Menu Close

في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:

*هامَتا الرُّسُل بطرس وبولس *القدّيس البارّ بطرس التّتاريّ العَجائب *الجديد في الشّهداء ثيوغينوس كوزيريف الرّوسيّ.

*        *        *

✤ هامَتا الرُّسُل بطرس وبولس ✤

القدّيس بطرس الرَّسول

مَن هو؟

        اسمه، في الأساس، سمعان. بطرس أو كيفا أو الصّخرة هو الاسم الّذي أطلقه عليه الرَّبّ يسوع (يو1: 42). اسم أبيه يونّا من سبط نفتالي. وُلد في بيت صيدا على الضِّفَّة الشَّماليّة من بحيرة جنّيسارت المَعروفة ببحر الجليل. تزوّج. في التُّراث أنّ امرأته كانت ابنة أرستوبولوس شقيق برنابا الرَّسول. وثمّة مَن يذكر أنّه رُزق ابنة اسمها بترونيلا. احترف وأخوه أندراوس صيد السّمك. كانت له سفينة وكانا كلاهما شريكين ليوحنّا ويعقوب ابني زبدى. كان أندراوس أحد تلاميذ يوحنّا المَعمدان. فإذ حدث يومًا أن كان يوحنّا واقفًا هو واثنان من تلاميذه، أحدهما أندراوس، نظر إلى يسوع ماشيًا فقال عنه “هوذا حمل الله” (يو1: 36). فسمعه التّلميذان وتبعا يسوع.

تلمذته ليسوع

        وكان بعدما كلّمهما يسوع أنّ أندراوس وجد، أوّلًا، أخاه سمعان فقال له: “قد وجدنا مسيّا الّذي تفسيره المسيح” (يو 1: 42). وإذ جاء به إلى يسوع تطلّع يسوع إليه وقال له: “أنت سمعان بن يونا. أنت تُدعى صفا الّذي تفسيره بطرس”. شهادة أخرى تُفيد أنّه إذ كان يسوع ماشِيًا عند بحر الجليل أبصر سمعان بطرس وأخاه أندراوس يلقيان شبكة في البحر فقال لهما “هلمّ ورائي فأجعلكما صيّادي النّاس. للوقت تركا الشّباك وتبعاه” (مت 4 ومر 1). وفي حادثة تلت أنّه لمّا ازدحم الجمع على يسوع ليسمع كلمة الله، مرّة، وكان واقفًا عند بحيرة جنّيسارت، دخل سفينة كانت لسمعان وسأله أن يَبعد قليلًا عن البَرّ ثمّ علّم الجمع من السّفينة. فلمّا فرغ من الكلام قال لسمعان أن ابْعُد إلى العمق وألقُوا الشّباك للصّيد. أجاب سمعان: “قد تعبنا اللّيل كلّه ولم نأخذ شيئًا ولكن على كلمتك أُلقي الشّبكة”. فلمّا أصابوا سمكًا كثيرًا وأخذت شبكتهم تتخرّق استعانوا بشركائهم في السَّفينة الأخرى وملأوا السَّفينتَيْن اللَّتَين أخذتا في الغرق، فخرّ سمعان بطرس عند ركبتي يسوع من الدَّهَش قائلًا: “اخرج من سفينتي يا ربّ لأنّي رجل خاطئ”. فقال له يسوع: “لا تخف. من الآن تكون تصطاد النّاس”. فلمّا بلغ بطرس البَرّ ترك كلّ شيء وتبعه (لو 5).

مكانته بين الرُّسل

        لبطرس بين تلاميذ الرَّبّ يسوع الإثني عشر مكانة مُميَّزة، فهو أحد الثّلاثة (بطرس ويوحنّا ويعقوب ابنا زبدى) الّذين استبانت لهم حظوة لدى الرَّبّ يسوع بدليل اصطحابه لهم دون البَقِيَّة في أكثر من مناسبة كالصّعود إلى الجبل والتَّجلّي وشفاء ابنة يايروس، كما نلقاه فمًا لبقيّة التّلاميذ. إلى ذلك، في إحدى المُناسبات، سأل يسوع تلاميذه: “مَن تقولون إنّي أنا؟” فأجاب سمعان بطرس: “أنت هو المسيح ابن الله الحيّ”. فردّ يسوع: “طوبى لك يا سمعان بن يونا. إنّ لحمًا ودمًا لم يُعْلِن لك لكن أبي الّذي في السّماوات”. ثم أردف: “وأنا أقول لك أيضًا أنت بطرس وعلى هذه الصّخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تَقوى عليها. وأُعطيك مفاتيح ملكوت السَّماوات. فكلّ ما تربطه على الأرض يكون مربوطًا في السّماوات وكلّ ما تَحُلُّه على الأرض يكون محلولًا في السّماوات”. مخاطبة يسوع لبطرس هنا كانت بصفة شخصيّة وعلى أساس الاعتراف الّذي أدّاه. لذلك سلطته أتت مرتبطة بإيمانه. بطرس صورة التّلميذ الحسن الاعتراف. لذا ما قاله يسوع لبطرس عن الحلّ والرّبط على الأرض في إنجيل متّى 16 قاله أيضًا لبقيّة التّلاميذ في الإنجيل عينه (18: 8): “كلّ ما تربطونه على الأرض يكون مربوطًا في السَّماء. وكلّ ما تحلّونه على الأرض يكون محلولًا في السَّماء”. فقط بالإيمان الحيّ يحافظ بطرس على موقعه لدى الرَّبّ الإله، ومن دونه يغرق في شكّه وأوهانه (مت 14). بطرس هو الصّخرة طالما بَقِيَ المَسيح في حياته هو الصَّخرة. “والصَّخرة كانت المسيح” (1 كو 10: 4).

