Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 29 آب 2021

العدد 35

الأحد (10) بعد العنصرة      

اللّحن 1- الإيوثينا 10

أعياد الأسبوع: *29: تذكار قطع رأس يوحنّا المعمدان (صوم كامل)، *30: القدِّيسون ألكسندروس ويوحنَّا وبولس الجديد بطاركة القسطنطينيَّة *31: تذكار وضع زنَّار والدة الإله *1: الأنديكتي (ابتداء السَّنة الكنسيَّة)، البارّ سمعان العاموديّ، الصِّدِّيق يشوع بن نون وذكر الحريق الكبير، الشَّهيد إيثالا، القدّيسات النّسوة الأربعين ومعلّمهنّ عمون الشّماس، القدّيسة الشّهيدة كاليستي وأخويها، تذكار جامع لوالدة الإله الفائقة القداسة في مياسينا *2: الشَّهيد ماما، يوحنَّا الصَّوَّام بطريرك القسطنطينيَّة *3: الشَّهيد في الكهنة أَنْثِمُس أسقف نيقوميذية، البارّ ثيوكتيستوس، القدِّيسة فيـﭭـي، نقل عظام القدِّيس نكتاريوس *4: النَّبيّ موسى معايِن الله، الشَّهيد بابيلَّا أسقف أَنطَاكِيَة وتلاميذه الثَّلاثة.

كلمة الراعي

بدء السّنة الكنسيّة والقدّيس سمعان العاموديّ

بدء السّنة الكنسيّة الجديدة  اقترن، عبر التّاريخ، بتدبير إداريّ إمبراطوريّ كان يقضـي بجمع الجزية في شهر أيلول قبل الشّتاء لدفع نفقات الجنود،  واعتباراً من القرن الرّابع الميلاديّ كانت السّنوات تُحسب بحسب دورة ماليّة من السّنين تدعى "إنديكتيون" ومدّتها 15 سنة، لها علاقة بجباية الضّرائب حيث يُعاد فيها تخمين الأملاك الضّريبيّة. شهر أيلول هو أيضًا شهر جمع الأثمار والحبوب إلى المخازن، والتّحضير لإلقاء البذور، في الأرض، من جديد. وتقرأ الكنيسة بهذه المناسبة المقطع الإنجيليّ الَّذي يتحدّث عن القراءة من إشعيا النّبيّ الّتي تلاها الرّبّ في مجمع النّاصرة والّتي تقول: "روح الرَّبّ عليّ لأنّه مسحني لأبشـِّر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعُمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرّيّة وأكرز بسنة الرَّبّ المقبولة"  (لو 4: 18 - 19). وهكذا صار الأوّل من ايلول، الّذي هو بدء السّنة بحسب التّقويم اليوليانيّ، ذكرى بداية السّنة الكنسيّة الّتي، بنعمة الله، تتقدَّس فيها الخليقة والمواسم الزّراعيّة، وتُبارَك بالدّخول في "سنة الرّبّ المقبولة".

*          *          *

تُعيّد الكنيسة المقدَّسة أيضًا في الأوّل من أيلول للقديس العظيم سمعان العاموديّ الَّذي ولد حوالي العام 392 للميلاد في قرية اسمها صيص، بين سوريا وكيليكيا. نشأ في بيتٍ فقير تقيّ. وكبر  على رعاية الأغنام متابعًا مهنة أبيه. التحق سمعان بدير للرّهبنة وهو في سنّ الخامسة عشر. في الدّير فتح سمعان عينيه على أصول الحياة الرّهبانيّة. وكان مطيعًا أكثر من أقرانه. ميله الشّديد إلى حياة أكثر تقشفًا  دفعه إلى عيش حياةً نسكيةً قاسيةً جدًّا، ممّا دفع رئيس الدّير إلى إبعاده خشيةً على الرّهبان من الوقوع في تجاربٍ بسبب تفوّقه عليهم في حياة الجهاد الرّوحيّ. أخيرًا، هرب سمعان من منسكه الجديد بسبب توافد النّاس عليه وخوفًا  من إكرام النّاس ولئلّا يضيّع ما اقتناه بنعمة الله في كلّ هذه السّنين من روح الصمت إلى روح الصّلاة النّقيّة. لذا، هرب إلى الجبال، واتّخذ لنفسه قاعدة عمود صعد عليها مقيمًا ومصلّيًا. بسبب توافد الجموع إليه من جديد أخذ يرفع العمود قليلًا قليلًا. وبارتفاع العمود كان سمعان يرتفع في مراقي النّور الإلهيّ، إلى إن بلغ علو العمود ستّة وثلاثين إلى أربعين ذراعًا. هكذا، عاش سمعان أكثر من ثلاثين سنة على العامود متخطّيًا بالنّعمة الإلهيّة برد الشّتاء القارص وحرّ الصّيف الحارق. اعتاد أن يقضي ليله كلّه وقسمًا من نهاره في الصَّلاة. رقد في الرّبّ على العامود في اليوم الأوّل من شهر أيلول من العام 461 م.، أو ربّما من العام 459. وقد بقي ثلاثة أيّام جاثيًا على ركبتيه قبل أن يكتشف أحد أنّه رقد. ظنّوه غارقًا في صلاته، فلمّا صعدوا إليه ليسألوه عن سبب صمته وجدوه ميتًا.

