Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 17 كانون الثّاني 2021

العدد 3

الأحد 12 من لوقا (ال10 البرص)

اللّحن 7- الإيوثينا 10

أعياد الأسبوع: *17: القدّيس أنطونيوس الكبير معلّم البرّيّة، الشَّهيد جاورجيوس الجديد (يوانّينا) *18: أثناسيوس وكيرلّلس رئيسا أساقفة الإسكندريّة *19: البارّ مكاريوس المصريّ، مرقس أسقف أفسس *20: البارّ إفثيميوس الكبير، الشّهيد إفسابيوس *21: البارّ مكسيموس المُعترف، الشّهيد ناوفيطس *22: الرّسول تيموثاوس، الشّهيد أنستاسيوس الفارسيّ *23: القدّيس اكليمنضوس أسقف أنقرة، الشّهيد أغاثنغلوس، ديونيسيوس الأولمبيّ البارّ.

كلمة الرّاعي 

القدّيس أنطونيوس الكبير: الحكمة في التّواضع 

”تَأْتِي الْكِبْرِيَاءُ فَيَأْتِي الْهَوَانُ، وَمَعَ الْمُتَوَاضِعِينَ حِكْمَةٌ“ (أمثال 11: 2)

تُعيِّدُ الكنيسة المقدَّسة، في هذا اليوم الواقع فيه السَّابع عشـر من شهر كانون الثّاني، للقدّيس أنطونيوس الكبير ”كوكب البريّة، ملاك الصّحراء  وأبو الرّهبان“. نسك القدّيس أنطونيوس في الصّحراء الدّاخليّة في مصـر ما يقارب الخمس وثمانين سنة، سلكها بالتّخلِّي الكامل إذ وزّع أمواله وممتلكاته الطّائلة على المساكين والمحتاجين، ولم يترك لذاته شيئًا.

قاده الرَّبُّ في جهاده وعلّمه سبيل الحياة الرّوحيّة المستقيم، فصار مقصدًا لرهبان عصره وكبارِ مؤسِّسي نظامٍ جمعَ بين عيش الجماعة والتّوحُّد، بالإضافة إلى حركة شعبيّة.

لعب دورًا كبيرًا ومهمًّا في تشديد عزم المسيحيّين أثناء الاضطهاد الآريوسيّ ضدّهم، فنزل إلى الإسكندريّة بين النّاس في الشّوارع والمنازل يشدِّدُهم ويصلّي معهم. وعظَ وشَهِدَ قائلًا: ”الّذي يتكلّمون عنه أنّه ليس إلهًا هو غيرُ المسيحِ الّذي أنا أعرفُه ويعرفُني ويَعرفُ كلَّ واحدٍ منّا. فيسوعُ هو ”إلهٌ تامٌّ وإنسانٌ تامّ“، وأكمل: ”الكلام عن الرّبّ يسوع المسيح يأتي من القلب المجبول بالصّلاة، وليس مِن أفكارٍ عقليّةٍ محضة، وفلسفاتٍ واستنتاجاتٍ وتحاليل“.

حياته كانت إنجيلًا حيًّا يشهد للمسيح الرَّبّ، وقد كان مدرسة في عيش وتعليم الكلمة الإلهيَّة. انكفاؤه عن العالم كان لأجل العالم، ولذلك، كان ينزل إلى المدينة حين تدعو الحاجة ليعزّي ويشدِّد ويثبِّت المؤمنين بالإيمان الفاعل بالمحبَّة والمثبّت بقوّة الرّوح القدس.

*          *          *

لعلَّ أهمّ ما كان يشدِّد عليه القدّيس أنطونيوس في حياته وتعليمه كان التّواضع. فهو عرف بتعليم من الله هذا الأمر حين قال: ”رأيت فخاخ العدوِّ في الأرض لامعةً، فقلت في نفسـي من ينجو منها ؟ فأتاني صوتٌ من السَّماء يقول: المتواضع“. كان القدِّيس أنطونيوس يفتَتح جميع إرشاداته بذكر فضيلة التَّـواضع وضرورتها الجوهريّة للخلاص. كان يقول أنّه ”بدون التَّواضع لا نستطيع أن ننجوَ من حِيَل الشَّيطان أوَّل المتكبِّرين“. وأنَّ ”التَّـواضع هو السُّور المكين الّذي نحتمي به من سهام العدوّ الجهنـَّميّ؛ فإذا هُدِمَ السُّور أصبحنا هدفـًا لسهام الأعداء، وهو أساس كلّ الفضائل؛ فعليه يجب أن نرفع بناء الكمال“. هذه الحكمة تعلَّمها بجهاده في الصّلاة والتّأمُّل الدّائم بالكلمة الإلهيَّة والهذيذ بها. كان يلهج بكلمات الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد، ويستقي منها بروح الرَّبِّ الحكمة الإلهيَّة.