خواء بطرس بغير نعمة الله

        على هذا اقترنت الحظوة الّتي نَعِم بها بطرس لدى يسوع بكشف خوائه بغير نعمة الله في أكثر من مناسبة. ففي الإصحاح 16 من إنجيل متّى، مباشرة بعد المقطع الّذي أعطى فيه يسوع بطرس مفاتيح ملكوت السّماوات، أطلع السّيّد التّلاميذ على أنّه ينبغي أن يذهب إلى أورشليم ويتألّم كثيرًا مِنَ الشُّيوخ ورؤساء الكهنة والكهنة ويُقتَل وفي اليوم الثّالث يقوم. بطرس رفض القول بِحِدَّة: “حاشاك يا ربّ، لا يكون لكَ هذا”. فالتفت إليه يسوع وقال له: “اذهب عنّي يا شيطان. أنتَ معثرة لي لأنّكَ لا تهتمّ بما لله لكن بما للنّاس” (مت 16: 23). بطرس، من حيث لا يدري، من دون نعمة الله، استحال شيطانًا وعثرة. صارت حكمته أرضيّة نفسانيّة شيطانيّة (يع 3: 15).

        طالما ظلّلت نعمة الله بطرس بدا مستعدًّا لأن يبذل نفسه. لمّا قال يسوع للتّلاميذ: “كلّكم تشكّون فيّ في هذه اللّيلة” (مت 26: 31)، أجاب بطرس: “وإن شكّ فيك الجميع فأنا لا أشكّ أبدًا… ولو اضطررت أن أموتَ معك لا أنكرك…”. فلمّا حلّت ساعة الظُّلمة (لو 22: 53) أنكر بطرس يسوع ثلاثًا بِلَعْنٍ وحَلفْ (مت 26)، فحقّ القول “بدوني لا تستطيعون أن تفعلوا شيئًا”.

بطرس الإنسان الجديد

        نكران بطرس كان للحياة لا للموت لأنّه من ضُعف البَشَرَة وهذه لا تضير طالما، على قولة بولس الرَّسول، قوّة المسيح في الضُّعف تُكْمَل (2 كو 12: 9). كبرياء بطرس وثقته المُفرطة بنفسه كانا بحاجة إلى برء فكان تَخَلِّي الرَّبّ الإله عنه، تدبيرًا، هو الدَّواء. من الآن فصاعِدًا، بعدما وعى بطرس حقيقة نفسه، بات بإمكانه أن يفتخر بضعفه ويقوى بالله ومن ثمّ يولّى على كلمته نظير إرميا الّذي لمس الرَّبُّ فَمَهُ قائلًا: “انظر. قد وكّلتك هذا اليوم على الشُّعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتُهلك وتبني وتغرس” (إر 1: 9 – 10).

        تعلّم بطرس أن يتّضع ودفع عن تواضعه بكاءً مُرًّا. بإزاء تعلّقه بيسوع كان مُستعدًّا لأن يتخلّى عن كلّ شيء، عن كبريائه، عن كرامته وعن نفسه أخيرًا. هذا وجد له سبيلًا، بنعمة الله، بعدما أثبت في غير مناسبة لصوقه بالسَّيِّد. بتواضعه الزَّائف قال للمعلِّم، يومًا، لمّا أراد أن يغسل قدميه: “يا سيّد أنتَ تغسل رِجْلَيَّ… لن تغسل رجليَّ أبدًا”، فلمّا أنَّبَهُ يسوع: “إن كنتُ لا أغسلك فليس لكَ معي نصيب”، طفرت نفس بطرس. حاشا أن يكون هذا يا رَبُّ. “يا سيّد ليس رجليّ فقط بل أيضًا يَدَيَّ ورأسي”. كلّ ما تعلّمه بطرس تعلّمه في جامعة التصاقه بيسوع. هكذا صار إنسانًا جديدًا.

من أخباره

        أخبار بطرس الرَّسول عديدة، هنا وثمّة. هذه يطالع القارئ تفاصيلها عبر الأناجيل الأربعة بخاصّة وكذا أعمال الرُّسل وبعض الرَّسائل وما ورد، خارج ذلك، في التُّراث.

