أحدَين من العيد تضعنا الكنيسة في روح العيد وتاريخيّته من خلال أحد الأجداد وأحد النِّسبة.

*          *          *

في ذكصا الأبوستيخون لهذا الأحد نعرف أنّ أجداد المسيح المعيَّد لهم هم: ”آدم الأب الأوّل وأخنوخ ونوح وملكيصادق وإبراهيم واسحق ويعقوب“ هؤلاء هم قدِّيسو ما قبل الشّريعة. أمّا الَّذين من زمن الشّريعة وما بعدها فهُم: ”موسى وهرون. ويشوع وصموئيل. ومعهم إشعياء وإرمياء وحزقيال ودانيال والأنبياء الإثني عشر مع إيليّا وأليشع. والجميع كافّةً وزخريّا والمعمدان والَّذين كرزوا بالمسيح حياة وقيامة جنسنا“. كما يرد ذكر شيت بن آدم وأنوش بن شيت ونوح وسام بن نوح  وداود والفتية الثلاثة وساره وحنّة أمّ صموئيل ومريم أخت موسى ودبورة وراحيل ورفقة واستير وراعوث ويهوديت وغيرهم الكثير من الّذين في قطع الغروب والسَّحريّة.

أجدادنا الَّذين نعيِّد لهم، إذن، هم الَّذين نأتي منهم وبهم إلى الإيمان بابن الله المتجسِّد. هم الَّذين حصلوا على الموعد بالخلاص ابتداءً من آدم مرورًا بأبرار وأنبياء العهد القديم إلى الرُّسل والقدِّيسين. نحن كمؤمنين بالمسيح ابن الله الحيّ نأتي من هذه السُّلالة الرّوحيّة أي نحن حاملون لتراثهم الإيمانيّ بجيناتنا (gènes) الرّوحيّة الّتي من الرُّوح القدس في الكلمة الإلهيّ السّاكن فينا بنعمة الثّالوث القدّوس. هذه السُّلالة الرّوحيّة لا تنقطع لأنّ القداسة، الّتي نحن مدعوّون أن نقتنيها، نأخذها أيضًا بتكويننا الرّوحيّ وولادتنا الجديدة في الكنيسة المقدَّسة.

أجداد المسيح، أي سلالته الرّوحيّة، أتَوا منه مع أنّه أتى بالجسد بعدهم لكنّه هو الَّذي جعلهم ذرّيته المقدَّسة يوم خاطبهم في الرّوح بالكلمة وقادَهم في الطّريق... نحن أيضًا نأتي منهم وتاليًا من المسيح، وعلينا بدورنا أن نصير أجدادًا في الإيمان لغيرنا أي أن نصير حاملين لوعد الله في حياتنا وكارزين به لغيرنا. من هنا، التّحضير لميلاد الرَّبّ، مع أنّه حصل في التّاريخ قبل تجسُّده إلّا أنّه يستمرّ مع الكنيسة بعد التّجسُّد، ليصير المؤمنون به بدورهم أجدادًا وآباءً بالرُّوح والإيمان لمن يأتي بعدهم. الأساس في هذه السُّلالة والذرّيّة الرّوحيَّة هو الإيمان بابن الله المتجسِّد والمولود في ”ملء الزّمان“ من البتول مريم والدة الإله.

*          *          *

أيُّها الأحبَّاء، مع أنّ الإنسان خُلِق من العدم إلّا أنّه لا يأتي من العدم بل من الله من خلال ذرّيته أي المسيح بواسطة سلالته الرّوحيّة أي أبرار وأنبياء وقدِّيسي ورسل العهد القديم والعهد الجديد. أجدادنا وآباؤنا بالرّوح هم الَّذين أطاعوا الله في كلمته إذ أخضعوا ذواتهم لروحه القدّوس فسلكوا في الطّريق الَّذي رسمه لهم الرَّبّ. هكذا شاركوا في مشروع الله الخلاصيّ الَّذي أتمّه المسيح ابن الله المتجسِّد.

