Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 24 كانون الثّاني 2021      

العدد 4

الأحد 14 من لوقا (الأعمى)

اللّحن 8- الإيوثينا 11

أعياد الأسبوع: *24: البارّة كساني وخادمتها، الشّهيد في الكهنة بابيلا الأنطاكيّ ورفقته *25: غريغوريوس الثّاولوغوس رئيس أساقفة القسطنطينيّة *26: البارّ كسينفوندس مع زوجته ماريّا وولدَيه أركاديوس ويوحنّا *27: تذكار نقل جسد القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم، القدّيسة ماركيانيس *28: البارّ أفرام السّريانيّ، البارّ بلاديوس *29: تذكار نقل بقايا الشّهيد في الكهنة إغناطيوس المتوشّح بالله *30: الأقمار الثّلاثة مُعلّمي المسكونة باسيليوس الكبير، غريغوريوس الثّاولوغوس ويوحنّا الذّهبيّ الفم، وأمّهاتهم: آميليا- نونة- أنثوسة.

كلمة الرّاعي

المكرَّسون للرَّبّ

”وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ“ (يوحنّا 17: 19)

القداسة ليست شيئًا آخَر غير المحبَّة، لأنَّ ”الله محبَّة“ (1يوحنَّا 4: 8 و16) والله ”قدُّوس“ (أنظر مثلًا لاويين 11: 44). قداسة الله تجلَّت لنا في سرّ حبّه اللّامتناهي بتجسُّد الكلمة الابن ”المولود من الآب قبل كلّ الدُّهور“ من ”الرّوح القدس ومن مريم العذراء“. المحبَّةُ كما تكشَّفت لنا هي الإفراز الكلّيّ أو التّكريس الكلّيّ للذَّات في طاعة الله أي في محبّته، ومحبّته ليست سوى محبَّة الأخ أي التّكرُّس لخدمة الله فيه، كون الله لا يحتاج منّا شيئًا ولكنّه جعل نفسه محتاجًا لنا لأجلنا لكي نخدمه هو في الأخ في الآخَر، إذ ”لَنَا هذِهِ الْوَصِيَّةُ مِنْهُ: أَنَّ مَنْ يُحِبُّ اللهَ يُحِبُّ أَخَاهُ أَيْضًا“ (1يو 4: 21؛ راجع متّى 25: 31—46).

لا قداسة إلّا في الحقّ، أي لا تكريس للذّات إلّا في استقامة الحياة بطاعة الوصيّة الإلهيّة في الأمانة الكلِّيَّة، لئلّا يحصل الإنسان عبدًا للبشـر أو لأهوائه فيهم أو لأهوائهم فيه.

من هنا، الرَّبُّ يسوع ”قدَّس“ ذاته لأجلنا بالحبِّ والحقّ، إذ بذل ذاته عنَّا وحمل خطايانا الّتي أماتها على صليب حبِّه اللّامتناهي شهادة للحقِّ الَّذي هو هو، إذ استعلن لنا حينها ديَّانًا لسـرِّ الإثم وإبليس وزبانيّته وأتباعه وفاتحًا لنا ملكوت القداسة منذ الآن فيه وعبر الاتّحاد به بتسليمه حياتنا حبًّا، لأنّه ”إِنْ أَحَبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَاللهُ يَثْبُتُ فِينَا، وَمَحَبَّتُهُ قَدْ تَكَمَّلَتْ فِينَا“ (1يو 4: 12).

قداسة الله تجلَّت في أحبّائه وأخصّائه الَّذين كرَّسوا ذواتهم له في استقامة جهاد النُّسك والتّوبة والإيمان والمحبَّة. هؤلاء هم القدّيسون، إنَّهم مَنْ عرفوا أنّ المسيح هو الحياة وأنّ الموت عن العالم لأجل الرَّبِّ وطاعته وخدمته هو ربح (راجع فيليبي 1: 21).

