Menu Close
kanisati

نشرة كنيستي

نشرة أسبوعية تصدر عن أبرشية زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس. أعاد إطلاقها الميتروبوليت أنطونيوس في فصح ٢٠١٧.

الأحد 26 كانون الثّاني 2020      

العدد 4

الأحد 15 من لوقا (زكّا)

اللّحن 7- الإيوثينا 10

أعياد الأسبوع: *26: البارّ كسينفوندس مع زوجته ماريّا وولدَيه أركاديوس ويوحنّا *27: نقل جسد القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم، القدّيسة ماركيانيس *28: البارّ أفرام السّريانيّ، البارّ بلاديوس *29: نقل بقايا الشّهيد في الكهنة إغناطيوس المتوشّح بالله *30: الأقمار الثّلاثة وأمّهاتهم: آميليا- نونة- أنثوسة *31: كيرُس ويوحنّا العادما الفضّة، الشّهيدة أثناسيّا وبناتها *1: تقدمة عيد الدّخول، الشّهيد تريفن.

كلمة الرّاعي

اليوم حصل الخلاص لهذا البيت

اليوم، وكلّ يوم، الرَّبّ حاضر وفاعل في حياتنا. هو يأتي إلينا. يدعونا بأسمائنا، لأنّه الرّاعي الصّالح وهو ”يدعو خرافه بأسمائها“ (راجع:  إنجيل يوحنّا 10: 3). ليس الإنسان رقمًا عند الله بل وَجهًا ... لا يعرفنا العالم كما يعرفنا الله. في العالم البشر أعداد ليس إلّا، أمّا عند الله فكلّ منّا صورته وموضوع حبّه الإلهيّ ... الله ليس بعيدًا عن خليقته، بل هو أقرب منّا إلينا ... هو ينادينا، يريد أن يكلّمنا ليدلّنا على طريق الحياة الأبديّة والفرح ... لقد أتى ليخلّصنا من عبوديّة الموت الّتي بالخطيئة والشّهوات والأهواء. إنّه ينتظر جوابنا على مبادرات حبّه ... فهل مَن يستجيب؟! ...

*          *          *

ما هي مشكلة الإنسان مع الله؟ إنّها عدم قدرة المخلوق على فهم الخالق أو بالأحرى عجز الإنسان عن احتواء وضبط حقيقة مُبدعه وبارئه. بسبب السّقوط، صار الإنسان مَحدودًا لأنّه خسر الوحدة بالرّوح مع الَّذي نفخ في أنفه نسمة الحياة الأبديّة. صارت علاقة الإنسان بالله عقلانيّة لأنّ المصنوع من العَليّ خسر مصدر الإدراك الرّوحيّ في كيانه الَّذي هو نعمة الرُّوح القدس. بدون هذه النّعمة لا يستطيع الإنسان أن يَبني مع الرَّبّ علاقة حقيقيّة ويدخل في سرّ المعرفة الَّذي هو الوَحدة ... معرفة الإنسان لذاته تشوّهت بسبب الخطيئة الأولى، إذ اعتبر هذا الأخير نفسه مستقلًّا عن مَنْ أوْجَده وقائمًا بذاته لذاته، فانقسم البشر على بعضهم البعض ودخلوا في الفوضى الكيانيّة والكَوْنيّة ... وصار الإنسان منقسمًا على نفسه يعرف الخير بالضّمير، ولو لم يكن نقيًّا بالكلّيّة، ومن خلال النّاموس ولكنّه يفقه نفسه عاجزًا عن إتمام البِرّ، لا بل المصيبة الأكبر، أنّه يفعل الشّرّ الّذي لا يريده ...

*          *          *

”لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَالْمَالَ“ (إنجيل متى 6: 24). للمال سلطان على الإنسان كبير جدًّا، لأنّه ”عَصَبُ“ الحياة في العالم. اخترع الإنسان هذه الأداة لتخدمه فصار عبدًا لها. لا بل صارت، في نظر أبناء هذا الدّهر، مصدر الحياة ... لذلك، ترى البشر يركضون ويلهثون وراء المال وجمعه، ظنًّا منهم أنّ هذا يجعلهم في أمان من مخاطر الزَّمَن. لكن، الحقيقة هي أنّ المال يأسر الإنسان ويجعله يخسر أهمّ ما في الحياة، ألا وهو الحبّ النّقيّ، لأنّ المُستعبَد للمال يقيس الوجود بناءً على ما يملك ويقيّم النّاس بمُقتنياتهم. حبّه الأوّل والأخير هو لنفسه وكلّ ما عداه برسم البيع والشّراء ... بماله ...

