Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 10 كانون الثّاني 2021

العدد 2

الأحد بعد عيد الظّهور الإلهيّ

اللّحن 6- الإيوثينا 9

أعياد الأسبوع: *10: القدّيس غريغوريوس أسقف نيصص، والقدّيس دومتيانوس أسقف مليطة *11: البارّ ثيودوسيوس رئيس الأديرة، البارّ ﭬيتاليوس *12: الشّهيدتان تتياني و آفستاسيا، البارّ فيلوثاوس الأنطاكيّ *13: الشّهيدان أرميلس واستراتونيكس، البارّ مكسيموس (كَفسوكاليفيا) *14: وداع عيد الظّهور الإلهيّ، الآباء المقتوّلون في سيناء ورايثو *15: البارّان بولس الثّيبيّ ويوحنّا الكوخيّ *16: السّجود لسلسلة بطرس المكرّمة، الشّهيد دَمَسكينوس.

كلمة الرّاعي 

السُّلطة والفساد

”شَرٌّ مُتَفَاقِمٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، الدَّمُ وَالْقَتْلُ وَالسَّرِقَةُ وَالْمَكْرُ وَالْفَسَادُ وَالْخِيَانَةُ وَالْفِتْنَةُ وَالْحِنْثُ وَقَلَقُ الأَبْرَارِ...“ (حكمة 14: 25)

عيَّدنا في السّابع من الجاري للقدِّيس يوحنَّا المعمدان، السَّابق والصَّابغ الرَّبّ. قَطَعَ رأسَه هيرودس الابن، لأجل هيروديَّا زوجته خلافًا للشّريعة إذ هي إمرأة أخيه، بعد أن أغرته ابنتها برقصها فوعد أن يقدّم لها ولو نصف مملكته... (راجع متّى 14: 1—11). يوحنّا استُشهِد بسبب الفساد في إيمان وأخلاق وقيم ومبادئ هيرودس وخضوعه للَّذَّة، لذّة الجسد ولذَّة السّلطة...

كلَّما زاد المال عند المرء كلَّما زاد طلبه للسّلطة، والمال والسّلطة في عمقهما طلب للذَّة الجسد والتّنعُّم وطلب المديح والتّعظُّم في عيون الذَّات والنّاس. من يملك المال والسّلطة ويقع في أسرهما يصير شيطانًا لأنّه يرغب باستعباد النّاس لذاته، أي هو يؤلّه نفسه انطلاقًا من إيمانه بماله وسلطته.

هذا هو الموت  الرّوحيّ الّذي يصعب على الإنسان أن يتحرَّر منه، إلّا برحمة الله...

*          *          *

السّلطة، بعامّة، خطر كبير على الإنسان لأنّها تجعله يظنّ نفسه سيِّدًا في حين أنّ لا سيِّد إلّا الرَّبّ. الفساد الأخلاقيّ يرافق من يقعون في حبائل شيطان السُّلطة، لأنّ كلّ شيء يصير مُباحًا لهم إذ هم القانون وهم القاضي وهم الشّرطيّ... هؤلاء يعتقدون أنّهم فوق الجميع إذ ليس من يُحاسبهم بين البشر... أذكى النّاس يصيرون أغباهم حين يتقبَّلون هذا الفكر، لأنّ الإنسان ”تراب ورماد“ (تكوين 18: 27 وسيراخ 17: 31)...

عندما يبتعد الإنسان عن مخافة الله يفقد الحكمة الَّتي تقوده في طريق الحياة الأبديَّة، لأنَّ الموت حاضر دومًا ليخطف الإنسان في لحظة لا يعلمها. يعتقد صاحب الأموال أنّ أمواله قادرة على منحه الحياة، ولكنّه يُصدَم بأنّ الموت قريب على الأبواب، ويظنّ صاحب السّلطة أنَّ سلطته تغلب الموت فيتفاجأ بعجزه الكلّيّ حين تأتي ساعته. ”الْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ الرِّيحِ“ (جامعة 1: 14، راجع أيضًا الاصحاح 2). كلّ ما في العالم يبقى في العالم، ومن يعمل للفانيات فحين يترك الدُّنيا يخسر وجوده ويدخل في جحيميَّة لا نهاية لها، لأنّ ما كان يُسرُّ به يصير مصدر ألمه الأبديّ إذ لا يبقى له منه سوى المرارة... ما نفع اللّذة والمال والسّلطة، هي لا تشتري حياة الإنسان ولا تفديه، لأنّ المستكبر يد الرَّبِّ عليه وهو يقول للشّرّير: ”أُهْبِطَ إِلَى الْهَاوِيَةِ فَخْرُكَ، رَنَّةُ أَعْوَادِكَ. تَحْتَكَ تُفْرَشُ الرِّمَّةُ، وَغِطَاؤُكَ الدُّودُ“ (إشعياء 14: 11). فأين قوَّة السّلطة والمال في هذا العالم؟!...