*          *          *

في هذا الأسبوع القادم علينا، نعيِّد لثلاثة قدّيسين لمعوا بالنّسك والجهاد المقدَّس والعلوم البشريّة والدّفاع عن الإيمان القويم وإيضاحه وخدمة الإنسان، عنيت بهم الأقمار الثّلاثة باسيليوس الكبير وغريغوريوس اللّاهوتيّ صديقه وتوأم روحه ويوحنَّا الذّهبي الفمّ أعظم واعظ في تاريخ الكنيسة. هؤلاء صاروا نبراسًا واحدًا يسطع بأشعة الحقّ الإلهيّ المستَعلَن في العقيدة وخدمة مذبح الأخ. لا تنفصل العقيدة عن عيشها، ولا تستقيم خدمة إلَّا في استقامة الإيمان. هذا يفترض تضحية دون شروط وإخلاء ذات دون قيود، انطلاقًا من التّتلمذ للرَّبّ في طاعة كلمته الإلهيَّة وحمل صليب حبِّه...

القدّيسون الثّلاثة كانوا من عائلات غنيّة بالأموال والأملاك، ولكنّ غناهم الكبير كان بالإيمان، إذ تركوا كلّ ما في العالم مقتدين ببولس الرَّسول الذّي قال: ”إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ“ (فيليبي 3: 8). لقد تحمّلوا وكابدوا الظّلم والاضطهادات ولكنّهم ثبتوا في الحقّ حتّى النّهاية فتقدَّسوا وقدّسوا ذاتهم لأجل كنيسة المسيح.

*          *          *

أيُّها الأحبّاء، في هذا الزَّمن، نحن بحاجة إلى قدِّيسين، أي إلى من يكرِّسون حياتهم كلَّها للرَّبِّ في خدمة المحبَّة للأخ. هؤلاء من تحتاجهم الكنيسة اليوم لكي يسطع نور الحقّ في يوميّاتها. نحن بحاجة إلى من يتركون كلّ شيء لأجل المسيح شبّانًا وشابَّات، ليكونوا خميرًا جديدًا يخمِّر العجين كلّه. ”إِذًا نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ، لِكَيْ تَكُونُوا عَجِينًا جَدِيدًا كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ. لأَنَّ فِصْحَنَا أَيْضًا الْمَسِيحَ قَدْ ذُبحَ لأَجْلِنَا“ (1كورنثوس 5: 7).

اليوم تحتاج الكنيسة إلى ”مجانين“ بمحبّة الرّبّ، كما كان الرُّسل والقدّيسون، إلى من يطلبون نقاوة القلب في المحبَّة والعفَّة في السّلوك والتّوبة لاقتناء الملكوت والفرح في الخدمة والأمانة في الشّهادة والتّخلِّي الكلّيّ عن كلّ ما للذّات لأجل مجد الرّبّ في كنيسته، وإلى مَن ينادون باسم الرَّبّ لكي يعطي النّاس مجدًا لله (راجع تثنية 32: 3)...

الكنيسة، اليوم، تحتاج إلى من يريد أن يتبع المسيح في تكريس ذاته للقداسة بالتّسليم الكلّيّ لحياته في طاعة ”الكلمة الإلهيّ“ لكي يتقدَّس الَّذين حوله ... هكذا فعلة في كرمه يطلب الرَّبّ، من يصحّ فيهم قوله: ”رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّـرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ ...“. هذه رسالة الكنيسة اليوم وفي كلّ يوم، فهل من يستجيب دعوة الحبّ الإلهيّ؟! ...

ومن له أذنان للسّمع فليسمع...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن الثّامن)

انحدرتَ مِنَ العُلوِّ أَيُّها المُتحنِّن. وقَبِلتَ الدَّفنَ ذا الثّلاثةِ الأيّام. لكي تُعتقَنا مِنَ الآلام، فيا حياتَنا وقيامتَنا يا رَبُّ المجدُ لك.

قنداق دخول السّيّد إلى الهيكل (باللَّحن الأوّل)

يا مَنْ بمَوْلدكَ أيُّها المسيحُ الإله، للمُستَوْدَعَ البَتوليّ قدَّسْتَ. ولِيَدَي سمعان كما لاقَ بارَكْتَ. ولنا الآن أدركتَ وخلَّصْتَ. احفَظ رعيَّتَكَ بسلامٍ في الحروب وأيِّدِ المؤمنينَ الّذين أحببتَهُم، بما أنَّكَ وحدَكَ مُحبٌّ للبَشَر.