لا يستطيع عابد المال أن يؤمن إلّا بذاته وبأمواله الّتي تمثّل مصدر السّلطة والقوّة والوجود بالنّسبة إليه. مَنْ يملك نقودًا منقولة أو غير منقولة ينوجد ومن لا يملك هو غير موجود بالنّسبة إليه. هذا الكائن يصير وحشًا كاسرًا لا يهمّه أحد وقادر أن يسحق كلّ من يعترض مصالحه وكلّ من يُعيق سعيه لاقتناء ”إكسير الوجود“،  عَنَيْتُ به المال ...

*          *          *

بيت الإنسان الأوّل هو قلبه. بيته الثّاني أخصّاؤه. بيته الثّالث هو محيطه. بيته الرّابع هو بلاده، وبيته الخامس هو العالم كلّه. الرَّبّ يسوع أتى ليخلّص الإنسان وبيته. الخلاص يبدأ في القلب، والخلاص هو التّحرُّر من الموت وأسبابه أي من كلّ تعلُّق كيانيّ بما ليس هو، أو بالأحرى بِمَن ليس هو، مصدرًا للحياة. مستحيل على الإنسان أن يحيا، بالحقيقة، كما خُلِقَ ليكون بدون قوّة الله لأنّه على صورته. استبدل الإنسان الله، مصدر الحياة، بصنم أصمّ أبكم لا يُبصر هو المال. الإنسان يريد إلهًا من هذا النّوع، أي إله خاضِع لتصوّرات قلبه لأنّه وسيلة اقتنائها. هكذا يُصنِّم النّاس الله ويتعاطون معه كأداة لتحقيق مآربهم ... لذلك، معظم البشر مُلحدون عمليّون لأنّهم يريدون إلهًا خاضِعًا لهم أي هو وسيلة إشباع خَوَرِهم الكيانيّ. يظنّون أنّ لهم بالمال حياة، وهكذا يقبعون في كُفرهم فلا يستطيعون أن يؤمنوا، لأنّهم يطلبون مجدًا بعضهم من بعض بناءً على ما يملكون من مقتنيات، ساعين وراء سراب لأنّهم لا يطلبون مجد الله ... (راجع: يوحنا 5: 44).

*          *          *

أيّها الأحبّاء، اليوم، يدعونا الرَّبّ إلى الحياة الأبديّة والمعرفة الحقَّانيّة الّتي في يسوع المسيح لله الآب بنعمة الرُّوح القدس (راجع: يوحنا 17: 3). خلاص بيتنا يكون بالتّخلِّي عن الكذبة الكبرى بأنّ المال هو مصدر حياتنا وأساس أماننا وضمانة كرامتنا. الله هو الّذي يُعطينا قيمتنا ويضمن وجودنا الأبديّ ويمنحنا الرّاحة الكاملة والسّلام في القلب بِسَكْبِ حنانه علينا عبر تبنّيه لنا في سرّ الحبّ الإلهيّ، الّذي كشفه يوم أرسل ابنه الوحيد ليتَّخذ ما لنا كي يهبنا ما له، إذ حمل ضعفاتنا وخطايانا مفتديًا إيّانا من موت الخطيئة وبارئًا لنا من فوق بانحدار الرُّوح الإلهيّ علينا في ابنه المتأنّس. مجدنا أن لا يبقى بيننا مُحتاج وبائس وفقير ومتألّم وحزين ... أن نكون حاضرين لأجل بعضنا البعض هو كنزنا ومالنا الّذي يمكننا الافتخار به أمام عرش العليّ لأنّه ثمرة الحبّ والحنان الإلهيّيَن الفاعلَين فينا بالنّعمة، وما عدا ذلك من أموال وكنوز ليست سوى أصنام تأسرنا وتستعبدنا وتمسّخنا مدمِّرة الصّورة الإلهيّة فينا فنخسر خلاصنا.

اليوم يحصل خلاص بيتنا إذا ما تحرَّرنا بحبّ الآخَر المُطلَق، أي الله، عبر بذل حياتنا بالتّخلي عن كلّ تعلّق بأيّ نوع من أنواع المُمتلكات لأجل من يضعه الله في طريقنا لنصير له إخوة وأخوات ...

ومن له أذنان للسّمع فليسمع.