*          *          *

نحن في زمنِ تضعضعٍ إنسانيّ... حكّام مصابون بجنون العظمة، بشـر مستعبدون لطلب اللَّذَّة، عِوَضَ اللُّقيا بين النّاس صار التَّباعُد هو المطلوب، بدل الفرح بالآخَر يدخل الخوف منه، عوض الانتظام والرّقيّ ندخل في الفوضى والانحطاط... صار الحقُّ ممجوجًا والباطِلُ مطلوبًا، الإيمان غباوة والإلحاد ذكاء، الفساد حرَّيّة والاستقامة عبوديَّة... إلى أين وصلت البشـريَّة في هذا الزّمن؟!... لقد تغرَّبت بحضارتها وعلمها وثقافتها وفلسفتها وإيمانها عن حقِّ الرَّبّ الَّذي كشفه لنا في المسيح يسوع وفي ظهور سرّ الله المثلَّث الأقانيم في نهر الأردنّ. فساد الحكام مربوط بفساد الشّعوب، وفساد الشّعوب سببه البُعد عن الله، والبُعد عن الله مصدره محبَّة الذَّات المريضة بأهوائها. الإله الحقّ استعلن لنا في يسوع المسيح، وحقَّق ما أنبأ به بروحه القدّوس في أنبيائه عنه. الكلّ معروف ووارد في كتاب الله، وقد تمَّ وأُكمِل في ابنه المتجسِّد. هل نحن المسيحيّين نقوم بدورنا في الشّهادة لحقّ الرَّبّ ونبذ الظّلم والتّسلُّط ومحاربة الفساد؟!...

*          *          *

أيُّها الأحبَّاء، لا سلطة سوى سلطة المحبَّة، وحيث المحبَّة هناك الإيمان والاستقامة والجِدِّيَّة مع التّواضع والبذل والمُسامَحة. نفتقد في هذا الزّمن إلى الإيمان الفاعل بالمحبّة عند المسؤولين  والعديد من الشّعب، لأنّه حيث الإيمان يُحارَب الفساد وتنمو الإنسانيّة في بنيان المجتمعات على الحقّ الإلهيّ الّذي يسمو على القوانين الوضعيَّة لأنّه مرتبط بالضّمير في طاعة الوصيَّة الإلهيَّة.

لا خلاص لنا من فساد التّسلُّط وتسلُّط الفاسدين إلّا بالعودة إلى الله، وبوجود شهود شهداء كيوحنَّا المعمدان الَّذين لا يهابون وجه إنسان بل يكشفون الحقّ ويفضحون الباطل بحياتهم وكلماتهم، ويكرزون بالتّوبة والعودة إلى الله، ويحملون حَزْمَ الكلمة وقَطْعَهَا بين الحقِّ والباطل، ويدفقون حنان الله على الرّاجعين إلى الرَّبّ، ويمنحون غفران  السَّيِّد للمنكسـرين المنسحقي القلوب حزنًا على خطاياهم، ويمنحون نعمة العليَّ للَّذين يطلبونه بتواضع ويسلمونه حياتهم ويعملون لتحقيق مشيئته. كلُّ مؤمن مطلوب منه اليوم أن يكون  يوحنَّاويًّا في حياته: ”صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً“ (متَّى 3: 3).

فهل مَنْ يَستجيب؟!...