الرّسالة (1 تي 1: 15– 17)

صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ وَمُسْتَحِقَّةٌ كُلَّ قُبُول: أَنَّ الْمَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ لِيُخَلِّصَ الْخَطَأَةَ الَّذِينَ أَوَّلُهُمْ أَنَا. لكِنَّنِي لِهذَا رُحِمْتُ: لِيُظْهِرَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ فيَّ أَنَا أَوَّلًا كُلَّ أَنَاةٍ، مِثَالًا لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ. وَمَلِكُ الدُّهُورِ الَّذِي لاَ يَفْنَى وَلاَ يُرَى، الإِلهُ الْحَكِيمُ وَحْدَهُ، لَهُ الْكَرَامَةُ وَالْمَجْدُ إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ.

الإنجيل (لو 18: 35– 43)

في ذلك الزّمان، فيما يسوع بالقربِ من أريحا، كان أعمى جالِسًا على الطّريق يَستعطي. فلمَّا سمع الجمعَ مُجتازًا سأل: ما هذا؟ فأُخبِرَ بأنَّ يسوعَ النّاصريَّ عابرٌ. فصرخ قائلًا: يا يسوع ابنَ داودَ ارحمني. فزجرهُ المُتقدِّمون لِيسكتَ فازداد صُراخًا يا ابنَ داودَ ارحمني. فوقف يسوع، وأمر أنْ يُقدَّمَ إليهِ. فلمَّا قَرُبَ سألهُ: ماذا تريد أن أصنَعَ لك؟ فقال: يا ربُّ أن أُبْصِر. فقال لهُ يسوع: أَبصِر. إيمانك قد خلَّصك. وفي الحال أبصَرَ، وتبعَهُ وهو يمجّد الله. وجميعُ الشّعب اذ رأَوا سبَّحوا الله.

حول الإنجيل

صرخ الأعمى مُناديًا الرَّبّ يسوع ليرحمه: "يا ابن داود ارحمني". لماذا طلب الرَّحمة؟

الأعمى إنسانٌ قضى حياته جالسًا يَستَعْطي، فلماذا إذن هذه الصّرخة الّتي تذكّرنا بالعشار؟

إنَّ الخطيئة ظلامٌ، والخروج إلى النّور يتطلّب قوّةً كبيرة لا يستطيع أيّ إنسان الحصول عليها بدون مساعدة الرَّبّ. ولهذا، سأله الرَّبُّ يسوع أمام الجميع: "ماذا تُريد؟". الرَّبّ يسوع يعلم ماذا يُريد هذا الإنسان، ولكنّه أراد أن يُعلِّمَ الجموعَ قوّةَ الإيمان لدى هذا الأعمى الفقير الّذي تصرَّف بحسب ما قال الرّسول بولس في رسالته إلى العبرانيّين: "وأمّا الإيمان فهو الثّقة بما يُرجى، والإيقان بأمور لا تُرى" (عب 1:11).

كان عنده الرَّجاء والإيمان بأنَّ يسوع هو المخلّص وحده. وهذا ما دفعه للصّراخ وعدم السّكوت بالرّغم من المحاولات الشّديدة لإسكاته.

هذا الإيمان هو بحدِّ ذاته النّور الدّاخليّ الّذي كان يملكه هذا الأعمى والّذي أهّله وجعله مُستحقًّا لنور العالم.

كلٌّ منّا بحاجة لمثل هذا الإيمان، للثّقة والرّجاء. فلنضع رجاءنا وثقتنا بالرَّبِّ يسوع مثل هذا الأعمى لنجتاز هذه الأيّام الصّعبة صارخين: "تعالَ أيّها الرَّبُّ يسوع، وارحمنا" آمين.

الحياة في المسيح(3)

للمطران سابا (اسبر) متروبوليت حوران وجبل العرب وتوابعهما

هناك أيضًا أمرٌ آخر شديدُ الأهميّة وأساسيٌّ يُشَدِّد جميع الآباء عليه، ألا وهو التّواضع، الانفتاح الكامل على الله. المَقصود بالتّواضع هو أن يرى الإنسان ذاتَه على حقيقتها فيعترف بسيّئاته ونقائِصِه. يبلغ الإنسان ذروةَ التّواضع عندما يدرك، تمامًا، أنّه بقوّته الذّاتيّة لا شيء وأنّه بنعمة الله فقط كلّ شيء. الاعتداد بالنّفس يُؤذيها. يعلّمنا الواقعُ أنّ البشرَ بحاجة إلى التّواضع أمام الله كي ينفتحوا على تقبّل النّعمة الإلهيّة. يقول القدّيس يوحنّا السّلّمي: "إنّ الّذين امتلكوا هذه الفضيلة كسبوا الحربَ بجملتها". ويشبّه التّقليدُ الآبائيّ الرّوحيّ النَّفسَ بالبيت، حيث كلُّ قسمٍ منه يرمز إلى فضيلة معيّنة، بينما يشكّل التّواضع سورَ سطح هذا البيت، الّذي يَقي الأولاد، أي الفضائل، من السّقوط منه. فالتّواضع يحمي بقيّة الفضائل ويحفظُها.