*          *          *

في الكنيسة، الزّمن الجديد هو زمن القداسة، والقداسة درب جهاد نسكيّ للمتزوّجين والعائشين في العالم، وللمتبتّلين. يتعلمّ الإنسان في النّسك أن يشكر الله على عطاياه وخليقته، ويعيش معها وفيها ولها كحارس وحافظ (كما كان آدم في الفردوس قبل السّقوط). النُّسك هو التّدرّب على عيش الفضيلة أي محاربة للأهواء، والأهواء بطبيعتها فمويّة أي استهلاكيّة واتّحاديّة أو توحيديّة. من هنا، النّسك هو الانفطام عن العالم، كحاجة نُستَعبدُ لها، والانتقال إلى تعاطي الوجود كعطيّة حبّ تكشف لنا مصدرها (الله) كشخص وكآخَر، منفصل عنّا ومتمايز، يحبّنا ويهبنا ذاته في شركة حبّه لنا ليُدخِلنا في حياته ونُدخله في حياتنا كجواب على حبّه لنا، كونه ”أحبّنا أوّلًا“.

النّموذج النّسكيّ الاستثنائيّ، للقدّيس سمعان العاموديّ، إن دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّه أدرك أنّ وجوده وحياته هما عطيّة من الله، وأنّ العالم وما فيه لا قيمة لهم ما لم يتقبّلهم كهديّة حبّ لتشبيك رباط الوحدة بينه وبين الله الخالق. من هنا، استطاع أن يتحرَّر من حاجته إلى العالم، لأنّه عرف أنّ الحاجة إنّما هي ”إلى واحد“. من هنا يأتي الشّكر والتّمجيد لله على كلّ ما يعطينا وما لا يعطينا، لأنّه مصدر كلّ خير وبركة ونعمة في حياتنا وهو مصدر وغاية وجودنا.

هكذا يلتقي عيد رأس السّنة الكنسيّة ومباركة غلّات الأرض ومواسمها مع عيد القدّيس سمعان العاموديّ، ليشكّلا حلقة واحدة من الشّكر والتّمجيد وطلب البركة والنّعمة الإلهيّتين للدّخول في سرّ التّجدُّد الرّوحيّ بالتّوبة كعيد دائم للدّخول في الزّمن الجديد، زمن اللّازمن، زمن ملكوت السّماوات، أي المسيح الَّذي في داخلنا.

أيها الأحبّاء، يُنعم الرّبّ علينا في كلّ يوم بفرصة لحياة جديدة فيه إذ ما تجاوبنا مع نداء حبّه وتُبْنَا إليه ليتوب إلينا ويهبنا في كلّ زمن توبة حياة جديدة وزمنًا جديدًا من العيش معه ومع كلّ إنسان ومع خليقته في سرّ حِفظ عطيّته وحراستها وإنمائها لرفعها إليه بالشّكر والتّمجيد في مسيرة تغيّرنا بنعمته ذبيحة حبّ بموتنا عن كلّ ما ليس منه وذبيحة تسبيح برفعنا الحمد لاسمه على كلّ شيء...

ومن له أذنان للسّمع فليسمع...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن الأوّل)

إنَّ الحجرَ لما خُتِمَ مِنَ اليَهود. وجَسَدَكَ الطّاهِرَ حُفِظَ مِنَ الجُند. قُمتَ في اليومِ الثّالثِ أَيُّها المُخلِّص. مانِحًا العالمَ الحياة. لذلكَ قوّاتُ السّماوات. هتفوا إليكَ يا واهبَ الحياة. المجدُ لقيامتِكَ أَيُّها المسيح. المجدُ لِمُلكِكَ. المجدُ لتدبيرِكَ يا مُحبَّ البشرِ وحدك.