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن السّادس)

إِنَّ القوَّاتِ الملائِكِيَّة ظَهَرُوا على قبرِكَ الـمُوَقَّر، والحرَّاسَ صَارُوا كَالأَموات، ومريمَ وَقَفَتْ عندَ القَبْرِ طَالِبَةً جَسَدَكَ الطَّاهِر، فَسَبَيْتَ الجَحِيمَ ولَمْ تُجَرَّبْ مِنْهَا، وصَادَفْتَ البَتُولَ مَانِحًا الحَيَاة، فَيَا مَنْ قَامَ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَاتِ، يَا رَبُّ المَجْدُ لَك.

طروباريّةُ الظّهور الإلهيّ (باللّحن الأوّل)

باعتمادك يا ربّ في نهرِ الأردن ظهرت السَّجدةُ للثّالوث، لأنّ صوتَ الآبِ تَقَدَّمَ لكَ بالشّهادة، مُسَمِّيًا ايّاكَ ابنًا محبوبًا، والرّوح بهيئة حمامة يُؤيِّدُ حقيقةَ الكلمة. فيا مَن ظهرتَ وأنرتَ العالم، أيّها المسيحُ الإله المجد لك.

قنداق الظّهور الإلهي (باللّحن الرّابع)

اليومَ ظَهَرتَ للمسكونةِ يا رَبّ. ونُورُكَ قد ارتَسَمَ علَينا. نحنُ الَّذين نسبِّحُكَ بمعرفةٍ قائلين. لقد أتيتَ وظَهَرتَ. أيّها النّورُ الّذي لا يُدنى مِنهُ.

الرّسالة (أف 4: 7– 13)

لِتَكُن يا ربُّ رحمَتُكَ عَلَينا

ابتهِجوا أيُّها الصدّيقونَ بالرّبّ

يا إخوة، لِكُلِّ واحدٍ مِنّا أُعطِيَتِ النِّعمةُ على مقدارِ موهبةِ المسيح. فلذلك يقول: لمّا صعد إلى العُلى سبى سبيًا وأعطى النّاسَ عطايا. فكونُهُ صعد هل هو إلّا أنّه نزل أوّلًا إلى أسافل الأرض؟ فذاك الّذي نزل هو الّذي صعد أيضًا فوق السّماوات كُلِّها لِيَملأ كُلَّ شيء. وهو قد أعطى أن يكونَ البعضُ رُسُلًا والبعضُ أنبياءَ والبعضُ مُبشِّرينَ والبعضُ رُعاةً ومُعلِّمين، لأجلِ تكميلِ القدّيسين، ولعَمَلِ الخدمة، وبُنيانِ جسدِ المسيح. إلى أن ننتهيَ جميعُنا إلى وَحدةِ الإيمانِ ومعرفةِ ابنِ الله، إلى إنسانٍ كاملٍ، إلى مقدار قامةِ مِلءِ المسيح.

الإنجيل (متّى 4: 12– 17)

في ذلك الزّمان، لمّا سمعَ يسوعُ أنّ يوحنّا قد أُسلم، انصرف إلى الجليل، وترك النّاصرة، وجاء فسكن في كفرناحوم الّتي على شاطئ البحر في تُخومِ زبولون ونفتاليم، لِيَتِمَّ ما قيل بإشعياء النّبيِّ القائل: أرضُ زبولونَ وأرضُ نفتاليم، طريقُ البحر، عِبرُ الأردنّ، جليلُ الأمم. الشّعبُ الجالسُ في الظّلمة أبصرَ نورًا عظيمًا، والجالسونَ في بُقعةِ الموتِ وَظِلالِهِ أشرقَ عليهِم نُور. ومنذُئذٍ ابتدأ يسوعُ يَكرزُ ويقول: تُوبوا فقدِ اقتربَ مَلَكُوتُ السّماوات.

حول الإنجيل

ما زلنا نمضي أوقاتًا وأيّامًا حلوة ومباركة مع عيد الغطاس ومع يوحنّا المعمدان، ذاك الّذي ظهر معلنًا عن مجيء يسوع المسيح، وقد عرَفنا عليه، إضافةً إلى أنّه هيَّأ الشّعب من أجل أن يكون مستعدًا لمرحلة روحيّة جديدة، تقود البشريّة إلى الخلاص.