        في أعمال الرُّسل بطرس هو مَن قام في وسط التّلاميذ بحضور مائة وعشرين ودعا إلى اختيار بديل عن يهوذا فألقوا القرعة واختاروا متيّاس. ثمّ بعد حلول الرُّوح القُدُس وقف مع الأحد عشر وخاطب اليهود والسَّاكِنين في أورشليم شاهدًا: “إنّ الله جعل يسوع هذا الّذي صلبتموه أنتم ربًّا ومَسيحًا”، فانضمّ، على الأثر، في ذلك اليوم، نحو ثلاثة آلاف نفس. وبطرس كان المُتكلِّم أيضًا لمّا صعد ويوحنّا إلى الهيكل وشفى عند باب الهيكل المدعو الجميل رجلًا أعرج من بطن أمّه، كما شهد ليسوع أمام الشّعب المتعجّب من آية الشّفاء. بنتيجة ذلك أُلقِيَ التّلميذان في الحبس فتسنّى لبطرس، وقد امتلأ من الرُّوح القُدُس، أن يُبَشِّرَ بيسوع رؤساء الشَّعب وشيوخ إسرائيل: “هذا هو الحجر الّذي احتقرتموه أيّها البنّاؤون الّذي صار رأس الزّاوِيَة. وليس بأحد غيره الخلاص لأن ليس اسم آخر تحت السّماء قد أُعطي بين النّاس به ينبغي أن نخلص”. وإذ هدّدوهما أن يتوقّفا عن المُناداة بيسوع أجاب بطرس ويوحنّا: “إن كان حقًّا أمام الله أن نسمع لكم أكثر من الله فاحكموا. لأنّنا نحن لا يُمكِننا أن لا نتكلّم بما رأينا وسمعنا” (أع 4: 20).

        بعد ذلك استبان بطرس مَن به قضى اثنان من الرَّعِيَّة النّاشئة، حنانيّا وزوجته سفّيرة، لأنّهما كذبا على الرُّوح القُدُس إذ باعا مُلْكًا واختلسا من الثّمن بعدما كان العرف أن يأتي المؤمنون طَوْعًا بما لديهم ليضعوه عند أرجل الرُّسل، ليُوزَّع على المؤمنين، كلًّا قدر حاجته. وقد ورد أنّ عجائب جرت على أيدي الرُّسل حتّى كان النّاس “يحملون المرضى خارجًا في الشَّوارِع ويضعونهم على فرش وأسرّة حتّى إذا جاء بطرس يُخيِّم ولو ظلّه على أحد منهم”.

        ومرّة أخرى جعل رئيس الكهنة ومَن معه الرُّسُل في حبس العامّة. جواب بطرس والرُّسل كان: “ينبغي أن يُطاع الله أكثر من النّاس. إله آبائنا أقام يسوع الّذي أنتم قتلتموه معلّقين إيّاه على خشبة. هذا رفعه الله بيمينه رئيسًا ومخلِّصًا ليُعطي إسرائيل التّوبة وغفران الخطايا. ونحن شهود له بهذه الأمور والرُّوح القُدُس أيضًا الّذي أعطاه الله للّذين يُطيعونَه” (أع 5: 30 – 32).

في السّامرة

        بعد تلك الأيّام صار اضطهاد عظيم على الكنيسة الّتي بأورشليم فتشتّت الجميع في كور اليهوديّة والسّامرة ما عدا الرُّسل. ثمّ نزل بطرس ويوحنّا موفَدَين من الرُسل إلى السّامرة حيث بشّر فيليبُّس وعمّد باسم يسوع رجالًا ونساء. مهمّتهما كانت أن ينزلا ويصلّيا لأجلهم لكي يقبلوا الرُّوح القُدُس لأنّه لم يكن قد حلّ بعد على أحد منهم. فلمّا وضعا الأيدي عليهم قبلوا الرُّوح القُدُس. وإنّ سيمون، رجلًا استعمل السّحر، كان قد آمن واعتمد ولازم فيليبُّس، هذا لمّا رأى أنّه بوضع أيدي الرُّسل يُعطى الرُّوح القُدُس قدّم لهما دراهم ليعطياه، هو أيضًا، سلطان وضع الأيدي. أجاب بطرس: “لتكن فضّتك معكَ للهلاك لأنّك ظننتَ أن تقتني موهبة الله بدراهم…” (أع 8: 20).

في لدّة ويافا وقيصريّة

        ثمّ نلقى بطرس، مرّة أخرى، في لدّة حيث شفى مفلوجًا، منذ ثماني سنوات، اسمه إينياس. وفي يافا أقام تلميذة من الموت هي طابيثا. وقد مكث في يافا أيّامًا كثيرة عند سمعان الدَّبّاغ (أع 9: 42). من يافا استدعى الرَّبّ بطرس في رؤيا إلى قيصريَّة ليبشّر بيسوع رجلًا تقيًّا خائفًا الله مع جميع بيته وله حسنات وصلوات اسمه كورنيليوس، قائد مئة. هذا كان لبطرس والكنيسة إيذانًا بامتداد الكرازة إلى الأمم أيضًا. هكذا خاطب بطرس كورنيليوس ومَن معه: “تعلمون كيف هو مُحَرَّم على رجل يهوديّ أن يلتصق بأحد أجنبيّ أو يأتي إليه. وأمّا أنا فقد أراني الله أن لا أقول عن إنسان ما إنّه دنس أو نجس”. وإذ بشّره بيسوع حلَّ الرُّوح القُدُس على جميع الّذين كانوا يسمعون الكلمة. فلمّا عاين بطرس عمل الله أمر أن يعتمدوا (أع 10: 48).