كان القدِّيس أنطونيوس أُمِّيًّا. غير أنَّ الله أنعم عليه بما هو أفضل من العلم البشـريّ، إذ لسبب تواضعه منحه الحكمة الإلهيَّة. فكان له من العلم والفهم بالتّأمُّل، ما فاق به علماء عصره. وحصل القدِّيس أنطونيوس على هذه النِّـعمة بفيض الفضائل الإلهيَّة ونعمة التّمييز. وممَّا قاله في فضيلة التّمييز: ”إنـَّها سيِّدة جميع الفضائل“. ولما سُئِل يومًا عن الكمال المسيحيّ أجاب: ”للبلوغ سريعًا إلى الكمال المسيحيّ اِفتكر في أنَّـك تبدأ اليوم بخدمة الله. وافتكر في أنَّ هذا اليوم قد يكون الأخير من حياتك. إذا جرَّبك العدوّ فتذكَّر أنَّ الشَّيطان لا يقدر البتَّة أن ينتصـر على الصَّلاة والصَّوم وعلى محبَّة يسوع الحارَّة“.

*          *          *

أيُّها الأحبَّاء، القدِّيسون هم معلّمونا في طريق التَّقديس، وهم قدوتنا. صحيح أنّ القدّيس أنطونيوس الكبير كان راهبًا وناسكًا، ولكنّه عاش حياة الشّركة أيضًا مع الرّهبان ومع المؤمنين، وشاركهم اضطهاداتهم وضيقاتهم وأفراحهم بالرّبّ. وفي كلّ هذه الخبرة الطّويلة الّتي عاشها في حياة التّوحُّد، استخلص أنّ ”حياتنا وموتنا هما مع قريبنا، فإن ربحنا قريبنا نربح الله، وإن أعثرنا قريبَنا نخطئ ضدّ المسيح“. هـــــــذه هي خـــــــــــلاصــــة الحـــيـــاة المسيحيَّة والجهاد الرّوحيّ. هكذا نُرضي الله. كلّ نسكنا وتقشّفنا وصلواتنا وأعمالنا وخدمتنا غايتها أن نربح القريب. هكذا علينا أن نسلك لنكون مسيحيين في هذا العالم، هكذا نكون عاقلين في عيني الرَّبّ ومجانين في أعين البشر. هذا ما سبق فتنبَّأ عنه القدّيس أنطونيوس الكبير قائلًا: ”يأتي وقتٌ فيه يصاب البـشـر بالجنون، فإن رأوا إنسانًا غير مجنون، يهاجمونه، قائلين: أنت مجنون، إنّكَ لستَ مثلنا“... نعم!... نحن اليوم في هذا الزَّمن، لكن فلنثبت في الشهادة لحقّ الإنجيل كما ثبت، قبلنا، آباؤنا القدِّيسون والشهداء لينقلوا إلينا سرَّ الحياة الأبديّة والغلبة على الموت والخطيئة في طاعة الكلمة الإلهيَّة حتّى المنتهى...

ومن له اذنان للسّمع فليسمع...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة(باللَّحن السّابع)

حطمْتَ بِصَليبِكَ المَوت. وفتحتَ للِّصِّ الفِرْدَوس. وحوَّلتَ نَوْحَ حامِلاتِ الطّيب. وأمَرْتَ رُسلَكَ أن يَكرزِوا. بأنَّكَ قد قُمتَ أَيُّها المسيحُ الإله. مانِحًا العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.

طروباريّة القدّيس أنطونيوس الكبير (باللَّحن الرّابع)

لقد ماثلتَ إيليّا الغيّور في أحوالِهِ، وتَبِعْتَ المعمدان في مناهجِهِ القَويمَة، فغَدَوْتَ في البرّيّةِ ساكنًا وللمَسكونة بصلواتكَ مُشدِّدًا، أيّها الأبّ أنطونيوس، فتشفّع إلى المسيح الإله أن يُخلّص نفوسنا..