اتّباع الرّبّ ليس مسألة سهلة لأنّ الأمانة مطلوبة له فوق كلّ شيء، ولكن هو يعطي قوّة لمن يطيعه ليتمّم مشيئته. نتعلّم من هؤلاء الأجداد والآباء روح التّوبة والثّقة بالله الكلّيّة الَّتي اقتنوها خلال مسيرة جهادهم وراء الرَّبّ. هم تخلّوا عن الغالي والرّخيص فقط ليُرضوا من أحبّهم، ليعبّروا له عن حبّهم له الَّذي هو الحبّ الوحيد وأساس امتدادهم نحو الحياة والشّهادة للحقّ. هؤلاء رغم سقطاتهم إلّا أنّهم ثبتوا في حياتهم مع الرَّبّ فصاروا له شهودًا وشهداء.

ما أخذناه من أجدادنا وآبائنا في الإيمان بالمسيح ثمنه دماؤهم الَّتي غسلها الرَّبّ بدمائه الّتي غسل بها خطاياهم وخطايانا وخطايا البشريّة قاطبة، ليصير هو في الكلّ وللكلّ حاملًا الكلّ لأجل مجد الله بخلاص البشريّة والخليقة وتحريرها فيه وبه وله.

لا يحقّ لنا أن نستهين أو نستخفّ بما وُهبناه من الله في مختاريه لكي نصير بدورنا حاملين هذا الإرث وناقلينه عبر عيشنا لسرّ النّعمة الَّذي وُهبْناه بالإله ”الظّاهر بمشيئته طفلًا جديدًا وهو الإله الَّذي قبل الدّهور“.

ومن له أذنان للسَّمع فليسمع...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّامن)

انحدرتَ مِنَ العُلوِّ أَيُّها المُتحنِّن. وقَبِلتَ الدَّفنَ ذا الثّلاثةِ الأيّام. لكي تُعتقَنا مِنَ الآلام، فيا حياتَنا وقيامتَنا يا رَبُّ المجدُ لك.

طروباريّة القدّيس اسبيريدونس العجائبيّ (اللّحن الأوّل)

لقد ظهرتَ عن المَجمَع الأوّل مناضلًا، وللعجائبِ صانعًا يا أبانًا اسبيريدونُس المتوشِّح بالله، فلذلك خاطبتَ الميتة في اللَّحد، وحوّلتَ حيَّة إلى ذهب، وعند تَرتيلكَ الصَّلوات المُقدَّسَة، كانت لكَ الملائكة شركاء في الخدمة أيُّها الكُلِّيُّ الطُّهر، فالمَجدُ  للّذي مجَّدكَ، المَجدُ للّذي كَلَّلَكَ، المَجدُ للفاعِلِ بكَ الأشْفيةَ للجميع.

طروباريّة الأجداد (باللّحن الثّاني)

لقد زكّيتَ بالإيمان الآباءَ القُدَماءَ، وبِهِم سبقتَ فخطبتَ البيعة الّتي من الأمم. فلْيفتخرِ القدّيسون بالمجد، لأنْ مِن زَرْعهم أَيْنَعَ ثمرٌ حَسيبٌ، وهو الّتي ولدَتْك بغير زرعٍ. فبتوسُّلاتهم أيُّها المسيح الإله ارحمنا.

قنداق تقدمة الميلاد (باللّحن الثّالث)

اليومَ العذراءُ تأتي إلى المَغارة لِتَلِدَ الكلمةَ الّذي قبل الدّهور ولادةً لا تُفسَّر ولا يُنطق بها. فافرحي أيّتها المَسكونة إذا سمعتِ، ومجِّدي مع الملائكة والرُّعاة الّذي سيظهر بمشيئته طفلًا جديدًا، وهو إلهُنا الّذي قبل الدّهور.