        أهل الختان أخذوا على بطرس، بعد ذلك، أنّه دخل إلى ذوي غلفة وأكل معهم (11: 3) فأخبرهم بكلّ ما صنعه الرَّبّ وخلُص إلى أنّه: “إذا كان الله قد أعطاهم الموهبة كما لنا أيضًا مؤمنين بالرَّبّ يسوع المسيح فمَن أنا. أقادر أن أمنع الله” (أع 11: 17). ردّ فعل ذوي الختان كان أنّهم سكتوا ومجّدوا الله قائلين: “إذًا أعطى الله الأمم أيضًا التّوبة للحياة”.

في السّجن

        بعد تلك الأيّام وُجد بطرس مقبوضًا عليه من هيرودس الملك الذي قتل يعقوب أخ يوحنّا بالسّيف. وقد سُلِّم إلى أربعة أرابع من العسكر ليحرسوه. فبعدما صارت من الكنيسة صلاة بلجاجة إلى الله من أجله، أخرجه ملاك الرَّبّ من السجن (أع 12).

الأمم وناموس موسى

        دخول الأمم في كنيسة المسيح كانت له تفاعلاته. بعض أهل الختان طالب بضرورة اقتبالهم الختان وأن يوصَوا بحفظ ناموس موسى. بطرس، في اجتماع الكنيسة والرُّسل والمشايخ، في أورشليم، كانت له مساهمة واضحة في بتّ الموضوع. قال بعد مباحثة كثيرة: “الله شهد لهم [للأمم] مُعطيًا لهم الرُّوح القُدُس كما لنا أيضًا. ولم يميِّز بيننا وبينهم بشيء إذ طهّر بالإيمان قلوبهم”. ثم اعتبر مسألة فرض الختان وناموس موسى على الأمم تجربة لله ونيرًا يوضع على أعناق التّلاميذ “لم يستطع آباؤنا ولا نحن”، على حدّ تعبيره، “أن نحمله” (أع 15: 10).

        من جهة أخرى، في الرّسالة إلى أهل غلاطية ذكر لصِدام حصل بين الرَّسولَين بطرس وبولس. أتى بطرس إلى أنطاكية وآكل الأمم. ولكن لمّا وصل قوم من أورشليم، زمّيتين من جهة عدم الخلطة بالأمم، أخّر بطرس وفرز نفسه “خائفًا من الّذين هم من الختان” (2: 12). تصرّفه وتصرّف باقي اليهود هناك وبرنابا اعتبره بولس رياء. هذا استدعى تعيير بولس لبطرس فقال له قدّام الجميع: “إن كنتَ وأنتَ يهوديّ تعيش أمميًّا لا يهوديًّا فلماذا تُلزِمُ الأمَمَ أن يَتَهَوَّدوا؟…” هل سعى بطرس إلى إلزام الأمم بأن يَتَهَوَّدوا؟ لا دليل على ذلك. مواقفه، هنا وهناك، كما عرضناها، تدلّ على العكس وكذلك اختلاطه بالأمم في أنطاكية بالذَّات. أغلب الظَنّ أنّ ما حدا ببطرس لتبنّي ذاك الموقف كان مراعاة أهل الختان لذا قيل إنّه كان خائفًا منهم (غلا 2: 12). بين المُراعاة والمُراءاة لا يبدو أنّ المسألة أدّت إلى خلاف دام. كلّ المُعطيات، فيما بعد، تُشير إلى العكس. فبولس لمّا عاد إلى أورشليم، قبل أن يُسلَّم إلى الرّومانيّين، قبله الإخوة هناك بفرح وكان اجتماعه بيعقوب وجيمع الشّيوخ ودّيًّا للغاية (أع 21).

رسالتاه

        هذا وبين الرّسائل اثنتان باسم بطرس في مطلع الأولى منهما هذا التّقديم: “بطرس رسول يسوع المسيح إلى المتغرّبين من شتات بنطس وغلاطية وكبّادوكية وآسيا وبيثينية”.

في التّراث

        وقد ورد في التّراث أنّ بطرس سام إيفودس على أنطاكية أسقفًا وبروخوروس على نيقوميذية وكورنيليوس، قائد المئة، على هليوبوليس وأوركانوس في طرسوس وأبلّس على إزمير وأوليمباس على فيليبّي المقدونيّة وياسون على تسالونيكي وسيلا على كورنثوس وهيروديون على البتراء. وقد استقبله في رومية تلميذه القدّيس بنكراتيوس. هناك علّم وسام لينوس على رومية وأبينتوس، في أسبانيا، على تراسين وكريسنثوس على قرطاجة. وفي مصر قيل إنّه جعل روفوس أسقفًا على الطّيبة والقدّيس مرقص على الإسكندريّة. وهناك مَن يقول إنّه بلغ ميلان وحتّى بريطانيا العظمى. رقاده كان استشهادًا في رومية في زمن نيرون قيصر بعدما سام اكليمنضوس على رومية خلفًا للينوس. قضى مصلوبًا ورأسه إلى أسفل حتّى تكون عينه على السَّماء.

