Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 7 شباط 2021

العدد 6

الأحد 16 من متى (الخمس وزنات)

اللّحن 2- الإيوثينا 2

أعياد الأسبوع: *7: برثانيوس أسقف لمبساكا، البارّ لوقا الّذي كان في استيريون (اليونان) *8: ثيوذوروس قائد الجيش، النّبيّ زخريّا *9: وداع عيد الدّخول، الشّهيد نيكيفورس *10: الشّهيد في الكهنة خارالمبوس، البارّ زينون *11: الشّهيد في الكهنة فلاسيوس ورفقته، الملكة ثاوذورة *12: ملاتيوس أسقف أنطاكية *13: الرّسولان برسكيلّا وأكيلّا، البارّ مرتينيانوس.

كلمة الراعي

وَزَنَاتُنَا ... كيف نضاعفها؟!...

”لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ“ (متّى 25: 29)

واهب الحياة للإنسان هو مصدر كلّ خير وصلاح، وهو قد أعطى البشـر منذ الخلق أن يكونوا على صورته. من هنا، الإنسان بطبيعته مملوء طاقات إلهيَّة بالرّوح القدس الَّذي نفخه الرَّبّ الإله يوم جبل آدم من تراب الأرض (راجع تكوين 2).

في هذا الإطار، لا بدّ من التّمييز ما بين المواهب والطّاقات الَّتي تختصُّ بالطّبيعة البشريّة بحدِّ ذاتها وبما يسكبه الرَّبّ بروحه القدُّوس من قوى إلهيَّة تجعل الإنسان شبيهًا بالله. إذًا، في الإنسان ما يرتبط بنظام الطّبيعة البشريَّة وتكوينها الفيزيزلوجيّ والنّفسـيّ، هذا من جهة، وهناك ما هو من الله الآب بالابن في الرّوح القدس، وهو ما ندعوه النّعمة الإلهيَّة.

الإنسان في المسيح، هو كائن مخلوق وإلهيّ في آنٍ معًا، لأنّه يجمع ما بين المَبْرُوءِ من العدم، وهو الجسد والنّفس، وما بين ما هو غير مخلوق المنسكب عليه من الله، وهو النّعمة الإلهيَّة. تاليًا، الإنسان غير محدود الطّاقات لأنّ ما فيه من الله غير محدود...

*          *          *

طاقات الإنسان أو مواهبه المتأتّية من بشريّته ترتبط بالوراثة وبالتّربية والبيئة الّتي يعيش فيها... القوى الإلهيَّة الموهوبة له من الله يأخذها كلّ مَسيحيّ بالمعموديّة المقدّسة والأسرار بعامّة. كلّ طاقات الإنسان الطّبيعيّة والإلهيّة أُعطيت له ليتشبّه بالله إذا ما نمّاها بواسطة طاعة الكلمة الإلهيَّة، أي بعيش المحبَّة الّتي علّمنا إيّاها المسيح الرّبّ: ”الَّتي لكَ وهي ممّا لكَ، فيما نحن نقِّدمها لكَ عن كلِّ شيءٍ ومن أجل كلِّ شيء إيَّاك نسبِّح إيَّاك نبارك إيَّاك نشكر يا ربّ ومنك نطلب يا إلهنا...“ (من خدمة القدّاس الإلهيّ).

”المُتاجَرة“ بالوزنات هي أن يبذل الإنسان نفسه بكلّ جوارحها في خدمة المحبَّة الإلهيَّة الّتي تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ، ولاَ تَحْسِدُ، ”ولاَ تَتَفَاخَرُ، وَلاَ تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ، وَلاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا، وَلاَ تَحْتَدُّ، وَلاَ تَظُنُّ السُّوءَ، وَلاَ تَفْرَحُ بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ، وَتَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ، وَتَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ، وَتَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ“. هـــذه اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا (أنظر: 1 كورنثوس 13: 4- 8). بالحقيقة في المحبَّة الحقيقيّة يأخذ الإنسان عندما يُعطي، وهكذا، كلّما أعطى كلّما ازداد غنًى لأنّ مصدر ثروته هو الله الَّذي نِعَمُه لا حدود لها. وكلّما طلب الإنسان أن يأخذ مقابل عطائه كلّما فرغ وافتقر، لأنّه يعطي ممّا لديه أي من خوائه. الإنسان عدم بدون الله. الإنسان يملأ الوجود إذا كان في الله. من يطلب امتلاءً من هذا العالم، عبر ما يقدّمه، سيحصل في الفراغ الكيانيّ الكلّيّ لأنّه يظنّ بأنّ ما لديه هو من نفسه، في حين أنَّ وجوده كلّه ليس منه بل هو عطيّة من الله...