الرّسالة (أف 5: 8-19)

يَفتخِرُ الأبرارُ بالمَجْدِ           

رنِّمُوا للرَّبِّ ترنيمةً جديدة

يا إخوةُ، اسلكوا كأولادٍ للنُّور، فإنَّ ثَمَرَ الرُّوحِ هوَ في كلِّ صَلاحٍ وبِرِّ وحَقّ، مُختَبِرين ما هُوَ مَرْضِيٌّ لدى الرَّبّ. ولا تشترِكوا في أعمال الظُّلمة غيرِ المُثمرةِ بل بالأحرى وَبِّخوا عليها، فإنَّ الأفعالَ الّتي يفعَلونها سِرًّا يقبُحُ ذكرُها أيضًا، لكنَّ كلَّ ما يُوبَّخُ عليهِ يُعلَنُ بالنُّور، فإنَّ كلَّ ما يُعلَنُ هو نورٌ. ولذلك يقولُ استيقظْ أيُّها النّائمُ وقُمْ من بينِ الأمواتِ فيُضيءَ لكَ المسيح. فانظُروا اذَنْ أن تَسلُكوا بِحَذرٍ لا كجُهلاءَ بل كحُكماءَ مُفْتدِين الوقتَ فإنَّ الأيّامَ شرّيرة. فلذلك لا تكونوا أغبياء بل افهموا ما مشِيئةُ الرَّبّ. ولا تَسْكَرُوا بالخَمرِ الّتي فيها الدَّعارَةُ بل امتلئوا بالرُّوحِ، مُكلِّمين بعضُكم بعضًا بمزاميرَ وتسابيحَ وأغانيَّ روحيّةٍ، مُرَنِّمين ومُرَتّلين في قلوبِكم للرَّبّ.

الإنجيل (لو 14:  16– 24)(لوقا 11)

قال الرَّبُّ هذا المثل: إنسانٌ صنع عشاءً عَظيمًا ودَعا كثيرين، فأرسل عبدَهُ في ساعة العشاءِ يقولُ لِلمَدعُوِّينَ: تعالَوا فإنَّ كُلَّ شيءٍ قد أُعِدّ. فَطَفِقَ كُلُّهُم واحدًا فواحدًا يستَعفُون. فقال لهُ الأوّلُ: قد اشتريتُ حقلًا ولا بدَّ لي أن أخرجَ وأنظرَهُ، فأسألُكَ أن تُعفِيَني؛ وقال الآخَرُ: قدِ اشتريتُ خمسةَ فَدادِينِ بَقَرٍ وأنا ماضٍ لأجَرِبَها، فأسألُكَ أن تُعفِيَني؛ وقال الآخَرُ: قد تزوَّجتُ امرأةً، فلذلك لا أستطيعُ أن أجيء. فأتى العبدُ وأخبرَ سيِّدَهُ بذلك، فحينئذٍ غضِبَ ربُّ البيتِ وقال لِعَبدِه: اخرُجْ سريعًا إلى شوارع المدينةِ وأزقَّتِها، وأَدخِلِ المساكينَ والجُدْعَ والعُميان والعُرجَ إلى ههنا. فقال العبدُ: يا سَيّد، قد قُضيَ ما أَمرتَ بهِ ويَبقى أيضًا مَحلّ، فقال السَّيِّدُ لِلعبد اخرُج إلى الطُّرقِ والأسيْجَةِ واضطَرِرْهم إلى الدّخولِ حتّى يَمتلئَ بيتي، فإنّي أقولُ لَكُم إنَّه لا يَذوقُ عشائي أحدٌ مِن أولئك الرّجالِ المدعُوّين. لأنَّ المدعُوّين كثيرون، والمختارين قليلون.

حول الإنجيل

الدَّاعي والمدعوُّون

تضعُ الكنيسةُ أمامَنا، قبل أيّامٍ قليلة من عيد الميلادِ المَجيد، مَثَلَ العشاءِ العظيم الّذي أعطاه يسوعُ، والمَذكور في الإصحاح الرّابع عشر من إنجيل لوقا. هو مَثَلٌ قِيل مرَّةً، لكنَّنا نَحياهُ ونختبرُه كلَّ يومِ أحدٍ، وكلَّ قدَّاسٍ إلهيّ، والّذي هو عشاءُ الرَّبّ المُقدَّس والمُقدِّس.