قنداق دخول السّيّد إلى الهيكل (باللَّحن الأوّل)

يا مَنْ بمَوْلدكَ أيُّها المسيحُ الإله، للمُستَوْدَعَ البَتوليّ قدَّسْتَ. ولِيَدَي سمعان كما لاقَ بارَكْتَ. ولنا الآن أدركتَ وخلَّصْتَ. احفَظ رعيَّتَكَ بسلامٍ في الحروب وأيِّد المؤمنين الّذين أحببتَهُم، بما أنَّكَ وحدَكَ مُحبٌّ للبَشَر.

الرّسالة(عب 13: 17– 21)  

كريمٌ بين يدَيّ الرَّبِّ موتُ أبرارِه

بماذا نكافئُ الرَّبَّ عن كلِّ ما أعطانا

 يا إخوةُ أطيعوا مدبِرّيكم واخضَعوا لهم، فإنَّهم يَسهرون على نفوسِكم سهرَ مَن سيُعطي حِسابًا حتَّى يفعَلوا ذلك بسرورٍ لا آنّين، لأنَّ هذا غيرُ نافعٍ لكم. صَلُّوا من أجلِنا فإنَّنا نثِقُ بأنَّ لنا ضميرًا صالحًا، فنرغَبُ في أن نُحسِنَ التّصرُّفَ في كلِّ شيء. وأطلُبُ بأشدِّ إلحاحٍ حتّى أُرَدَّ إليكم في أسرعِ وقت. وإلهُ السّلامِ الّذي أعادَ من بينِ الأمواتِ راعيَ الخرافِ العظيمَ بدم العهدِ الأبديّ ربَّنا يسوعَ يكمِّلُكم في كلِّ عملٍ صالِحٍ حتَّى تعمَلوا بِمشيئَتِه، عامِلًا فيكم ما هو مَرضِيٌّ لديهِ بيسوعَ المسيحِ الّذي لهُ المجدُ إلى أبدِ الآبدين. آمين.

الإنجيل (لو 17: 12– 19)(لوقا 12)

في ذلك الزَّمان، فيما يسوعُ داخلٌ إلى قريةٍ استقبلهُ عشَرةَ رجالٍ بُرصٍ، ووقفوا من بعيدٍ ورفعوا أصواتَهم قائلين: يا يسوعُ المعلّم ارحمنا. فلمَّا رآهم قال لهم: امضُوا وأَرُوا الكهنةَ أنفسَكم. وفيما هم منطَلِقُونَ طَهُروا. وإنَّ واحدًا منهم، لمَّا رأى أنَّه قد بَرئ، رجع يمجِّد الله بصوتٍ عظيم، وخرَّ على وجههِ عند قدَميه شاكرًا لهُ، وكان سامريًّا. فأجاب يسوعُ وقال: أليس العشَرةُ قد طَهُرُوا؟ فأين التِّسعة؟ ألمَ يُوجَدْ مَن يَرجِعُ لِيُمَجِّدَ الله إلّا هذا الأجنبيّ؟ وقال له: قُمْ وامضِ، إيمانُك قد خلَّصك.

حول الإنجيل

عجائب الرَّبّ يسوع تثبّت أنّه ابن الله كما قال المَلاك للعذراء وليوسف في البشارة. وهي علامات لمجد المسيح، ولا أحد يستطيع أن يأتي أو أتى بمثلها.

إنّ المَرَض والموت وكذلك فساد المُحيط، ناتج عن الخطيئة الّتي هي حالة يَعيشُها الإنسان السّاقط. لذلك اقتضى التّدبير الإلهيّ أن يتنازل ابن الله، ليُصبِحَ إنسانًا كي يحرّر الإنسان من الخطيئة، فعمل على تجديد العالم وعلى سعي الإنسان ليولد من  فوق، كما قال الرَّبّ لنيقوديمس. هكذا ينتفي المرض والموت.

كان يُنظر إلى مرض البرص أنّه عقاب لخطيئة كبيرة مرتكبة خاصّة النّميمة أو التّكبّر. وكان مُنتشرًا في ذاك العصر وتلك النّاحية. ميّزه الرّبانيّون اليهود بين نوعين: 1) بسيط وظاهر بصورة جروح وقروح، 2) البرص العصبيّ الّذي يبتدئ بآلام حادّة، ثم بفقدان الحسّ وسقوط الشّعر وشلل الأعضاء. كان الكهنة اليَهود يُعالِجون منه ما هو بسيط لأنّهم كانوا ملمّين ببعض المعلومات الطبيّة. ولكن عندما أرسل الرَّبّ يسوع البُرص ليُروا أنفسهم للكهنة، إذ بحسب سفر اللّاويّين كان الكهنة أوّلًا يتحقّقون من الشّفاء، ويطلبون منهم ثانيًا التّطهير عن طريق الذّبائح.