*          *          *

أيُّها الأحبَّاء، اليوم وكلّ يوم يعطي الرَّبّ كلًّا منَّا وزنات ”عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ“ (مت 25: 15)، لأنّنا في كلّ يوم نعيشه تتجدَّد هبة الحياة لنا بمشيئة الله، ويمنحنا في كلّ يوم جديد أن ”نتاجر“ بالوزنات الطّبيعيَّة والإلهيّة الّتي يهبنا إيّاها لنضاعفها بأعمال المحبَّة الَّتي في التّوبة والتّواضع والوداعة والبِرّ الَّذي بالنّعمة، لأنّنا بدونه لا نقدر أن نصنع شيئًا صالحًا (أنظر: يوحنّا 15: 5).

كلّ إنسان لديه ما يكفيه ويناسبه من العطايا ليتشاركها مع غيره، مع الَّذين يضعهم الرّبّ في طريقه. لا أحد فقير ومُعْدَم من النِّعم إلّا من كان كسولًا وأنانيًّا. حالُ هذا حالُ البخيل القلب، أي من طرد الله من كيانه لأنّه لا يهمّه سوى أمر نفسه أو من هم له استهلاكيًّا. فلا يتذرّعنَّ أحد بأنّه لا يملك شيئًا يقدّمه للآخَر. لا يطلب الله منك إلّا ممّا هو أعطاك، أفليس رضا الله عن تجارتك ”أَنْ تَكْسِـرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ“ أي ليس فقط القمح المطحون بل كلمة الله المعزّية والمغذّية للرّوح، ”وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ“ أي الَّذين  لا قلب يستقبلهم ويحنّ عليهم ويسكنهم فيه، ”إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوهُ“ أي أن تستر عوراة وخطايا الَّذين حولك وتمنحهم الطّمأنينة ودفء الأخوّة والمساواة في الكرامة أمام الله، ”وَأَنْ لا تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ“ (أنظر: إشعياء 58: 7) أي أنّك واحد مع كلّ محتاج ومفتقِر مهما كانت ظروفه فإنْ هو ضعف فأنت تضعف وإنْ هو مرض فأنت تمرض وإنْ هو قَوِيَ فأنت تقوى والعكس صحيح. يربطنا الله ببعضنا البعض رباطًا عضويًّا لا ينفكّ بالمحبَّة الإلهيَّة الَّتي يأمرنا بها ”كلمته“ وفي جسد ابنه-الكنيسة المقدَّسة الَّتي تطال الوجود كلّه المنظور وغير المنظور...

لتزداد وزناتك يجب أن يزداد الَّذين تحبُّهم...

ومن استطاع أن يقبل فليقبل!...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّاني)

 عندما انحدرتَ إلى المَوْت. أَيُّها الحياةُ الَّذي لا يَموت. حينئذٍ أَمَتَّ الجحيمَ بِبَرْقِ لاهوتِك. وعندما أقمتَ الأمواتَ من تحتِ الثَّرى. صرخَ نحوكَ جميعُ القُوّاتِ السّماويّين. أَيُّها المسيحُ الإله. مُعطي الحياةِ المَجدُ لك.

  طروباريّة دخول السّيّد إلى الهيكل (باللّحن الأوّل)

إفرحي يا والدةَ الإلهِ العذراءَ المُمتلئةَ نعمة، لأنَّ منكِ أشرقَ شمسُ العدلِ المسيحُ إلهُنا، مُنيرًا لِلّذِينَ في الظّلام. سُرَّ وابتَهِجْ أنتَ أيّها الشّيخُ الصِّدّيق، حاملًا على ذِراعَيكَ المُعتِقَ نفوسَنا، والمانحَ لنا القيامة.

قنداق دخول السّيّد إلى الهيكل (باللَّحن الأوّل)

يا مَنْ بمَوْلدكَ أيُّها المسيحُ الإله، للمُستَوْدَعَ البَتوليّ قدَّسْتَ. ولِيَدَي سمعان كما لاقَ بارَكْتَ. ولنا الآن أدركتَ وخلَّصْتَ. احفَظ رعيَّتَكَ بسلامٍ في الحروب وأيِّد المؤمنين الّذين أحببتَهُم، بما أنَّكَ وحدَكَ مُحبٌّ للبَشَر.