الرَّبُّ في المثَل، صاحبُ العشاء وصانعُه (لو 14: 16). هو العشاءُ نفسُه، وهو أيضًا الدَّاعي. هو "المقرِّبُ والمقرَّب، القابلُ والموزَّع"، كما ندعوه في ليتورجيّتنا.

في المثَل، أخذَ المدعوُّون يستَعْفون، بعد الدَّعوة، ولكلّ واحدٍ حجَّتُه. أمّا في القدّاس، فيدعو الكاهنُ المؤمنين، كما العبدُ في المثَل، إلى الاشتراك في هذا العشاء الإلهيّ، فيجيبُ المؤمنون، لا بحججٍ تفصلُهم عن الاتّحاد بالرّبّ، إنّما بِقَوْلِهم: "إقبلني اليوم شريكًا لعشائكَ السّريّ يا ابن الله...".

هذه الخبرةُ - خبرةُ الاتّحاد بالله من خلال المناولة المقدّسة- لم تكن لتتحقّق، ما لم يتّخذ ابنُ الله منَ الإنسانِ له جسدًا؛ وما لم يَصِرْ ابنُ الله ابنًا للإنسان، حتّى يجعلَ ابنَ الإنسان ابنًا لله. لهذا تضعُ الكنيسةُ هذا المثَل الإنجيليّ، قبل أيّامٍ من عيد الميلاد المجيد، لِكَوْنِ الإفخارستيّا، ثمرة التّجسّد.

هذه الخبرة مهدّدة دائمًا. وأمام عيشها بعمقٍ، عراقيلُ عديدة وأصنام.

أوّلًا، صنم العادة: وهو ألَّا نَحْيا من العيد سوى عاداته: اللِّباس، الأكل والشّرب والصّور... فنعلق في قشور العيد، ولا نختبر عمقَه وجوهره.

ثانيًا، صنم العبادة: وهو أن نحصر العيدَ بالعبادة؛ أي في الطُّقوس والتَّرانيم والصّلوات والأصوام، من دون أن تساعدنا هذه في عمليّة تبدّلنا وتجديدنا؛ "قلبًا نقيًّا اخلقْ فيَّ يا الله، وروحًا مستقيمًا جدِّدْ في أحشائي" (مز12:50). فإن لم نتغيّر ونَزِد حبًّا لله وخَليقته، نكون في العبادة أو العادة، لا في الحبّ؛ ولا يجدِّدنا سوى الحبّ.

ثالثًا، صنم التّاريخ: وهو أن نعيّد وكأنّنا نُحيي مجرّد تذكارٍ لتجسُّد ابنِ الله، قبل ألفَي عام؛ فنحصر الحدثَ في التّاريخ.

وَعَتِ الكنيسة خطورةَ هذا الأمر، فشدّدتْ في أغلب ترانيمها على أنّ ما نختبره اليوم، هو نفسه ما اختبره التّلاميذ مع يسوع منذ أكثر من ألفَي سنة. لذا تراها تبدأ أعظمَ التّراتيل بعبارة: "اليوم"؛ "اليوم يُولد من البتول... اليوم العذراء تأتي إلى المغارة... اليوم البتول تلدُ الفائقَ الجوهر... اليوم يُعلّق على خشبة... اليوم يوم القيامة...". فما صار مرةً في التّاريخ، نعيشُ نحن صداه – نِعَمَه وبركاتِه، كلّ يوم: "ذوقوا وانظروا ما أطيبَ الرّبّ، لأنّه إذ قد صار سابقًا مثلنا لأجلنا، مُقدِّمًا ذاته مرّة واحدة قربانًا لأبيه، فهو يُذبَح دائمًا مقدّسًا الّذين يتناولونه" (من صلاة المطالبسي).