طروباريّة قطع رأس يوحنّا المعمدان (اللّحن الثّاني)

تذكار الصِّدّيقِ بالمَديح، أمّا أنتَ أيّها السّابق فتَكفيكَ شهادَةُ الرَّبّ، لأنّك ظهرتَ بالحقيقة أشرفَ من كلّ الأنبياء، إذ قد استأهلتَ أن تُعَمِّدَ في المَجاري مَنْ كَرَزُوا هم به. ومن ثَمَّ إذ جاهدتَ عن الحقِّ مسرورًا، بشّرتَ الّذين في الجحيم بالإلهِ الظّاهرِ بالجسد، الرّافعِ خطيئةَ العالم، والمانحِ إيّانا الرّحمة العظمى.

قنداق ميلاد السَّيِّدَة (باللَّحن الرَّابِع)

إنَّ يُواكِيمَ وحنَّةَ من عارِ ﭐلعُقْر أُطْلِقَا، وآدمَ وحوَّاءَ قد من فسادِ ﭐلموت، بمولِدِكِ ﭐلمُقَدَّس أيَّتها الطَّاهِرَة، أُعْتِقَا، فله أيضًا يُعَيِّدُ شعبُكِ إذ قد تَخلَّصَ من وَصْمَةِ الزَّلَّات، صارِخًا نحوكِ، العاقِرُ تَلِدُ والدةَ ﭐلإله ﭐلمُغَذِّيَةَ حياتَنَا.

الرّسالة (أع 13: 25-33)

يفرح الصِّدِّيق بالرَّبِّ            

استمعْ يا الله لصوتي

في تلك الأيّام لمَّا بلغَ يوحنَّا قضاءَ سَعيِه طفِقَ يقولُ: مَن تَحسَبون أنّي أنا؟ لستُ أنا إيَّاهُ. ولكنْ هوذا يأتي بعدي من لا أستحقُّ أن أحُلَّ حذاء قدَمَيه. أيُّها الرِّجالُ الإخوةُ بني جِنسِ ابراهيمَ والّذين يتَّقون الله بينكم، إليكم أُرسِلتْ كلمةُ هذا الخلاص لأنَّ السَّاكنينَ في أورشليمَ ورؤساءَهم، من حيثُ إنَّهم لم يَعرِفوهُ ولا أقوالَ الأنبياء الّتي تُتلى في كلِّ سبتٍ. أَتمُّوا بالقضاءِ عليهِ. ومع أنَّهم لم يجدوا عليهِ ولا علَّةً للموتِ طلبوا من بيلاطسَ أن يُقتل. ولمَّا أتمُّوا كلَّ ما كُتبَ عنهُ أنزلوهُ عن الخشبةِ ووضعوهُ في قبرِ. لكنَّ الله أقامهُ من بينِ الأموات. وتراءَى أيامًا كثيرةً للّذين صَعِدوا معهُ من الجليل إلى أورشليمَ وهم شُهودٌ الآنَ عند الشَّعب. ونحن نبشِرُكم بالموعِدِ الّذي كان للآباء بأنَّ الله قد أتَّمهُ لنا نحنُ أولادَهم إذ أقامَ يسوعَ.

الإنجيل (مر 6: 14-30)