               

             القدّيس بولس الرسول

خلفيّته اليهوديّة الفَرّيسيّة

        عبرانيّ من سبط بنيامين. وُلد في طرسوس الكيليكيّة حوالي السّنة العاشرة الميلاديّة في إحدى الرَّعايا اليهوديّة في الشّتات. هذه أقامت أمينة لتراث آبائها. اتّخذ اسم شاول وتمتّع، من جهّة أبيه، بامتياز المواطنيّة الرّوميّة. كبر في احتكاك والحضارة الهيلّينيّة. غيرته على النّاموس حملت والديه على إيفاده إلى أورشليم حيث انضمّ إلى شيعة الفرّيسيّين ودرس على الربّان غمالائيل الشّيخ. اشترك في حقد آبائه على المسيحيّين الّذين اعتبرهم متعدّين خطرين للشّريعة. على هذا كان موافقًا للّذين رجموا القدّيس استفانوس. وكان ينفث تهدُّدًا وقتلًا على تلاميذ الرَّبّ. يَقتحم البيوت ويخرج الرِّجال والنّساء ويُلقيهم في السُّجون. وإذ أخذ رسائل من رئيس الكهنة انطلق إلى مجمع دمشق “حتّى إذا وجد أناسًا مِنَ الطّريق رجالًا أو نِساءً يسوقهم موثَقين إلى أورشليم” (أع 9: 2).

صوت ونور الهداية

        فلمّا اقترب من دمشق اشتمله، فجأة، نور من السَّماء. وإذ وقع على الأرض سمع صوتًا يقول له: “شاول، شاول، لماذا تضطهدني؟” فقال: “مَن أنتَ يا سيّد؟” فقال الربّ: “أنا يسوع الّذي أنتَ تضطهده!… قمْ وادخل المدينة”. نهض شاول عن الأرض ولم يكن يبصر شيئًا، فاقتادوه بيده وأدخلوه إلى دمشق. بقي ثلاثة أيّام لا يأكل ولا يشرب إلى أن أتاه تلميذ اسمه حنانيّا أنبأه ملاك بأمر شاول. هذا دخل البيت ووضع عليه يديه لكي يبصر ويمتلئ من الرُّوح القُدُس، فأبصر في الحال وقام واعتمد. على الأثر شرع بولس يكرز بيسوع ابن الله في المجامع فأثارت مناداته استغرابًا بين اليهود ومن ثمّ حَنَقًا وحِقْدًا فسعوا للتَّخَلُّص منه لكنّ المسيحيّين تمكّنوا من إرساله، من هناك، في الوقت المناسب. وقد دلّوه في سلّ من سور دمشق فانطلق إلى العربيّة. هناك أمضى سنتين يعدّ نفسه للعمل الكبير الّذي شاءه الرَّبّ الإله أن يقوم به بالصّوم والصّلاة.

تكريس وشوكة وألقاب

        من تلك اللّحظة كلّ حياة بولس الرّسول باتت مكرّسة لخدمة الرَّبّ يسوع. لذا قال في الرَّسالة إلى أهل فيليبّي: “أفعل شيئًا واحِدًا إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتدُّ إلى ما هو قدّام. أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العُليا في المسيح يسوع” (3: 14). لقد مات للنَّاموس ليحيا لله مذيعًا بالفم الملآن: “لست بعد أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ!” (غلا 2: 20). أمّا السَّيِّد فظهر له في عدد من الرُّؤى والإعلانات. ذات يوم، في أنطاكية، فيما يبدو، حوالي العام 44 م. خُطف إلى السّماء الثّالثة وسمع كلمات لا يُنطق بها (2 كو 12). ولم تكن الإعلانات الإلهيّة لتحدوه على الانتفاخ. الرَّبّ الإله يعرف أن يحفظ خاصَّته. أعطاه شوكة في الجسد حتّى يجعل ضعفه أمام عينيه كلّ حين ويفتخر، بالحريّ، بضعفه لكي تحلّ عليه قوّة المسيح كما قال. على هذا أنفق نفسه في الخدمة إلى المنتهى غير مبال بما يُصيبُه من جرّائها. سبع مرّات سُجن، بحسب شهادة القدّيس اكليمنضوس الرُّوميّ. خمس مرّات جلده اليهود كلّ مرّة أربعين جلدة إلّا واحدة. ضُرب بالعصيّ ثلاث مرّات. مرّة رُجم وثلاث مرّات انكسرت به السَّفينة. عانى أخطار السُّيول وأخطار اللُّصوص وأخطار الأمم وأخطار البحر والبرّ. أقام في التَّعب والكدّ والأسهار والجوع والعطش والأصوام والبرد والعريّ (راجع 2 كو 11). كلّ حكمة العالم استبانت في عينيه سقطًا. بات همُّه أن يذيع بيسوع المسيح وإيّاه مصلوبًا. في ذلك كان الكلّ للكلّ ليخلِّص على كلّ حال قَوْمًا.