حصل الشّفاء على حدود الجليل مع السّامرة أو جنوبًا قرب أورشليم عند نزول يسوع إلى أورشليم حيث خشبة الخلاص. يقول الإنجيل "وقف البُرص بعيدًا"، ذلك لأنّ من واجب البُرص تطبيق الأوامر النّاموسيّة (النّاموس الموسوي) وعادات المُجتمع، بعدم الإختلاط مع بقيّة النّاس. "ورفعوا صوتًا قائلين يا يسوع يا معلّم ارحمنا". وتُحقِّق هذه الآية لنا اعتراف البرص: أ- بسلطة يسوع وسلطانه، ب- بصفته المسيانيّة، ج- بألوهته.

لم يستجب الرَّبّ يسوع طلبهم مباشرةً، بل امتحن صدق إيمانهم وأرسلهم إلى الكهنة للسّبب الّذي يتعلّق بالكهنة أعلاه. في الطّريق شعروا بشفائهم من مرضهم وأصبحوا طاهرين أي مقبولين لدى شعب الله. "فعاد أحدهم يمجّد الله بصوتٍ عظيمٍ وخَرّ على وجهه عند رجلَيْ يسوع شاكرًا له، وكان سامريًّا". إذن يعود واحدٌ ليشكر يسوع، أمّا التّسعة الآخرين لا يعودوا. كما في تاريخ الكتاب المُقدّس إنّ البَقيّة الباقية عددها قليل جدًّا يُرمَز إليها "بواحد"، أي "لا يوجد أو يبقى إلّا البقيّة المؤمنة".

ميزة أخرى عند الّذي عاد إلى يسوع أنّه "كان سامريًّا" أي غريبًا، كما في مثل السّامريّ الرّحيم الّذي قدّم عمل الرّحمة والمُساعَدَة لغريبٍ عنه في الجنس وهو الّذي وقع بين اللّصوص، بينما أبناء جنسه أهملوه (لوقا 10). ويهتمّ يسوع بأمر الّذي عاد لا من حيث أنّه سامريّ فقط بل من حيث أنّه عاد يمجّد الله. وقد ارتقى هذا الأبرص السّامريّ من مرحلة الطّلب والشّكر لله إلى تمجيد الله كقول المَلائِكة: "ألمجد لله في العُلى..." ألفرح بالشّفاء أنسى التّسعة سبب شفائهم. كما يحصل مع كلّ واحد منّا في حياتنا اليوميّة نركض إلى الله في وَجَعِنا وعندما يزول ألمنا أو نحصل على مبتغانا ننسى أن نمجّد الرَّبّ المُعطي كلّ شفاءٍ وصلاح. عودة السّامريّ بِمَثابة تنبيه للمؤمنين كي لا ينسوا مجد الله وتمجيده. لا توجد ضمانة للإنسان الّذي لا يمجّد الله. لا تكتمل الصّلاة في الطّلبات والشّكر بل في التّمجيد. لا تفيدنا الإحسانات الإلهيّة عندما ننسى بعدها الله.

"ثم قال قم وامضِ إيمانك خلّصك". عبارة مُلازِمَة للعديد من الشّفاءات، تأتي قبل الشّفاء كشرطٍ له وتأتي بعد الشّفاء كما في إنجيل اليوم. تدلّ هذه الآية على أنّ الشّفاء العجائبيّ يكمن في إيمان الإنسان الدّاخليّ، والإيمان في المسيح يسوع ربًّا ومخلّصًا هو وحده يستطيع أن يخلّص الإنسان. لم يقل يسوع "إيمانك خلّصك" سوى للإنسان الّذي عاد، وهذه ميزة روحيّة من الرَّبّ له، تفوق فيها على التّسعة الباقين. لذلك أنت وأنا ونحن، نُحافظ على إيماننا حتّى بعد حصولنا على مبتغانا من الرَّبّ، ويظهر استمرار المُحافظة هذه في تمجيد الله.