في ذلك الزّمان سمِع هيرودس الملكُ بخبر يسوعَ (لأنَّ اسمَهُ كان قد اشتُهر)، فقال إنَّ يوحنّا المعمدانَ قد قام من بين الأموات. من أجل ذلك تُعمَلُ بهِ القوَّات، وقال آخَرون إنَّهُ ايليَّا وآخَرون أنَّهُ نبيٌّ أو كأحدِ الأنبياء. فلمَّا سمع هيرودسُ قال إنَّما هذا هو يوحنَّا الّذي قطعتُ أنا رأسَهُ. انَّهُ قد قام من بين الأموات. لأنَّ هيرودسَ هذا نفسَهُ كان قد أرسلَ وأمسك يوحنّا وأوثقهُ في السِّجن من أجل هيروديَّا امرأةِ أخيهِ فيلبُّسَ لأنَّهُ كان قد تزوَّجها. فكان يوحنّا يقول لهيرودسَ انَّهُ لا يحِلُّ لك أن تكون لك امرأة أخيك. فكانت هيروديَّا حانِقةً عليهِ تُريد قتلهُ فلم تستطِع. لأنَّ هيرودس كان يخاف من يوحنّا لعلِمهِ بأنَّهُ رجلٌ بارٌّ وقديسٌ ويحافِظ عليهِ. وكان يصنع أموراً كثيرةً على حسبِ ما سمع منهُ وكان يسمعَ منهُ بانبساطٍ. ولمَّا كان يومٌ موافِقٌ وقد صنع هيرودس في مولدهِ عشاءً لعُظَمائهِ وقوَّادِ الألوفِ وأعيانٍ الجليل، دخلت ابنهُ هيروديَّا هذه ورقصتْ فأعجبتْ هيرودسَ والمتَّكئين معهُ. فقال الملك للصّبيَّة اطلبي منّي مهما أردتِ فأُعطِيَكِ وحَلَفَ لها أنْ مهما طلبتِ منّي أُعطيكِ ولو نصفَ مملكتي. فخرجت وقالت لأمهّا ماذا أطلب؟ قالت: رَأسَ يوحنّا المعمدان. وللوقت دخلتْ على الملكِ بسرعةٍ وطلبت قائلةً: أُريدُ أنْ تُعطِيَني على الفور رأسَ يوحنّا المعمدان في طبقٍ. فاستحوذَ على الملكِ حُزنٌ شديد، ولكنَّهُ من أجلِ اليمينِ والمتَّكئين معهُ لم يُرد أنْ يَصُدَّها. ولساعتِه أنفذ سيَّافاً وأمر أنْ يُؤتى برأسهِ. فانطلق وقطع رأسَهُ في السّجن وأتى برأسِه في طبقٍ وأعطاهُ للصّبيَّةِ والصّبيَّةُ أعطتهُ لأُمِّها. وسمع تلاميذُه فجاءُوا ورفعوا جُثَّتهُ ووضعوها في قبرٍ. واجتمع الرُّسلُ إلى يسوعَ وأخبروهُ بكلِّ شيءٍ، كُلِّ ما عمِلوا وكُلِّ ما علَّموا.

حول الإنجيل

قطع رأس القدّيس يوحنّا المعمدان

أمران يميّزان القدّيس يوحنّا المعمدان: أوّلًا، ربطه لملكوت السّماوات بالتّوبة؛ ثانيًا، شهادته للحقّ حتّى الموت.

لقد تنبّأ إشعياء عن رسالة يوحنّا هكذا: "صوتُ صارخٍ في البريّة، أعدّوا طريق الرَّبّ، اصنعوا سبله مستقيمة"؛ وكان يوحنّا يُعدّ طريق الرَّبّ بكرازة التّوبة، التّوبة الّتي تهيّأ الإنسان لسرّ التّدبير الّذي سيتمّمه الرَّبّ بموته وقيامته؛ وسبل الرَّبّ تصير مستقيمة بحفظ استقامة الإيمان وحفظ الوصايا؛ بدء الإيمان هو اكتشاف النّفس للحقيقة، وثقة غير متزعزعة بعناية الله؛ وحفظ الوصايا هو بلوغ حالة مقت الخطيئة. يقول الذّهبيّ الفم: "ما أعظم قدرة مجيء النّبيّ، كيف حرّك الشّعب كلّه وقاده إلى التّفكير بخطاياه". فكما أنّ الله، الّذي يريد خلاص جميع البشر، لا يأتي إلى إنسان قبل توبة ذلك الإنسان، هكذا مجيء الله إلى شعبه كان لا بدّ من أن يسبقه تحضير الشّعب بالإيمان والتّوبة.