        إثر عودته من العربيّة أقام في دمشق لفترة قصيرة  ثمّ اضطر للهرب من جديد. هذه المرّة إلى أورشليم. شعر المؤمنون بالقلق إزاءه لأنّه صعب عليهم أن يصدّقوا أنّه صار تلميذًا. لكنّ برنابا قدّمه للرّسولَين بطرس ويعقوب وضَمِنه. مذ ذاك أخذ يدخل ويخرج معهم كارزًا بيقين شديد باسم الرَّبّ. ثمّ بعدما عزم يهود متهلّنين على قتله نقله تلاميذ إلى قيصريّة ثمّ إلى موطنه طرسوس.

في أنطاكية

        بعد ذلك بوقت قصير، بلغ أورشليم خبر أنّ وثنيّين اقتبلوا الإيمان في أنطاكية. على الأثر أُوفد برنابا الّذي توجّه إلى طرسوس وأخذه معه إلى أنطاكية. بقي الإثنان هناك سنة كاملة علّما خلالها جمهورًا كبيرًا من النَّاس. هناك دُعي التَّلاميذ أوّلًا مسيحيّين.

        وإذ أعلن أحد الأنبياء أنّ مجاعة كبيرة سوف تضرب الإمبراطوريّة، لا سيّما بلاد فلسطين – هذا كان في حدود العامين 49/ 50 للميلاد– عمد مؤمنو أنطاكية إلى جمع المساعدات للإخوة في أورشليم وكلّفوا بولس وبرنابا بتبليغها. فلمّا عادا إلى أنطاكية، وفيما كانت الجماعة، يومًا، تصلّي أشار الرُّوح القُدُس بأن يُفرز برنابا وشاول للمهمّة الّتي عيّنها لهما. فبعدما صاموا وصلّوا، وضع الإخوة عليهما الأيدي وأطلقوهما.

الرّحلة الكرازيّة الأولى

        توجّه برنابا وشاول (بولس) إلى قبرص. في السّلاميّة جعلا يذيعان بكلمة الله في المجامع. وإذ اجتازا الجزيرة أتيا إلى بافوس حيث اقتبل الوالي الرّومانيّ، سرجيوس بولس، الإيمان رغم مقاومة ساحر لدى الوالي اسمه علّيم. هذا ضربه بولس بالعمى.

        من بافوس أتيا إلى برجة في بمفيليا ثمّ إلى أنطاكية بيسيديّة حيث هدى بولس عددًا من اليهود بعدما دعا إلى التّوبة في المجمع. ولمّا اعترض بعض اليهود بتجاديف أجاب بولس وبرنابا: “كان يجب أن تُكلَّموا أنتم أوّلًا بكلمة الله ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنّكم غير مستحقّين للحياة الأبديّة هوذا نتوجّه إلى الأمم!” (أع 13: 46). هذا أفرح الأمم وحملهم على تمجيد الرَّبّ الإله. “وآمن جميع الّذين كانوا معيَّنين للحياة الأبديّة” (أع 13: 48). ولكنْ نجح اليهود في طرد الرَّسولَين من المدينة فانتقلا إلى إيقونيا. هناك أيضًا كرزا بالكلمة في المجمع. وقد انضمّ عدد كبير من اليهود والأمميّين إلى الإيمان. مدّد الرَّسولان إقامتهما هناك وأجرى الرَّبّ الإله آيات وعجائب شهادة لتعليمهما. من جديد لاحقهما اليهود فاضطرا للانتقال إلى ليكاؤنية. في ليسترا أبرأ بولس، بنعمة الله، رجلًا قَعِيدًا منذ ولادته فأنزلت الجموع الرَّسولَين منزلة الآلهة وأرادوا أن يضحّوا لهما. ولم ينجح الرَّسولان في صرف النّاس هناك عن فعل ذلك إلّا بشقّ النّفْس. فجأة وصل يهود من أنطاكية وإيقونية وقلّبوا النّاس عليهما. فكان أن رُجم بولس وجُرِّر كميت إلى خارج المدينة. لكنّه نهض بعدما انصرفوا عنه وارتحل إلى دربا حيث تلمذ العديدين، ثمّ عاد إلى ليسترا وإيقونية وأنطاكية ليشدِّد المؤمنين قائلًا لهم إنّه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت السّماوات. في كلّ كنيسة أسّسها بولس، كان يعيِّن شيوخًا ليسوسوا الإخوة ويُسوّوا الخلافات بين المؤمنين ويتابعوا عمله التّعليميّ. وبعدما استودع الرَّسولان المؤمنين هناك الرَّبّ الإله عادا إلى أنطاكية السّوريّة.