يركّز عصرُنا على قوّة الإنسان وإمكاناته، ويستغلّ الشّيطانُ هذا الغرورَ البشريَّ ليجعلنا غير حسّاسين عمليًّا لنعمة الله. وتدريجيًّا، وتجربة بعد أخرى، يجد الإنسان نفسه وقد غرق في اليأس والخواء. أمّا عندما يكتشف حقيقةَ ذاته ويدرك ضعفَه أمام الخطيئة المتسلّطة عليه يتّجه إلى الله طالبًا نعمته المُقوّية. يختبر جميع المجاهدين روحيًّا أنّ المجاهد عندما يصل إلى النّقطة الّتي يُدرِك فيها، بكلِّ صدقٍ واقتناع، فقدانه الأمل بالخلاص من رذيلته بقوّته الذّاتيّة، أنّ نعمة الله تأتيه وتخلّصُه منها.

تُعَدُّ الصّلاة، الّتي يُسمّيها آباء الكنيسة أمَّ الفضائل، إحدى الرَّكائز الأساسيّة للحياة في المسيح. ومن المهمّ هنا ألّا نفهم الصّلاة مجرّدَ حديثٍ مع الله، بل وعيٌ دائمٌ لحضوره فينا. المُواظبة على ممارسة الصّلاة تُنَمّي فينا، بنعمة الله، روحَ الصّلاة، فتصير حياتنا صلاةً مستمرّة. اكتسابُ روح الصّلاة يعني اكتساب روح الشّكر والامتنان والفرح بالله كلّ حين، يعني انتفاءَ روحِ التّذمّر والتَّشَكّي.

ثمّة أمران آخران أريد أن أذكرهما، مع أنّهما قد يبدوان غريبَيْن، وقد ينسبهما الكثيرون للرُّهبان لا للمؤمنين العائشين في قلب العالم؛ هما حياة السّكون والتَّجرُّد. إنّهما فضيلتان لازمتان لكلّ مسيحيّ، أراهبًا كان أم غير راهب. نقصد بالسّكون امتلاكَ روح الصّلاة الّتي تجعلنا ندرك ونعي حقيقةَ حضور الله معنا في كلّ حين. ليس المقصود بالسّكون مجرَّدَ انتفاءَ الصّخب والانشغال الخارجيّيَن، بل الهدوء والسّلام الدّاخليّين. يساعدنا الهدوء الخارجيّ على اكتساب روح الصّلاة، ولذلك يُعتبر الانسحاب من الحياة اليوميّة الاعتياديّة من حين إلى آخر ضروريٌّ للإنسان المسيحيّ، لا بل يُعتَبَر من أسس حياته المسيحيّة. الصّلاة، بغضّ النّظر عن مُدّتها، هي انسحابٌ من الهموم اليوميّة وتخصيصُ هذه المدّة لسكب القلب لربّنا ومُناجاته. الإنسان المعاصر بحاجة ماسّة إلى اختبار ما نسمّيه الخلوة أو الرّياضة الرّوحيّة. فهذه ضروريّة لكلّ إنسان حتّى يعود إلى ذاته ويمتلئ من حضور الله. وتكتسب في زمننا هذا أهميّة قصوى، لأنّ متطلّبات الحياة اليوميّة، حتّى الصّالحة منها، كثيرة، وتُوُقِعُ الإنسان في نسيان هدف حياته الأساسيّ. حياة السّكون والخلوة ضروريّة من حين إلى آخر كي تعود سكّة حياتنا إلى خطّها المُستقيم. يقول الرّسول بولس: "ليس أحد يتجنّد للمسيح وهو يرتبك بأمور الحياة"، ويقول القدّيس مرقس الأفسسيّ: "الّذي يريد أن يغلب الأهواء بالانخراط في الأمور العالميّة يشبه الّذي يريد أن يطفئ النّار بالقشّ".