الرّسالة (2 كو 6: 1– 10)

الرَّبُّ يُعطي قوَّةً لشعبه     

قدِّموا للرَّبِّ يا أبناءَ الله 

يا إخوةُ، بِما أنَّا معاوِنُونَ نَطلُبُ إليكم أن لا تَقَبَلُوا نِعمَةَ اللهِ في الباطِل، لأنَّهُ يقولُ: إنّي في وقتٍ مقبولٍ استجبتُ لكَ وفي يومِ خَلاصٍ أَعَنتُك. فَهُوذا الآنَ وقتٌ مقبول. هوذا الآنَ يومُ خَلاص، ولسنا نَأتي بِمَعثَرةٍ في شيءٍ لئلّا يَلحَقَ الخدمَةَ عَيبٌ، بل نُظهِرُ في كلِّ شيء أنفسَنا كخُدَّامِ اللهِ في صَبرٍ كثيرٍ في شدائدَ في ضَروراتٍ في ضِيقاتٍ في جَلدَاتٍ في سُجونٍ في اضطراباتٍ في أتعابٍ في أسهارٍ في أصوامِ،  في طَهارةٍ في معرفةٍ في طُول أناةٍ في رفقٍ في الرّوح القُدُس في محبّةٍ بِلا رِياءٍ في كلمةِ الحقِّ في قُوّةِ الله بأسلحَةِ البِرِّ عن اليَمين وعَن اليَسار. بمجدٍ وهَوانٍ. بِسُوءِ صِيتٍ وحُسنهِ. كأنَّا مُضِلُّون ونَحنُ صادقون. كأنَّا مَجهولون. ونحنُ مَعروفون، كأنَّا مائِتونَ وها نحنُ أحياءُ. كأنَّا مؤدَّبونَ ولا نُقتَل. كأنَّا حِزانٌ ونحنُ دائمًا فَرِحون. كأنَّا فُقراءُ ونحنُ نُغني كثيرين. كأنَّا لا شَيء لنا ونحنُ نملِكُ كُلَّ شيءٍ.

الإنجيل (مت 25: 14-30)

قال الرَّبُّ هذا المثل، إِنْسَانٌ مُسَافِرٌ دَعَا عَبِيدَهُ وَسَلَّمَهُمْ أَمْوَالَهُ، فَأَعْطَى وَاحِدًا خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً. كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ. وَسَافَرَ لِلْوَقْتِ. فَمَضَى الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَتَاجَرَ بِهَا، فَرَبحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ. وَهكَذَا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ، رَبِحَ أَيْضًا وَزْنَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ.  وَأَمَّا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ فَمَضَى وَحَفَرَ فِي الأَرْضِ وَأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ. وَبَعْدَ زَمَانٍ طَوِيل أَتَى سَيِّدُ أُولئِكَ الْعَبِيدِ وَحَاسَبَهُمْ. فَجَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْخَمْسَ وَزَنَاتٍ وَقَدَّمَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخَرَ قَائِلًا: يَا سَيِّدُ، خَمْسَ وَزَنَاتٍ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا. فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. ثُمَّ جَاءَ الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَتَيْنِ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، وَزْنَتَيْنِ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ رَبِحْتُهُمَا فَوْقَهُمَا. قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ. ثُمَّ جَاءَ أَيْضًا الَّذِي أَخَذَ الْوَزْنَةَ الْوَاحِدَةَ وَقَالَ: يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ، وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ. فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي الأَرْضِ. هُوَذَا الَّذِي لَكَ. فَأَجَابَ سَيِّدُهُ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ وَالْكَسْلاَنُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِبًا. فَخُذُوا مِنْهُ الْوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِلَّذِي لَهُ الْعَشْرُ وَزَنَاتٍ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. وَالْعَبْدُ الْبَطَّالُ اطْرَحُوهُ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ، هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ. ,ولمّا قال هذا نادى مَن له أذنان للسّمع فليسمع.

حول الرّسالة

"هوّذا الآن وقتٌ مقبول"

نقرأ في هذا الأحد المبارك الآيات العشر الأولى من الإصحاح السّادس من الرّسالة الثّانية إلى أهل كورنثوس، فبعد أن علم بولس الرّسول من تيطس أنّ الرّسالة الأولى قد أثمرت "بالتّوبة الصّادقة" (7: 6)، أرسل إليهم رسالة ثانية يؤكّد لهم فرحه بتوبتهم، واتّساع قلبه بالحبّ نحوهم. كما أنّ بعض اليهود جاؤوا من أورشليم يشكّكون المؤمنين في رسوليّة القدّيس بولس، ويعلنون أنّه عنيف في رسائله، ضعيف في حضرته. وهذا ما ألزمه أن يدافع عن صدق رسوليّته مؤكِّدًا حبّه لشعبه واستعداده أن يكون لهم عبدًا لينعموا هم بحرّيّة مجد أولاد الله (5: 4)، وأن ينفق لأجلهم (12: 15)، معلنًا لهم أنّه يلتهب في أعماق قلبه مع عثرة كلّ واحد (11: 29).