التّوبة الحقيقيّة تتفعّل بالصّوم والمسوح؛ المسوح تعني هذا الإنكار الكامل للعالم وكلّ شهواته ومغرياته. الصّوم في هذا اليوم هو عودة إلى الذّات، وقفة يتأمّل فيها المؤمنون هذا السّرّ الإلهيّ لخلاص البشر الّذي تمّمه ابن الله وأنبيائه وتلاميذه وسط الاضطهادات والموت. فالمعمدان هو صورة عن الكنيسة الشّاهدة للحقّ وسط اضطهاد العالم. "الأعظم بين مواليد النّساء"، يُصبح الأعظم بين مواليد الشّهداء. ففي قطْع رأس السّابق ظهر وكأنّ الشّرّ قد انتصر. والشّرّ هو دائمًا منتصر في هذا العالم، منتصر ظاهريًّا وإلى حين؛ أمّا الحقيقة الّتي أتى المسيح ليكشفها ويشهد لها فهي الحقيقةّ الأزليّة، وهي منتصرة دائمًا داخل نفوس المؤمنين بالمسيح. انتصارهم هو ثباتهم في المسيح وسط اضطهاد العالم؛ صلاتهم ومحبّتهم لأعدائهم تغلب جذور الشّرّ داخل نفوسهم. هذا ما يجعل لهم مهمّة كالمعمدان يؤدّونها في هذا العالم. وكان المعمدان قد تهيّأ لهذه المهمّة الّتي أوكلت إليه، لا بالأساليب الدّنيويّة والعالميّة، إنّما بالنّسك وإنكار الذّات. لأجل ماذا كان كلّ هذا النّسك الّذي عاشه يوحنّا في البريّة؟ ألم يكن لأسمى مهمّة أوكلت إلى إنسان، "إعداد طريق الرَّبّ"؟ وبمقدار عظم المهمّة المطلوبة من المسيحيّ، بهذا المقدار ينبغي أن يعظم نُسكه: صلاته، أصوامه، أسهاره، تواضعه، نقاوة ذهنه وتوبته. بمقدار ما تعظم التّوبة تعظم المحبّة. وبمقدار ما تعظم المحبّة تعظم الرّغبة في الشّهادة للحقّ. فالمحبّة الحقيقيّة من الحقّ تنبت، لهذا قليلون جدًّا، كقلّة الّذين يبحثون عن الحقّ، هم الّذين يبلغون إليها.

إنّ الخطيئة الصّغرى تقود إلى خطيئة أعظم عند المأخوذين بمحبّة السّلطة والمجد الباطل. فهيرودس لكي لا يظهر ناكثًا بوعده ويخسر كرامته أمام عظمائه، قتل يوحنّا رغم أنّه، كما يقول الإنجيل، "كان يَهَاب يوحنّا عالِمًا أنّه رَجُلٌ بارٌّ وقدّيسٌ" (مر20:6). ولم يكن قسمه وحده الدّافع إلى القتل، لكنّ عشقه غير الشّرعيّ لامرأة أخيه أجبره من البداية على ارتكاب إثم إلقاء يوحنّا في السّجن. لقد تعلّق بزانية ولأجل شهوته منها أغلق فم نبيّ بسجنه. فلو امتلك هيرودس حسًّا أخلاقيًّا حسنًا لكان حنث بقسمه، وكما يقول له الذّهبيّ الفم، ماذا لو طلبت رأسك يا هيرودوس؟ فماذا لو طلبت كلّ مملكتك؟ إنّ داوود الّذي أقسم بقتل نابال الشّرّير وأن يُدمّر كلّ ماله، تراجع عن قسمه عندما التمست أبيجايل، الزوجة المتعقّلة، العفو من داوود، ولم يشعر داوود أنّه أثِمَ عندما نكث بيمينه. أمّا هيرودس فقد ظنّ أنّه ليس لائقًا بهيبة سلطته أن يتراجع، فأوفى عاهرة قسمه.

لقد حزن هيرودس لكنّ حزنه لم يقده إلى التّوبة ووعي شرّ القسم الّذي أقسمه، إنّما قاده إلى دينونة عظيمة، حين ضحّى بنبيّ لأجل راقصة وأمّها الزّانية.

وهكذا تتكرّر، إلى اليوم، خطيئة حبّ السّلطة والمجد الباطل والاستسلام للشّهوات، في قتل الأنبياء وكلّ من يقول لنا "لا يحقّ لك". لكنّ هيرودس، كما يقول الذّهبيّ الفم، أخفق في إسكات فم يوحنّا، فالنّبيّ فتح فاه وفتح أفواهًا أخرى لا عدّ لها. وظلّ يوحنّا بعد قتله، يُثير مخاوف هيرودس وهواجس ضميره إلى درجة أنّه اعتقد أن يوحنّا نفسه قد قام من الأموات. وهكذا يظلّ يوحنّا، في كلّ وقت وفي كلّ العالم، يُبكّت هيرودس وأمثاله المأخوذون بحبّ العظمة، الّذين يتعدّون ناموس الله ولا يرضون كلمة "لا"؛ فكلّ من يُطالع الإنجيل بتكرار، بحسب الذّهبيّ الفم، سيسمع القول: "لا يحلّ لك"؛ يُقرّع كلّ عاتية وكلّ مستبدّ، من دون أن يكون لأحد سلطة على إسكات تقريعه الّذي لا يخفت مع الزّمن.