+ أنطونيوس

مـتروبوليــت زحلة وبعلبك وتوابعهـما

طروباريّة القيامة (باللَّحن السّابع)

حطمْتَ بِصَليبِكَ المَوت. وفتحتَ للِّصِّ الفِرْدَوس. وحوَّلتَ نَوْحَ حامِلاتِ الطّيب. وأمَرْتَ رُسلَكَ أن يَكرزِوا. بأنَّكَ قد قُمتَ أَيُّها المسيحُ الإله. مانِحًا العالمَ الرَّحمةَ العُظمى.

قنداق دخول السّيّد إلى الهيكل (باللَّحن الأوّل)

يا مَنْ بمَوْلدكَ أيُّها المسيحُ الإله، المُستَوْدَعَ البَتوليّ قدَّسْتَ. ويَدَي سمعان كما لاقَ بارَكْتَ. وإيّانا الآن أدركتَ وخلَّصْتَ. احفَظ رعيَّتَكَ بسلامٍ وأيِّد الّذين أحببتَهُم، بما أنَّكَ وحدَكَ مُحبٌّ للبَشَر.

الرّسالة (1 تيمو 4: 9– 15) (32 بعد العنصرة)

الرَّبُّ يُعطي قوَّةً لشَعبِه

قدِّموا للرَّبِّ يا أبناءَ الله

يا إخوة، صادقةٌ هي الكلمةُ وجديرةٌ بكُلِّ قبُولٍ. فإنّنا لهذا نتعَبُ ونُعيَّر، لأننّا أَلْقَينا رجاءَنا على اللهِ الحيّ، الّذي هو مُخلِّصُ النّاسِ أجمعين، ولا سِيَّما المؤمنين. فَوَصِّ بهذا وعلّمِ به. لا يَسْتَهِنْ أَحَدٌ بِفُتُوَّتِك، بَل كُنْ مِثالًا للمؤمنينَ في الكلامِ والتّصرُّفِ والمحبَّةِ والإيمان والعَفاف. واظِبْ على القراءةِ إلى حينِ قُدُومي، وعلى الوعظِ والتّعليم، ولا تُهمِلِ الموهبَةَ الّتي فيك، الّتي أُوتِيتَها بِنُبُوَّةٍ بِوَضْعِ أيدي الكهنة. تأمَّل في ذلك وكُنْ عليهِ عاكِفًا، لِيَكونَ تقدُّمُكَ ظاهرًا في كلِّ شيء.

الإنجيل (لو 19: 1– 10)

في ذلك الزّمان، فيما يَسُوعُ مُجتازٌ في أريحا، إذا بِرَجُلٍ اسمُهُ زكّا كان رئيسًا على العشّارينَ وكان غنيًّا، وكان يلتمسُ أن يرى يسوعَ مَن هُوَ، فلم يكن يستطيع من الجمع، لأنّه كان قصيرَ القامة. فتقدّمَ مُسرِعًا وصعدَ إلى جُمَّيزَةٍ لِيَنظُرَه، لأنّه كان مُزمِعًا أن يجتازَ بها. فلمّا انتهى يسوعُ إلى الموضع، رفعَ طَرْفَهُ فَرآه، فقال: يا زكّا أسرِعِ انزِل، فاليوم ينبغي لي أن أمكُثَ في بيتِك. فأسرعَ ونَزَلَ وقَبِلَهُ فَرِحًا. فلمّا رأى الجميعُ ذلك تذمَّرُوا قائلين إنّه دخلَ لِيَحُلَّ عند رَجُلٍ خاطئ. فوقف زكّا وقال ليسوع: هاءنذا يا ربُّ أُعطي المساكينَ نصفَ أموالي، وإن كنتُ قد غَبَنْتُ أحدًا في شيءٍ أردُّ أربعةَ أضعاف. فقال له يسوع: اليوم قد حصل الخلاصُ لهذا البيت، لأنّه هو أيضًا ابنُ إبراهيم، لأنّ ابنَ البشرِ إنّما أتى لِيَطلُبَ وَيُخَلِّصَ ما قد هَلَك.

حول الإنجيل

”زكّا“ تعني النّقيّ المُتبرِّر. كان وسخًا بالظّلم ومحبّة المال. معظم البشر، داخلهم يعكس عكس ما يظهر منهم للآخرين.

كان اسم ”زكَّا“ عكس واقعه. لكن، يبقى سرٌّ(mystery) في هذا الإنسان السّاقط. في الحقيقة، لا يستريح الإنسان في سقوطه لأنّ السّقوط هو عكس طبيعة الإنسان الحقيقيّة.