الحياة في المسيح(2)

للمطران سابا (اسبر) متروبوليت حوران وجبل العرب وتوابعهما 

كيف آلت الأهواء إلى هذا الواقع؟ يُرجع آباء الكنيسة أسباب عديدة، أوّلها ضعف العقل، لأنّه (أي العقل) بدأ يعمل باستقلاليّة عن القلب بعد السّقوط. فالتَّمزُّق الدّاخليّ الّذي نتج عن خطيئة الجَدَّيْن الأوَّلَيْن جعل العقل يعمل من دون تناغم مع النّفس. فأصبحت الحواسّ هي الّتي تَسود الإنسان وتستخدم العقل لتبرير سيادتها. ومن ثَمَّ، وبسبب سيادة الأهواء وتبرير العقل لها صار الإنسان خاضعًا للأهواء الّتي تدفعه إلى الرّكض وراء المِتَع الحسّيّة.

نميّز أرثوذكسيًّا بين الأشياء الّتي تعمل بحسب الطّبيعة وتلك الّتي تعمل بالاختيار الكامل، سواءً عن معرفة أو عن عدم معرفة.

 يقول القدّيس أنطونيوس الكبير: "ليس الأكل بخطيئة، بل تكمن الخطيئة في الأكل بلا شكر ولا انضباط. ليس النّظر بعفّة خطيئة، بل النّظر بكبرياء وشهوة. ليس الإصغاء بهدوء خطيئة، بل الإصغاء بغضب. ليس انشغال اللّسان بالشّكر والصّلاة خطيئة، بل التّكلّم بالشّرّ على الآخرين. ليس الشّرّ في أن تعمل يداك الرَّحمة، بل في أن ترتكب السّرقة. هكذا فإنّ أعضاءنا تخطئ وتصنع الشّرّ بدل الصّلاح عندما نعمل بحسب مشيئتنا الخاصّة لا بحسب مشيئة الله".

من الواضح أنّه لا توجد عندنا نظرة تدنيسيّة أو تَنجيسيّة لجزء من الإنسان، فالإنسان هو خليقة الله المكرَّمة المبارَكَة. لكنّ القوى الّتي سيطرتْ عليه وسادَتْ بعد السّقوط أبعدته عن مصدر خلقه وجعلته شرّيرًا يُدَنِّس ذاته. تكمن مسيرة الإنسان الجديد بعد المسيح في أن يُعيد وضعه إلى ما كان عليه أوّلًا؛ وقد صار هذا مُمكِنًا في المسيح.

لذا تقوم أسس الحياة في المسيح على عِدَّة أمورٍ منها: مُحارَبَة الأهواء وهي صغيرة، أي إيقاف انحراف هوىً ما ومن ثمّ إعادته إلى وضعه الطّبيعيّ. محاربة الأهواء وهي صغيرة أمرٌ مهمٌّ جدًّا في الإرشاد الرّوحيّ الآبائيّ. ولتأكيد أهميّة هذا الإرشاد يُعطي آباء الكنيسة، عادةً، تشبيه نزع الشّجرة من جذورها. فكلّما كانت صغيرة وفتيّة سهلت عمليّة نزعها من الأرض، وبالعكس تصعب بمقدار ما تكبر وتعمّر، وقد تتطلّب جهدًا هائلًا ومعونةً من عدّة أشخاص، لا بل قد تستدعي استخدام الآلات.

طالما أنّ عيوبَنا صغيرة يسهل التّغلُّب عليها. يُحارِب المؤمِن عيوبَه بجدّية وصدق منذ بدايتها.

كما تُعتبر معرفة الذّات إحدى الأسس الرّئيسة في الحياة في المسيح. يعتبر القدّيس اسحق السّوريّ "معرفة الذّات أهمّ من إقامة الموتى". جهل الإنسان بذاته يعني عدم معرفة عيوبِهِ وأهوائِهِ وانحرافاتِهِ، وتاليًا عدم التَّخلُّص منها. فما هو مجهول يبقى موجودًا؛ لكنّ الإنسان غير قادر على اكتشاف ذاته بمفرده.

من هنا تُعتبر المُواظَبَة على المطالعة الإنجيليّة والكتابات الآبائيّة المختصّة بالحياة الدّاخليّة والتّقدُّم من سرّ التّوبة والاعتراف من العوامل الأساسيّة المؤدّية إلى نموّ معرفة الذّات. فبمقدار ما يَعي الإنسان عيوبَهُ ويسعى إلى التَّخلُّصِ منها، يعرف انحرافاته ويسعى لتقويمها، وتزداد رهافة حِسِّهِ الرُّوحيّ ويتقدّم في معرفة دواخل ذاته وتعرّجاتها. يتدرّج الإنسان في معرفة ذاته ويترقّى فيها من مستوىً إلى آخر أرفع وأسمى. فالمَعرفة، ككلّ فضيلة، تنمو في الإنسان المجتهد.