يوحنّا المقطوع الرّأس والحرّ

مناسبة اليوم هي قطع رأس القدّيس السّابق يوحنّا المعمدان. يوحنّا لم يترك هيرودس وشأنه ولم يعتبره شأنًا ثانويًّا مقابل رسالته الأهمّ. هذا الملك  ذو الشّأن الكبير، كونه مقرّبًا من روما ومن قيصرها، زواجه اللّاشرعيّ رآه يوحنّا باعثًا لتأنيب ذاك الّذي لم يتجرّأ أحد على معارضته.

كان يوحنّا يدعو إلى التّوبة وإلى ثمار تليق بها، كان يرى في كلّ نفس تائبة حجرًا يرصفه على درب مجيء المسيح. كانت دعوته هذه من مندرجات رسالته الّتي كرّس حياته لأجلها: تهيئة الطّريق أمام المسيح وملكوته "توبوا فقد اقترب ملكوت السّماوات". اعتبر يوحنّا أنّ كلّ اعوجاج هو معنيّ به، عليه أن يقوّمه لتصبح الطّريق قويمة أمام ملكوت المسيح. لم ينغلق على ذاته ويكتفي بتقويم اعوجاجاته الذّاتيّة وبنسكه الشّخصيّ. لم يكن صوتًا فحسب بل صوتًا صارخًا. الصّوت الاعتياديّ لا يخرق آذان الخاطئ وإن خرقها لن يبلغ عمق كيانه ليزلزل ما بُنِيَت فيه من خطايا. الصّراخ عند يوحنّا لا يعني ذبذبات قويّة تهزّ أوتار الآذان الحسيّة، بل مضمونًا قويًّا، قويًّا بوضوحه، بصدقه، بثباته. مواجهة الخطيئة في عالمنا تحتاج مثل هذه القوّة والوضوح والثّبات.

لم يكتف يوحنّا بمواجهة الخطيئة الّتي فيه، بل سعى لمواجهة خطايا من حوله ليقينه أنّها تعيق إتمام رسالته. لم يسأل عن حظوظ نجاحه ولا عن نتائج صراخه. قام بما عليه وبلغ المنتهى وقُطِع رأسه.

كيف تحلّى هذا " الأكبر في أولاد النّساء" بهذه القدرة وهذه الجرأة ولم يخش نتائجهما؟ لأنّه كان حرًّا. طهّر ذاته في البريّة من خطاياها، حرّرها من شغفها المريض في اقتناء الخيرات الدّنيويّة والسّلطة والأمان والتّرف، إذ وراء هذه تتمترس الخطيئة لتبرّر وجودها وتعطي ضماناتِها وتأسر الإنسان بها مصوِّرةً فقدانَها ضعفًا وزوالًا. يوحنّا كان حرًّا من خوفِ أن يخسر رغد عيشه وأمانه الاجتماعيّ. هذه كلّها رذلها قبل أن يقتنيها. هذه هي الحرّية الّتي لا تقف في وجهها أيّ قوّة أو أيّ خوف بما فيه الخوف من الموت.

لم يبغ من حياته إلّا اتمام رسالة واحدة: أن يهيّئ الدّرب أمام المسيح، أن ينقص هو، حتّى الموت، ويزيد المسيح: "لي أن أنقص وله أن يزيد".

تضع الكنيسة أمام مؤمنيها  شخص يوحنّا المعمدان مقطوعًا رأسه. تصوّره هكذا في أيقوناته وترفعه أمامهم على الإيقونسطاس لتجعله نموذجًا لسلوكهم الكنسيّ. لا يمكننا أن نشهد للمسيح، على طريقة يوحنّا، - وليس من طريقة أخرى للشّهادة له- دون أن نتحرّر من ترفنا وأموالنا وشراهة بطوننا وكلّ مقتناياتنا وحتّى من ذواتنا، دون أن ننقص ليزيد هو، دون أن نتمرّس على العطاء والصّوم لنكون أحرارًا لا يقيّدنا خوف من حرمان أو من خسارة ما نملك أو من أمان هشّ. ليس صدفة أن تأمرنا الكنيسة في هذا اليوم بالصّوم الكامل.

 الضّيق الّذي نعيش اليوم هو تأكيد محسوس لما قلنا وعليه أن يكون أكبر محفّز لنضع قلوبنا "حيث لا يرعى السّوس والعُثّ ولا ينقب السّارقون فيسرقوا"، لنضع قلوبنا في ملك المسيح السّماويّ على هذه الأرض.

انقر هنا لتحميل الملف