أمّا الصَّنم الرّابع والأخطر، فهو صنم "الأنا". فإنْ لم يكن صاحبُ العيد سيّدَ العيد، وسيّدَ حياتنا وقلوبنا، وبقيت الأنا مركز حياتنا، ستكون حياتنا نزهةً إلى اللّامكان؛ مضيعةً للوقت، وخسارة للوعود.

ما نحياه اليوم، استثنائيّ. بالتّالي، ما يجب أن تكون عليه تصرّفاتنا استثنائيّ أيضًا. فإنْ أردنا بصدقٍ أن نختبر عيدًا، علينا أن نختبر أوّلًا ما نصلّيه كلَّ يوم، وبعد كلِّ طلبة، أي أن "نُودِعَ ذواتنا، وبعضنا بعضًا، وكلّ حياتنا، للمسيح الإله".

النُّذور الرُّهبانيّة

النُّذور الرُّهبانيّة، "الطّاعَة، العفّة والفقر"، هي أكثر من مبادئ رهبانيّة، إنّها قواعد نسكيّة هدفها شفاء الإنسان الدّاخليّ للرّاهب. هذه النُّذور الثّلاث، تشفي الأهواء الثّلاثة الّذي يعتبرها الآباء الأهواء الّذي تعذّب الإنسان منذ ولادته؛ والّذي هي مبدأ وأصل كلّ الأهواء الأخرى، أي محبّة اللَّذّة أو الشّهوة الجسديّة، محبّة المال، وأخيرًا، الغرور أو المَجد الباطِل. العفّة تشفي اللَّذّة الحِسيّة، عدم القنية يشفي محبّة المال، والطّاعَة تشفي هوى المجد الباطل. ومن الجهاد ضدّ هذه الأهواء يصل الرّاهب إلى شفاء هوى محبّة الذّات الّذي هو العلّة غير المنظورة لكلّ ما يُسمى هوى.

الطّاعَة، هي أساس الرَّهبنة وهي أولى جهادات الرّاهب، لأنّها مبدأ كلّ نموّ روحيّ. إنّها نوع من شهادة غير دمويّة أن يبيع الإنسان مشيئته الخاصّة باستمرار، ليُطيع أبًا روحيًّا، يُطيع بدوره تقليد الكنيسة وإيمانها وقوانينها. ففي هذه الطّاعَة إنكار لمحبّة الذّات والتَّحرُّر من الأنانيّة البغيضة. هدف الحياة الرُّهبانيّة هو شفاء إرادتنا الضَّعيفة، الّتي هي، في حالتها الحاضرة، معادية لله ومشيئته بسبب تحكّم الأنانيّة والشّهوة بها. عبر الطّاعَة الكاملة، تتّحِد مشيئة الإنسان بمشيئة الله، كما اتّحدت مشيئة المسيح البشريّة، بخضوعها الطَّوعيّ، لمشيئته الإلهيّة. لهذا، الطّاعَة للأب الرّوحيّ والتّخلّي عن كلّ مشيئة ذاتيّة، هي الوسيلة الوحيدة الّذي تشفي إرادة الإنسان وتطهّرها، بفعل هذا الاتّحاد، وتجعلها قادرة على أن تعمل إرادة الله بحرّيّة. لا يمكن لأحد متمسّك بمشيئته الذّاتيّة، أن يعرف مشيئة الله في حياته ويعمل بها.

لهذا السّبب بالذّات، الطّاعَة الرُّهبانيّة وتسليم المشيئة الذّاتيّة، لا يعني عبوديّة أو هدم للإرادة الحرّة، إنّما تقوية هذه الإرادة وإصلاحها. سقوط الإنسان الأوّل كان عمل مشيئته الذّاتيّة. وخلف عمل المشيئة الذّاتيّة تختفي أهواء التّكبّر والأنانيّة. بالطّاعَة ينهزم هذا الكبرياء المقيت للنَّفس الّذي اعتادت العصيان وإدانة الآخرين، ليحلّ مكانها التّواضع ونقاوة الفكر، حيث لا خلاص من دونهما.

هناك حكمة رهبانيّة تقول، من الطّاعَة يأتي التواضع، ومن التواضع الصلاة، ومن الصلاة التكلّم باللاهوت.