        لدى وصولهما جمعا الكنيسة ورويا ما حقّقه الله بهما وكيف أنّ باب الإيمان انفتح للأمم. وإنّ إخوة كانوا قد قدموا من أورشليم زعموا أنّه يلزم الوثنيّين المهتدين أن يختتنوا. إذ ذاك ثار جدل حام وأُوفد بولس وبرنابا إلى الرّسل في أورشليم ليقطعوا في الأمر. هناك أطلع الرَّسولان الكنيسة على كلّ ما حقّقه الله بين الأمم. ولمّا حكم الرّسل المُسمَّون أعمدة، بطرس ويعقوب ويوحنّا بعدم تحميل الأمم وزر النّاموس، أعطوا بولس وبرنابا يمين الشّركة وأن يبشِّرا الأمم كما هم ذوي الختان.

        عاد بولس وبرنابا إلى أنطاكية وأطلعا الكنيسة فيها على قرار الكنيسة في أورشليم فكانت تعزية بين المؤمنين. لكنّ المشكلة لم تحلّ نهائيًّا وبقي قوم متمسّكين بالختان. هذا استبان، بخاصّة، في الاحتكاك الّذي حصل بين بولس وبطرس، هناك، في هذا الشّأن.

الرّحلة الكرازيّة الثّانية

        ثمّ بعد حين قرّر بولس أن يقوم برحلة تبشيريّة ثانية لتفقّد الإخوة في المدن الّتي سبق زرع الكلمة فيها. وإذ حصل لبولس سوء تفاهم مع برنابا، في شأن مرقص، ابن أخت برنابا الّذي غادرهما في بمفيلية، افترقا فتوجّه برنابا ومرقص إلى قبرص فيما أخذ بولس معه سيلا وتوجّه وإيّاه شمالًا سيرًا على الأقدام. وقد اجتازا سورية وكيليكية وثبّتا التّلاميذ ثمّ زارا دربا وليسترا وإيقونية.

        في ليسترا انضمّ تيموثاوس إلى بولس وسيلا. وإذ واجهت مهمّتهم عوائق في آسيا وبيثينيا تحوّلوا إلى ترواس حيث كانت لبولس رؤيا أن يحمل الإنجيل إلى مقدونيا.

        لمّا وصلوا إلى فيليبّي تحدّثوا في السّبت إلى نساء اجتمعن خارج المدينة ليصلّين. وقد فتح الرَّبّ قلب امرأة اسمها ليديا فاعتمدت هي وأهل بيتها واستضافت الرّسل. ولكنْ عندما أخرج بولس روحًا غريبًا من أَمَة كانت تتكلّم بالغيب ورأى مواليها أنّه زال رجاء مكسبهم، أسلموا بولس وسيلا إلى القضاة متّهمين إيّاهما بإثارة الشّغب في المدينة. فضُرب الرّسولان بالسِّياط وأُلقيا في السّجن وضُبطت أرجلهما في المِقطرة. ثمّ في نصف اللّيل، فيما كان بولس وسيلا يُصلّيان ويسبّحان الله حدثت، بغتة، زلزلة عظيمة فانفتحت، في الحال، الأبواب كلّها وانفكّت قيود الجميع. بنتيجة ذلك اهتدى السَّجّان وأهل بيته. وفي اليوم التّالي ارتبك الولاة إذ اكتشفوا أنّ الرّسولين كانا رومانيّين. وبعدما تضرّعوا إليهما أن ينصرفا عنهم زارا ليديا ثمّ خرجا من المدينة.

        بعد ذلك أتى الرَّسولان إلى تسالونيكي حيث بشّرا في المجمع كالعادة محاجِجَين على مدى ثلاثة سبوت أنّه كان ينبغي أنّ المسيح يتألّم ويقوم من الأموات وأن “هذا هو المسيح يسوع الّذي أنا أُنادي لكم به” (أع 17: 3). فاقتنع عدد ليس بقليل من اليونانيّين المتعبّدين والنّساء المُتقدّمات. لكنّ اليهود غير المؤمنين غاروا وسجّسوا المدينة وأزعجوا الجمع والحكّام. هذا اضطرّ بولس وسيلا إلى الخروج ليلًا إلى بيريّة حيث أصابا نجاحًا لكنّ يهود تسالونيكي تعقّبوهما فغادر بولس إلى أثينا مخلِّفًا سيلا وتيموثاوس وراءه ليثبِّتا عمل الله في بيرية.

في أثينا

        لمّا بلغ بولس أثينا وعاين المدينة مملوءة أصنامًا احتدّت روحه فيه. أخذ يكلّم اليهود المتعبّدين في المجمع والّذين يصادفونه في الأغورا (السّوق) كلّ يوم. بين الّذين قابلوه عدد من الفلاسفة الأبيقوريّين والرّواقيّين. وإذ بدا لهم أنّه ينادي بآلهة غريبة، لأنّه كان يبشّر بيسوع والقيامة، أخذوه إلى آريوس باغوس. وقف بولس في وسط المكان وخاطب المجتمعين مُشيرًا إلى معبوداتهم وإيجاده بينها مذبحًا مكتوبًا عليه: “لإله مجهول”. ثمّ أردف: “الذي تتّقونه وأنتم تجهلونه هذا أنا أُنادي لكم به. الإله الّذي خلق العالم وكلّ ما فيه… وهو لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي…” (أع 17). وبعدما حكى عن الإله الواحد كلّمهم عن القيامة من الأموات. عند هذا الحدّ استهزأ بعضهم فيما أبدى آخرون رغبة في سماع المزيد. وقيل التصق به قوم وآمنوا. منهم ديونيسيوس الآريوبّاغي وامرأة اسمها دامرس وآخرون.