وبداية المرحلة الجديدة بحسب يوحنّا المعمدان، يجب أن تكون من خلال الكشف عن الخطيئة وقطعها نهائيًا، لذلك، يقول النّصّ الإنجيليّ الّذي سمعناه الآن: "الشّعب السّالك في الظّلمة أبصر نورًا عظيمًا". أمّا بحسب تعليم الرب يسوع فإنّ انطلاقة المرحلة الجديدة يجب أن تبدأ بالتّوبة. لذا، كانت أوّل كلمة أو أوّل عظة قالها السّيّد للشّعب، من بعد معموديته: "توبوا لأنّه قد اقترب ملكوت السّماوات" (متّى 17:4). هو يدعوهم إلى التّوبة. كلمته وإن كانت مقتضبة إلَّا جوهريَّة غذ تشكّل أمرًا أساسيًّا في حياتنا الرّوحيّة، أي أن نتوب.

التّوبة كما يعرّفها الآباء القدّيسون هي "تغيير الذّهن أو العقل". التّوبة ليست أن تبكي أو تنوح بل هي أن تغيّر ذهنك وطريقة تفكيرك، إن كنت تفكّر دَوْمًا بالخطيئة أو كنت منغمسًا بهوى من أهوائك، عليك أن توقف التّفكير به أو عنه وتبدأ التّفكير بالأمور الصّالحة، وبذلك تكون قد قمت بتغيير ذهنك عن التّفكير بالشّرّ إلى التّفكير بالأعمال الصّالحة. هذا هو المعنى الحقيقيّ للتّوبة. إذًا التّوبة ليست أن تبكي أو أن تعاتب نفسك، بل هي أن تغيّر ذهنك لتُصلِحَ حياتك، لتُصلِحَ ذاتك فتصبح إنسانًا جديدًا.

لذلك، علينا أن نتوب ونعترف بقلبٍ طاهرٍ بخطايانا. فإنَّ مَن يُخفي خطاياه يُسبِّبُ فَرَحًا للشّيطان، وأمَّا مَن يعترف بها فيكون مصدر فرحٍ عظيمٍ للملائكة وسعادةٍ لله. لأنَّ الله لا يفرح بتسعةٍ وتسعين بارًّا بقدر ما يفرح بخاطئٍ واحدٍ عندما يتوب توبةً كاملةً وطاهرة. وبما أنَّ الله يفرح هكذا من أجل توبتنا فلا يجوز لنا أن نحمل خطايانا إلى ساعةِ موتنا إذ تصبح كالصّدأ لنفسنا، بل يجب علينا أن نرفضها وأن نعترف بها مثل العشَّار. لأنَّه حينما يقوم جميع الرّاقدين عند المجيء الثّاني للمسيح، فإنَّنا سنعطي حسابًا على كلِّ أفعالنا وأفكارنا وأقوالنا (للقدِّيس صفرونيوس البلغاري).

أمّا مِن ناحية أخرى، عن أي نور يتكلّم يوحنّا المعمدان؟ عن نور المسيح، كلّنا أخذنا هذا النّور يوم المعموديّة، لكن هل ما زال مشتعلًا فينا؟، هل ما زال ينير الظّلمة الّتي دخلنا فيها بسبب خطايانا؟. كلّ إنسانٍ ممَّد لديه نور المسيح، وخصوصًا الّذي يشترك بجسد المسيح ودمه، أمّا الّذي لا يشترك بهما فهو لا يغذّي هذا النّور بل يدعه ينطفئ، الإنسان التّائب هو الّذي يهيّئ نفسه لإشعال النّور في داخله.