نجد، في الواقع، أنّنا عندما نبدأ باكتشاف ذواتنا نندهش من كثرة السَّيِّئات المخبوءة فيها. لا يُدرك الإنسان سقوطه المريع إذا لم يفتح نوافذ نفسه على الله، ويرجع إليه في تحديد قيمه وفضائله. الانقطاع عن المؤثّرات الحسيّة والفكريّة الّتي تقود إلى الخطيئة ضروريّ جدًّا. بالحقيقة، تأتي معظم خطايانا من أشياء حسيّة، نشعر بها أو نراها أو نسمعها، فتُحَرِّضنا وتُثيرنا. هنا يرشدنا تراثنا الرّوحيّ إلى أهميّة حفظ الحواسّ وضبطها. فالحواسّ هي النّوافذ الّتي تدخل المثيرات من خلالها، إنّها الأرضيّة الّتي تتحرّك رياح الأهواء عليها.

 يقول القدّيس يوحنّا كاسيان: "لا يُطالِبُنا الله بأن نتخلّى عن علاقتنا بالنّاس، بل أن نقطع الأسباب الشّرّيرة من ذواتنا". أمّا القدّيس مرقس الأفسسيّ فيقول: "وحده الّذي يكره الأهواء يتخلّص من أسبابها. فمُحارَبَة الأهواء تبدأ في التَّخلُّص من مصادرها. والتَّحرُّر من الأهواء يعني كره انحرافها وكره الخطيئة النّاتجة عنها. فالأهواء تأتي منّا ومن المحيط الخارجيّ الّذي يحرّكها الكامن منها فينا. لذا يُنصح بالتَّدرُّب على ضبط الحواسّ، والابتعاد عن المحيط الموبوء قدر الإمكان. يتمّ ضبط الحواسّ بعدم استخدامها بما يؤدّي الى ارتكاب الخطيئة، وبِمَنْعِها من الاحتكاك بما يدفع إلى ذلك".

للأسف، نجد أنّ ثقافة العصر الحاليّ لا تشجّع على ضبط الحواسّ، لا بل تدفع إلى مُحاربته. يشبه الّذي لا يضبط حواسه من يُبارز الرّيح، لأنّه يحارب الهوى من دون التّصدّي للفتحة الّتي يأتيه الهوى من خلالها.

الوصفة العامّة لجميع النّاس بخصوص أسس الحياة الرّوحيّة المَسيحيّة هي إنجيل الرَّبّ يسوع المسيح. لكنّ هذه الوصفة ليست واحدة من جهة كيفيّة التَّدرُّب على العيش بحسبها، لذا تولي الكنيسة الإرشاد الشّخصيّ مكانةً مهمّة جدًّا. فالأمر يتطلّب معالجةً دقيقةً شخصيّةً لكلّ إنسان بمفرده. من هنا لا يمكن تحقيق هذه المَسيرة من دون حياة توبة واعتراف.

ليس الاعتراف، في الكنيسة الأرثوذكسيّة، مجرّد إقرار بالخطايا أمام الكاهن. إنّه كشف النّفس للطّبيب الرّوحيّ حتّى يداويها. تمامًا كما أنّ المريض يكشف علّته وموضعها أمام الطّبيب. قد يشترك العديدون بوجع عضوٍ ما، لكن بالمُعاينة، يكتشف الطّبيب الأسباب المختلفة الّتي تؤدّي إلى مرض كلّ شخص بمفرده، فيُعطي كلّ مريض الوصفة الطّبيّة المُناسِبَة له. هكذا يفعل أب الاعتراف النّاضج روحيًّا مع المُعترِفين.

فالأمراض الرّوحيّة هي واحدة، بعامّةٍ، لكنّ درجتها وأسبابها تختلف من إنسانٍ إلى آخر وكذلك ضعفه أمامها وبنية شخصيّته. يُعتبر هذا التّمييز أساسيًّا في المعالجة الرّوحيّة بحسب المنهج الآبائيّ. ومن هنا التّشديد على أهميّة الأب الرّوحيّ المُختَبَر والنّاضج.

(# للمقال_صلة)

انقر هنا لتحميل الملف