في هذه الرّسالة أيضًا، حذّرهم من أصحاب البدع والهرطقات والانشقاقات، كما جاءت كلماته تفيض بالتّعزيات الإلهيّة الّتي يهبها الله لمؤمنيه وسط الآلام، مهما اشتدّت المِحَن ومهما شعر المسيحيّون أنّ الله يعاقبهم، إلّا أنّه لن يتركهم للموت أبدًا، ومهما قويت تعييرات غير المؤمنين لهم وتعرّضوا للاضطهاد بسبب إيمانهم وأعمالهم، إلّا أنّ الله سينصرهم ويعطيهم "كلّ شيء"، فنقرأ: "كمُضِلّين ونحن صادقون، كمجهولين ونحن معروفون، كمائتين وها نحن نحيا، كمؤَدَّبين ونحن غير مقتولين، كحزانى ونحن دائمًا فرحون، كفقراء ونحن نُغني كثيرين، كأنْ لا شيء لنا ونحن نملك كلَّ شيء" (2 كور 6: 9 -10).

ذلك كلّه يُعطى للّذي يخدم الجماعة بإيمان وأمانة، فقد كشف لنا الرّسول في هذا المقطع بالذّات (6: 1-10) عن مفهوم الخدمة موضحًا غايتها وطبيعتها وقوّتها، وحدّثنا على الخادم وسلوكه في الخدمة مع المخدومين، والّذي لا يجب أن يُعثر أيًّا من الإخوة.

على الخادم أن يسير " في صبرٍ كثيرٍ... في أتعابٍ، في أسهارٍ، في أصوامٍ، في طهارةٍ، في عِلمٍ، في أناةٍ، في لطفٍ، في الرُّوحِ القدس، في محبَّةٍ بلا رياءٍ، في كلامِ الحقِّ، في قوّةِ اللهِ بسلاح البِرِّ لليمينِ ولليسار" (2 كور 6: 4-7)، أي أنّه على الخادم أن يهتمّ بألّا يكون في خدمته ما يُعثر الآخرين حتّى "لا تتعطّل الخدمة"، سواء كنّا، نحن الخدّام، في الأحزان أو في الأفراح، في أوقات الرّاحة وفي أوقات الشّدّة... هكذا فقط "لا تُلام الخدمة" ونجني نحن أكاليل الظّفر ونقدِّس ذواتنا والجماعة الّتي نخدمها.

واليوم، إذ يتخبّط العالم بأسره في مآسٍ هذا مقدارها، وفي أحزان هذا عمقها، تستحيل خدمتنا أساسيّة للخلاص، ضروريّة لتكون شهادة ليسوع المسيح الإله الحقّ، الّذي هو وحده نبع الفرح والرّاحة والأمان. اليوم، أكثر من أيّ يومٍ مضى، يجب أن ننتهز الفرصة لنتوب ونطرح عنّا الإنسان العتيق ونحمل صليبنا بفرح ورجاء، ونتفرّغ لخدمة المسيح في كلّ أرملة، وكلّ مريض، وكلّ فقير، وكلّ محتاج... "هوذا الآن وقتٌ يُعمَل فيه للرّبّ"، "هُوَذَا الآنَ وَقْتٌ مَقْبُولٌ" لنربح الملكوت! فهل مَن يُلبّي؟

الحكمة في الوداعة

"مَنْ هُوَ حَكِيمٌ وَعَالِمٌ بَيْنَكُمْ فَلْيُرِ أَعْمَالَهُ بِالتَّصَرُّفِ الْحَسَنِ فِي وَدَاعَةِ الْحِكْمَةِ" (يعقوب 3: 13). الحكمةُ ليست في الكلام، بل البُرهانُ عنها هو في تعامُلنا مع الآخرين. مَنْ كانت فيه الغَيْرَةُ فهو في تمرمُرٍ دائم، وإنْ تكلّمَ عن الحقِّ والحقيقةِ والحكمةِ، فهو في جَهلٍ لأنَّ مثل هذه الحكمةِ هي من الشّيطان، لا تَجلبُ إلّا التّشوُّشَ والتَّحزُّبَ وكلَّ شرٍّ. أمَّا مَنْ حازَ على الحكمةِ الإلهيّةِ هو مَنْ يزرعُ السَّلامَ، ويتعاطى في الأمور برفقٍ ووداعةٍ ورحمةٍ بلا رياءٍ ولا كذبٍ، لا على نفسه، أوّلًا، ولا على الآخرين ولا على خالقه، يَحكُمُ في الأمورِ رُوحِيًّا ولا يُحكم عليه من أحدٍ مهما علا شأنه وتبجَّحَ بحكمته البشريّة وفهمه ومنطقه.