أمّا التّجرّد أو النّسك فهو الحرّيّة الدّاخليّة الّتي تمكِّن الإنسان من استعمال أمور الدُّنيا من دون الاستعباد لها. تكلّمنا سابقًا عن أهميّة ضبط الحواسّ وقطع المثيرات، وهما من الأعمال النُّسكيّة. الابتعاد عمّا يسبّب التّجربة والتّعب عملٌ نُسْكِيّ. لكن لننتبه، فليس النُّسك عملًا سلبيًّا فقط، أي مجرّدَ امتناعٍ عمّا يؤذي الإنسان، بل عملٌ إيجابيّ أيضًا، يقوم على استبدال ما يؤذي بما ينفع، وتاليًا، عيشِ الحرّيّة واختبارِها بملئها. السّلوك بمقتضى ما هو لِخَيْري وخلاصي فعلٌ نسكيّ.

يرفض المؤمن ممارسة ما هو غير صالح طوال حياته، أمّا ما هو صالحٌ بِحَدِّ ذاته، فيرفضه في أوقات مُعيّنة كي يستبدله بما هو أكثر صلاحًا له، لا لكي يحرم نفسه أو يعذّبَها. تعذيب النّفس أو الجسد مفهوم غريب عن الحياة في المسيح كما تفهمه الكنيسة الأرثوذكسيّة. فالمطلوب هو تصعيد الجانبين الجسديّ والنّفسيّ في الإنسان وليس إلغاءهما، فالمسيحيّة لا تسعى إلى خلاص جزء من طبيعة الإنسان، بل الإنسان بكلّيته.

أخيرًا، لا بُدَّ من التّوقُّف عند مصطلح "روح أو حياة التّوبة". فمفهوم التّوبة نمطَ حياةٍ يرافقنا طالما نحن أحياء شبه غائب عن الأذهان. حياة التّوبة تخطٍّ مستمرٌّ لِما هو أفضل وأحسن وأكثر صلاحًا وخيرًا. أفضل تعبيرٍ لحياة التّوبة جاء على لسان بولس الرّسول: "أمتدّ إلى ما هو أمام وأنسى ما هو وراء". إنّه سَعِي لا حدود له، لأنّ الحياةَ مع الله مفتوحةٌ على المُطلق. بينما يشرح القدّيس يوحنّا السّلّمي التّوبة عملانيًّا بقوله: "ليست التّوبة حزنًا على الخطايا الماضية فقط، بل ممارسةُ الفضائل في زمن الشّدّة". فالحزن على وجود الرّذيلة يجب أن يقود الإنسان إلى العمل على استبدالها بالفضيلة. وهكذا يتابع ترقّيه من الرّذيلة إلى الفضيلة إلى الاكتمال في الفضيلة إلى تذوّق نعمة الله. إنّه طريق سعادة لا حدود له. تقول التّوبة للمسيحيّ: تستطيع أن تكون أفضل وأكمل، فلا تتوانى عن تنميّة الأمور الصّالحة فيك.

هكذا نرى أنّ حياة التّوبة حياةٌ إيجابيّةٌ يحياها المؤمن بفرح لكونه يسعى إلى الكمال. يقول الأب الرّومانيّ ديمتري ستانيلوي: التّوبة هي الإبرة الّتي يوخز الله قلوبنا بها حتّى لا تبقى واقفةً بل سائرةً باستمرار. ويعتبرها أحد القدّيسين نارًا متواصلة. إذا عشنا روح التّوبة هذا تصير كلّ الأسس الّتي تكلّمنا عليها معاشةً بشكلٍ دائمٍ ومستمرّ إلى أن تصير طبيعة حياتنا موافقة تلقائيًّا لإنجيل المسيح.

من أقوال القدّيس سلوان الآثوسي

- إنّ السَّيّد الرَّبّ ليس مثلنا. هو مفرط الرّقة، رحوم وطيّب، وعندما تعرفه النّفس تكون في دَهَشْ لا حَدَّ له.

- ليس على الأرض إنسان أعذب وفيه ملء الحبّ مثل سيّدنا يسوع المسيح. فيه فرحنا وحبورنا. فلنحبّه، لأنه سيُدخلنا إلى ملكوته وسنعاين مجده.

- كلّ من يسلّم ذاته إلى المشيئة الإلهيّة يحيا في السّلام، راضيًا بمَصيره، حتّى لو كان مريضًا أو فقيرًا أو معوزًا أو مقهورًا.

انقر هنا لتحميل الملف