الطّاعَة الحقيقيّة تستمدّ قوّتها من الطّاعَة لتقليد الكنيسة وإيمانها. من هذا التّقليد يستمدّ الرّاهب كلّ استقامة مسيرته نحو الله، لأنّ من لا يُطيع في الحقّ لن ينال أيّة نعمة أو بركة من طاعته، لا بل تتحوّل إلى طاعة لإبليس.

الفقر أو عدم القنية، هو أن يعيش الرّاهب بتجرُّد مطلق عن كلّ الأشياء الأرضيّة. الدّير هو الّذي يؤمّن للرّاهب كلّ حاجاته. كلّ حياة الرّاهب فيها فقر، بمعنى أنّه يأخذ لنفسه فقط ما هو ضروريّ من أجل معيشته؛ يأكل ويلبس حسب حاجته، من دون رفاهيّة. هذا الفقر يُعتق الرّاهب من الاهتمامات المعيشيّة، وهذا يُساعده في أمرَيْن: في عدم التّعلُّق بشيء على هذه الأرض؛ وبأن يصلّي بنقاوة ودون تشوّش. هاتان الفضيلتان لا بدّ منهما في مسيرة الرّاهب إلى الكمال الرُّوحيّ. طالما يوجد شيء على هذه الأرض لا نستطيع التَّخلّي عنه فنحن خاضعين أو حتّى مُستعبَدين له. لهذا، عدم القنية يحرّر الإنسان من جذور الشَّرّ في داخله (1 تيم 10:6).

العفّة، لا تعني فقط تخلي الرّاهب عن الحياة الزّوجيّة، إنّما هي جهاده الدّاخليّ لأجل عفّة النّفس الكاملة بعد غلبة كلّ نزوات الجسد. فالعفّة الحقيقيّة لا تتعلّق فقط بالجسد، إنّما تنمو لتطال عفّة النّفس والأفكار؛ ولا تُقتنى إلا بالنُّسك والصِّراع ضدّ كلّ فكر أهوائيّ. هدف العفّة هي محبّة الله. كلّما تطهّرت حواسّ الانسان الدّاخليّة، كلّما استطاع أن ينمو في محبّة نقيّة لله. فعلامة العذريّة الكاملة تظهر في فيض محبّة لله لا توصف، كما كانت حالة العذراء والدة الإله. إنّ الاستسلام للشّهوات يقتل في الإنسان كلّ شهوة لله وللفضيلة. الشَّهوة الجسديّة ليست كما يُروج لها العالم اليوم، حاجة يجب أن نشبعها. صحيح أنّها مزروعة في طبيعتنا، لكن هدفها هي أيضًا أن تتطهّر وتصير شهوة روحيّة مرتبطة برَوْحَنَة الجسد. يُحقّق الرّاهب المُجاهد رَوْحَنَة جسده بالنُّسك والفضيلة. الأصوام والصَّلوات المُستمِرّة وتعب الجسد هي الوسائل الوحيدة للسَّيطرة على هذه الشَّهوة، والتَّحرُّر منها كلّيًّا. يبقى أنّ بلوغ حالة اللّاهوى هي عطيّة من النِّعمة الإلهيّة: أن تكون الشّهوة موجودة لكن ألّا تتحرّك إطلاقًا أهوائيًّا، إنّما تتحوّل حركتها لاشتهاء الإلهيّات. وهكذا يحقّق الإنسان عفّة كالملائكة، الحالة الّذي كان الله قد خلقنا عليها في البدء.

بحسب آبائنا القدّيسين، توجد فضيلة أساسيّة ينبغي أن ترافق البتوليّة وهي التّواضع، لأنّ التكبّر يأتي بشيطان الزِّنى.

النُّذور الرُّهبانيّة هي أبديّة، يمكن للكنيسة أن توافق على طلاق زوجين لكن لا يمكن أن توافق على فكّ راهب نذوره الرُّهبانيّة.

أنقر هنا لتحميل الملفّ