الوداعة من شأنها أنْ تخفِّفَ من حدّةِ التّوتّر، إذْ قيل بأنّ "اَلْجَوَاب اللَّيِّن يَصْرِفُ الْغَضَبَ، وَالْكَلاَم الْمُوجع يُهَيِّجُ السَّخَطَ"‏(‏ أمثال١٥:‏١‏)، بينما "فَحْمٌ لِلْجَمْرِ وَحَطَبٌ لِلنَّارِ، هكَذَا الرَّجُلُ الْمُخَاصِمُ لِتَهْيِيجِ النِّزَاعِ" (‏أمثال ٢٦: ‏٢١‏). الجوابُ اللَّيِّـنُ الوديعُ يُهدِّئ الغضبَ، وهذه هي الحكمة في إطفاءِ نارِ الخصامِ والغضبِ. غيرُ الحكيمِ لا يقدُر أن يكون وديعًا، بل مُساقٌ دائمًا من أهوائه، ومن حكمه الخاصّ الأعمى، هي الّتي تتحكَّم بكلّ تصرّفاته، وهو غيرُ قادرٍ على ضبطِ انفعالاته.

 هذا النّوع من الحكمة ينزلُ علينا من عند أبي الأنوار، ليس من ذاتنا. هي عطيّة الرّوح القدس، الّتي تُعطى لِمَنْ يطلبها ويجدّ في طلبها. الوديع يعيش في فرحٍ لا يُنزع منه، بينما المُخاصم هو دائمُ القلقِ لنفسه ولِمَنْ حَوله، يُكدّرُ حياتَه وحياةَ الّذين يَعيشُ معهم أو يُصادفهم.

الحكمةُ الإلهيّةُ بعيدةٌ كلَّ البُعدِ عن الحكمةِ البشريّةِ، والوداعةُ ليست ضَعْفًا كما يَفهمها أهلُ العالم، كما أنَّ القوّة ليست العدائيّة والقسوة. الوديعُ هو القويّ، هو منْ لا يستسلمُ لجهلِه وأهوائِه بسرعةٍ. هذا هو الصِّـراع المُميت، ألّا أتمِّمَ مشيئتي المريضة، أن أُميتَ بإرادتي كلّ انفعالٍ ينشأُ في داخلي فأتمّمه لكي أهدأ، ولكن في الواقع يزدادُ إضطرابي وألمي الدّاخليّ. الوَديع قويٌّ فقط بنعمة الرّوح القدس الّتي تنزل عليه، ويقبلها هو في حياته. الحكيٌم هو مَنْ أدركَ كلّ هذه الأمورِ وعزمَ على المضيّ في هذا الطّريق، بملء إرادته. يتغاضى عن الإساءة بإرادته ليحافظَ على السّلام. هذا يصفه لنا الرّسول يعقوب بدِقَّةٍ وَوُضوح لكي لا يكون عندنا أيّ لَبْسٍ: "وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلًا طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ" (يع 3: 17). هذا هو الرَّجُل الحكيم، مَنْ كانت فيه هذهِ الصّفات، وإلّا فهو إنسانٌ غبيٌّ.

نِعْمَةُ الله لا تسكن إلّا في الوَديع والمتواضع القلب، وغير ذلك هو هروبٌ وتنقيةٌ خارج الجام والكأس. روحُ الرَّبِّ هو روح وداعةٍ وسلام، وعكس هذا كلّه من الشّيطان. الحكمة والوداعة مصدرهما المحبّة، والحكيم هو من يُعَنِّفُ الأهواء الّتي فيه لكي يصل إلى ضفّة الهدوء واللِّينِ والوداعة والسّلامة بنعمةِ الرَّبِّ وَحدَهُ، فيعرفُ حينها كيف يكونُ رحيمًا مع الآخرين ويبكي عليهم. الوداعة هي الشّجاعة بِحَدِّ ذاتها، تأخذُ على عَاتِقها أثقالَ وأحمالَ الآخرين وضعفاتهم، هي الاستعدادُ الدّائمُ لكلِّ ما ينتج عن هذا الموقف، والثَّبَاتُ في هدوءٍ راسخٍ أمام كلّ اضطرابٍ أو شِدَّةٍ، حتّى تُجاه الموت.

انقر هنا لتحميل الملف