زكَّا سمع عن يسوع. لم يكن يعرفه شخصيًّا. أراد أن يرى هذا الإنسان الَّذي يصنع العجائب ويشفي النّفوس والأجساد. أراد أن يُعاين هذا المعلِّم الحقَّ الَّذي ليس كباقي معلّمي اليهود، لأنّه حنون وقريب من الخطأة إذ لا ينبذهم. فالمرض في ذهن اليهود مرتبط بالخطيئة، والخطيئة المَكشوفة بالمرض تُعلن غضب الله على الإنسان بحسب الشّريعة وعقليّة اليهود. هذا ما دفع زكَّا إلى البحث عن يسوع وطلبه، أنّه يفصل الخطيئة عن الخاطِئ ويُبرِئُ النّفس والجسد. لقد كان زكَّا يَعْلَم من ذاته وفي ذاته أنَّ مرض النّفس أصعب من مرض الجسد، لأنّ نجاسة القلب تقتل الإنسان في إنسانيّته، أمَّا مرض الجسد فيقتل الجسد دون الروح لمن كان مؤمنًا.

رأى يسوع استعدادات قلب زكَّا، لذلك اقتنصه من خطيئته بهذا الشّوق الَّذي تربَّى في قلب زكَّا نحو الشّفاء، نحو التَّطهُّر، نحو النّقاوة، والَّذي أيقظه فيه صيت يسوع وأخباره الَّتي كان زكَّا يسمعها عنه.

يسوع يعرف كلّ إنسان باسمه، من الكبير إلى الصّغير، من الخاطئ إلى البارّ. لم يحتج زكَّا إلَّا لهذا المعروفيَّة، لأن يشعر بأنّه معروف عند الله، عند يسوع. لمّا قال له يسوع: " يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ "، طار زكّا من الفرح وأعلن: "هَا أَنَا يَارَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ". صار زكَّا بلُحَيْظة، مُتمِّمًا للشّريعة، تائبًا بفرح. هذا ما يدعوه الآباء القدّيسون بـ"الحزن المُفرح". الإنسان يحزن على خطيئته ويفرح برحمة الله. يتزاوج الشّعوران معًا في آن واحدٍ. هذا سرُّ الله في الإنسان، هذا سرُّ لمسة حنان الرَّبّ لقلب الإنسان الّذي يجعله إنسانًا جديدًا، نقيًّا بدموعه بارًّا في التزامه وصيّة الله فرحًا بالرَّجاء.

هل تعرَّفت إلى زكَّا في ذاتك؟ هل أنت تشبهه في سقوطه أم في قيامه؟!...

(مقالة من نشرة الكرمة– 3 شباط 2013)

كيف نحيا إيماننا؟

الإيمان مُرتبِط، لُغويًّا، بالأمان. أن تؤمن بالله يعني أن تأمَن له، أن تجد فيه راحتك وأمانك. غالبًا ما يُوازَى بين علاقة المُؤمِن بالله وعلاقة الطّفل بحضن أمّه ودفئها. والأمان لا يحلّ دون معرفة الشّخص المؤتَمَن له. والإيمان بالله لا يستقيم دون معرفته ومعرفتُه لا تتحقَّق بمُجرّد امتلاكك معلومات عنه، المعلومات وحدها لا تُنشئ إيمانًا. معرفة الله لا تتحقّق دون شركة وتواصل معه. إن أردت أن تحيا إيمانك بالله لك أن تتعرّف إليه كشخصٍ، أن تُعاشره، أن تحاوره عبادةً وصلاةً وإصغاء. قد سبق له هو أن عرفك وعاشرك في الصّميم لأنّه خالقك، لك أنت أن تبادر إلى مُبادلته المعرفة والعِشرة.

هو كشف ذاته لك لتعرفه حقًّا وحياةً ومحبّةً ولك أن لا تتوارى عنه خوفًا كآدم السّاقط. انكشف أمامه لتتعرّف إلى ما كشفه لك، كشْفُه ضمانتُك الوحيدة لتأمن له.

كشف نفسه لك بالكتاب المُقدَّس فاقرأه، اعجنه في ثنايا دماغك وذاكرتك وفي نبض قلبك وفي لحمك ودمك.

امضغه كجسد ودم في سرّ الشّكر، اعترف أمامه واجعل دمه وجسده إكسيرًا مطهِّرًا لك من الخوف والانغلاق والسّقطات.