الحياة في المسيح (1)

للمطران سابا (اسبر) متروبوليت حوران وجبل العرب وتوابعهما

لا تألف الكنيسة الشّرقيّة مصطلح "الرّوحانيّة". المصطلح التّراثيّ المُستخدمَ فيها هو "الحياة في المسيح". يقصد اليوم بالرّوحانيّة بعامّة النّهج الرّوحيّ الّذي يتبعه هذا أو ذاك وفقًا لإيمانه. حسب ثقافة عصرنا، لكلّ إنسان روحانيّته، ولا يشمل هذا المصطلح المتديّنين بالمعنى التّقليديّ فقط. فحتّى اللّا دينيّين لهم روحانيّاتهم الخاصّة بهم. تعرف بعض الكنائس روحانيّات عديدة متنوّعة ضمن الجسم الكنسيّ الواحد. فعلى سبيل المثال، نجد لكلّ رهبنة في الكثلكة روحانيّـتها المميِّزة والخاصّة بها. أمّا أسس المسيرة الرّوحيّة في الأرثوذكسيّة فواحدة، وإن تلوّنت وتنكّهت بمواهب وخصوصيّات الشّخص الّذي يلمسه الرّوح القدس، ويخاطب، عبره، أناس عصره.

هدف "الرّوحانيّة"، إذا ما استخدمنا المصطلح بمفهوم "الحياة في المسيح"، يكمن في الوصول إلى كمال المؤمن في المسيح، وإلى اتّحاد المؤمن مع الله في المسيح. يبقى هذا الهدف مفتوح على المطلق، بحسب تعليم آباء الكنيسة، لأنّ حياة الكمال مع الله لامتناهية، وينتقل الإنسان فيها من مجد إلى مجد، على ما كتب بولس الرّسول.

في كلّ الأحوال، ثمّة مقولة يتداولها آباء الكنيسة، يصوغها، بكلام يفهمه الإنسان المعاصر، القدّيس صفروني زخاروف، وتقول ما مفاده أنّ الإنسان يتطبّع بحسب الإله الّذي يؤمن به، أي أنّ صفات الله الّذي أؤمن به وأعاشره تطبع طبيعتي بها وتجعلني على شبهه.

بماذا تتميّز الحياة في المسيح في الكنيسة الارثوذكسيّة؟ في الواقع ثمّة فرادة لا يدركها الكثيرون، لأسباب عديدة، منها تأثّرهم بثقافات أخرى أكثر من ثقافة كنيستهم.

تبدأ المسيرة الرّوحيّة من معرفة النّظرة الأرثوذكسيّة للإنسان وأهوائه. ماذا تعني الأهواء؟ الهوى لغةً يعني "الميل إلى". أهوى الشّيء أي أميل إليه، أحبّه. وتحمل اللّفظة في اللّغة اليونانيّة معنى الألم، ومنها اشتُقّت باللّغات اللاتينيّة Passion.

يرى اللّاهوت الأرثوذكسيّ أنّ هذا الميل نحو شيء غير حسن علامةٌ على وجوده، في الأصل، باعتباره ميلًا لشيء آخر حسن. فالإنسان المخلوق على صورة الله مدعّو، أساسًا، إلى البلوغ إلى مثال الله. والأهواء الّتي فيه قبل السّقوط كانت أهواء صالحة تساعده في مسيرة النّموّ نحو المثال الإلهيّ. لكنّ صورة الله هذه تشوّهت بسقوط الإنسان الأوّل، ممّا شوّه الأهواء وجعلها تنحرف عن مسارها الأصليّ. لم تختفِ الأهواء الصّالحة من الإنسان السّاقط، لتحلّ أهواء ساقطة محلّها، بل هي إيّاها تبدّلت عن هدفها الأوّل. ماذا حدث فعليًّا في سقوط آدم وحوّاء؟ يقول القدّيس صفروني ثمّة كارثة حلّت بالإنسان والخليقة، لكن "بإمكاننا أن نختبر حالة السّقوط، الّتي هي انحراف رهيب عن حبّ الآب".

"فالأهواء الّتي كان الله قد أوجدها في الإنسان اتّجهت اتّجاهًا مخالِفًا للاتّجاه الّذي خلقها الله لأجله، فصارت تطلب عكس ما وُجدت لأجله. من هنا لا تقوم الحياة في المسيح، بحسب المنهج الأرثوذكسيّ، على استئصال الأهواء وإماتتها، بل على إعادتها إلى الوضع الأوّل الّذي كانت عليه قبل السّقوط، أي تقويمها ثانية.