تعرّف إليه كأحد الثّالوث، كابنٍ في عائلة ثالوثيّة قوامها المحبّة المُتبادلة والمساواة في الألوهة والكرامة. حينها ستتعلّم كيف تكون عضوًا في العائلة الإنسانيّة الّتي يتساوى فيها أعضاؤها بالإنسانيّة والكرامة مهما تباينوا في المَواهِب وثمارِها ومهما تقلّبوا بين الفضيلة والخطيئة.

تعرّف إليه إلهًا مُتجسِّدًا،إلهًا كاملًا وإنسانًا كاملًا، حينها ستُدرِك أنّ دربك إليه وأمانك فيه لن يتحقّقا إلّا بإرادتك الذّاتيّة المُتآزرة مع إرادة الله. هذا هو دربك النُّسكيّ الّذي لا يمكنك أن تتفلّت منه، علمانيًّا كنتَ أم إكليريكيًّا أم راهبًا. إيمانك بالإله المُتجسِّد سيَصونَكَ من خطر التّفلّت من مسؤوليّتك، كإنسان، في بلوغ الخلاص. هذا الخلاص لن يُنجزَه عنك الله وحده فمخلّصنا كان إلهًا وإنسانًا.

تعرّف إليه في قدّيسيه وأبراره واحذر لنفسك الوقوف عندهم دون ربّهم فهم ليسوا إلّا دروبًا مُضاءة آمنة تقودنا إلى الرَّبّ.

تعرّف إليه بالصّلاة ولا تجعل صلاتك سجنًا تعزل نفسك فيه، ضمن جدران طهرك الوهميّ، عن خطاياك وخطايا البشر، بل اجعلها أتونًا تصهّر فيه، بالدّموع لا بالنّار، خطاياك وخطايا البشر الّذين رماهم الله في دربك لتحبّهم كما هو أحبّهم أوّلًا.

الامتلاء من المسيح

عندما يكون الإنسان فارغًا من المسيح، عندئذٍ يُمكن لأيّ شيء أن يملأه: الغيرة، الكره، المَلَل، الكآبة، المُعارَضة، التّفكير العالميّ، والأفراح العالميّة.

حاولوا أن تملأوا نفوسكم من المسيح، كي لا تكون فارغة. نفوسنا تشبه خزّانًا مَليئًا بالماء فإذا سكبت هذا الماء على الأزهار أي على الفضائل الّتي هي طريق الصّلاح، سوف تعيش في فرحٍ حقيقيّ وتضمر فيك الأشواك والشّرور. ولكنّك إذا سكبت الماء على الأشواك، فسوف تنمو وتخنقك وتذبل كلّ الأزهار.

عليكم أن تُواجهوا كلّ شيء بمحبّةٍ وخيرٍ ووداعةٍ وصبرٍ وتواضع. كونوا صُخورًا يتحطّم عليها كلّ شيء، ويَعود أدراجه كالأمواج، وابقوا أنتم عَديمي الإضطراب. ولكنّكم ستقولون: "وهل هذا ممكن؟". نعم، بنعمة الله يمكن أن يتمّ ذلك دائمًا.

إذا نظرنا إلى الأمور بشريًّا، فهذا غير مُمكن، ولكن بدل أن تؤثّر الأمور فيكم بشكلٍ سيّء، من المُمكن أن تنفعَكُم وتثبّتَكُم في الصّبر والإيمان. هناك حياةٌ غير منظورة، هي حياةُ النّفس، وهي قويّةٌ جدًّا وتستطيع أن تؤثّر على الآخر وإن فصلتنا عنه الكيلومترات. ويحصَل هذا مع اللّعنة، الّتي هي قوّةٌ تصنع الشّرّ. ولكن إن صلّينا لأحدٍ بمحبّة، ينتقل إليه الخير مهما بَعُدَت المسافة. إذًا لا يتأثّر الخير والشَّرّ بالمسافات. نستطيع أن نُرسِلَهما إلى مسافاتٍ لا حدودَ لها.

إذا سلَّمْنا ذواتِنا إلى روح الله، وإذا سلَّمنا ذواتِنا إلى محبَّة المسيح، يتبدَّل الكلّ، يتحوَّل الكلّ، يتغيَّر الكلّ. الغيظ، الغضب، الغيرة، الحسد، الحنَقْ، الإدانة، نُكران الجميل، التّعاسة، الكآبة، يصيرُ الكلّ محبَّةً، فرحًا، رغبةً وعشقًا إلهيًّا وفردوسًا..!!

(القدّيس بورفيريوس الرّائي)

انقر هنا لتحميل الملف