يقول القدّيس يوحنّا السُّلَّمي (+649) إنّ الهوى ليس شيئًا موجودًا فينا كما نعرفه الآن، بمعنى أنّ الله لم يخلق الأهواء السيّئة. ويتابع قائلًا إنّ العديد من الفضائل الطّبيعيّة أتت إلينا بواسطة الأهواء الّتي أوجدها الله فينا قبل السّقوط. ويعطي أمثلة كالتّالي: بذرة الإنجاب طبيعيّة فينا، لكنّنا حوّلناها إلى الزّنى. الغضب الّذي أعطانا الله إيّاه لكي نثور ضدّ الشّيطان والشّرّ طبيعيّ فينا، ولكنّنا استعملناه ضدّ القريب. لدينا حافز طبيعيّ لكي نتفوّق في الفضيلة، لكنّنا بدل ذلك نتنافس في الشّرّ. تثير الطّبيعة فينا التّنافس في المجد، ولكنّه المجد السّماويّ، والفرح بالبركات السّماويّة. من الطّبيعيّ أن نتكبّر على الشّياطين. الفرح مُلكٌ لنا بالطّبيعة ويجب أن يكون فرحًا لحساب الرَّبّ ولصالح فعل الخير لقريبنا. لقد أعطتنا الطّبيعة استياءً، لكنّه يجب أن يكون ضدّ أعداء نفوسنا. لدينا رغبة طبيعيّة في الطّعام، ولكن ليس للإسراف.

فهذه الأهواء طبيعيّة فينا، ولكنّها، نتيجة الخطيئة، تحوّلت عن مسارها واتّجهت اتّجاهًا مُخالِفًا يدمّر الإنسان ويؤذيه. والمطلوب من الانسان بعد مجيء المسيح، أن يعيد هذه الأهواء إلى حالتها الطّبيعيّة الأولى. هكذا نرى أنّ الفرق كبير جدًّا بين أن نقوّم هذه الأهواء وبين أن نُميتها أو نستأصلها. لا يعرف تراثنا كلمة إماتة، ففعل ما يعرف في بعض الكنائس بالإماتة يُستخدم عندنا كفعل تقشّف أو تهذيب أو تحرّر.

نحن مدعوّون إذًا لكي نميّز بين الشّرّير فينا وبين السّليم، حتّى نعرف كيف نحوّل الأمور ونعيدها إلى وضعها الطّبيعيّ. في معرفة دقيقة لنفس الإنسان وتمييز رهيف بين ما هو أصليّ وما هو زائف، يقول القدّيس مكسيموس المعترف (+662): "ليست الأطعمة هي الشرّيرة، بل النَهَم. ليس إنجاب الأطفال، بل النّجاسة. ليست الأشياء المادّيّة هي الدَّنِسة، بل البخل. ليست الكرامة هي الشّرّيرة، بل الكبرياء".

ثمّة قوىً طبيعيّة في النّفس لازمة لها. أفسدت الخطيئة، وتاليًا البعد عن الله، هذه القوى، فصار المطلوب هو إعادة هذه القوى الى طبيعتها الأصليّة. إنسانٌ لا يغضب، على سبيل المثال، ولا شيء يحرّكه ولا يتحمّس لأيّ صلاح، إنسانٌ جامدٌ سلبيّ من دون أحاسيس passive. نقول عنه بالعاميّة "حائط وليس إنسانًا". الغضب هوىً مزروع فينا لكي نغضب على الشّرّ، لكي نمقت كلّ ما هو فاسد وغير صالح، وإلّا فكيف نحارب الشّرّ ونواجهه. إن كان إحساسنا لا يتحرّك فينا يصير الصّالح والطّالح، الأسود والأبيض، بالمستوى نفسه.

الأهواء بطبيعتها، كما هي بعد سقوط الإنسان، انحراف لطموح الإنسان. قال أحدهم بحقّ: تشدّ الأهواءُ الإنسانَ إلى العالم الّذي يصغّره، بينما إذا شدّته إلى الله، يكبر ويصير صالحًا. واقع الأهواء اليوم أنّها تقودنا إلى الخطايا، والخطايا تعذّبنا وتولّد ألمًا فينا.

(يتبع)

انقر هنا لتحميل الملف