في كورنثوس

        من أثينا انتقل بولس إلى كورنثوس حيث أقام في بيت بريسكلّا وأكيلا اللذَين كانا خياميَّين نظيره. خلال أيّام الأسبوع كان يعمل ليأكل من عرق جبينه وفي السّبت يُحاجّ، في المجمع، مقنعًا اليهود واليونانيّين شاهدًا بالمسيح يسوع. وإذ كانوا يقاومون ويجدّفون نفض ثيابه قائلًا لهم: “دمكم على رؤوسكم. أنا بريء. من الآن أذهب إلى الأمم”. وقد ورد أنّ كريسبس، رئيس المجمع، آمن بالرَّبّ مع جميع بيته. كذلك لمّا سمع كثيرون من الكورنثيّين آمنوا واعتمدوا. وقد أتاه صوت الرَّبّ في رؤيا اللّيل أن “لا تخف بل تكلّم ولا تسكت لأنّي أنا معك ولا يقع بك أحد ليؤذيك لأنّ لي شعبًا كثيرًا في هذه المدينة”. بعد ذلك أقام في كورنثوس سنة وستّة أشهر يعلّم بينهم كلمة الله. ومن كورنثوس وجّه أولى رسائله المعروفة إلى مسيحيّي تسالونيكي. أمّا اليهود الّذين لم يكفّوا عن مؤامراتهم عليه فقد نجحوا في تحريك القضاء لدى غاليون الحاكم، لكنّ هذا رفض أن يخوض في جدال بشأن الشّريعة وأطلقه.

        غادر بولس كورنثوس إلى أنطاكية. عرّج في طريقه على أفسس قليلًا وكرز باقتضاب في مجمعها ثمّ تركها بعدما وعد الّذين سمعوه باهتمام أن يعود إليهم قريبًا. أمضى في أنطاكية بعض الوقت ثمّ خرج في رحلة تبشيريّة ثالثة. امتدّت بين العامَين 53 و 58 م.

الرّحلة الكرازيّة الثّالثة

        اجتاز بولس في غلاطية وفيرجيا مثبِّتًا الإخوة في الإيمان ثم توجّه إلى أفسس ليتابع ما بدأه. هناك وجد اثني عشر مسيحيًّا هداهم أبللس لكنّهم لم يأخذوا سوى معموديّة يوحنّا. فما إن اعتمدوا ووضع عليهم بولس اليد حتّى شرعوا في التّنبّؤ ممتلئين من الرُّوح القُدُس. وعلى مدى ثلاث سنوات تكلّم بولس في أفسس على ملكوت السّماوات. وإذ واجه من اليهود مقاومة في المجمع فرز التّلاميذ وأتمّ تعليمهم. إلى ذلك دعم الرّسول، عن بُعد، بفضل رسائله، مسيحيّي كورنثوس وغلاطية وقيل أيضًا فيليبّي. وقد أجرى الله على يديه العديد من العجائب حتّى كان يكفي أن يُؤتى “عن جسده بمناديل أو مآزر إلى المرضى فتزول عنهم الأمراض وتخرج الأرواح الشّرّيرة منهم” (أع 19: 12).

        نجاح بولس أقلق الصّاغة الّذين كانت سعتهم من عبادة الإلهة أرطاميس، فقاموا عليه وملأوا المدينة اضطرابًا وجرّر الجمع، إلى المَشهد، رفيقَيْ بولس في السَّفر غايوس وأرسترخس. فلمّا هدأت ثورتهم، خوفًا من الرُّومان، قرّر بولس أن يذهب إلى مَقدونيا. وإذ وعظ المؤمنين متنقِّلًا عاد إلى كورنثوس حيث قضى الشِّتاء. وهناك أصلح الإنحرافات الّتي سبق له أن انتقدها بالرِّسالة. من هناك أيضًا حرّر رسالته إلى أهل رومية وفيها حدّد، بصورة أساسيّة، عقيدة الخلاص باعتباره نعمة مجانيّة يهبها الله للّذين يؤمنون بالرَّبّ يسوع المسيح.

        تلقّى الرَّسول ثمار الجمع المخصّص للإخوة في أورشليم، فنوى أن يذهب ليسلّمهم إيّاها بنفسه، في العنصرة. ولكن، مرّة أخرى، أثار عليه اليهود مؤامرة جديدة فقصد أن يبحر إلى سوريا لكنّ الرّوح قال له أن يعود عن طريق مقدونيا. وفي ترواس، حين كان يعلّم الإخوة، اللّيل بطوله، حدث أنّ شابًّا اسمه أفتيخيوس تثقّل بنوم عميق فوقع من الطّابق الثّالث وحُمل ميتًا لكنّ بولس أقامه بنعمة الله. بعد ذلك توجّه بولس إلى أسّوس وميرا ثمّ إلى ميليتس حيث وافاه قسوس كنيسة أفسس. أعلمهم أنّ الرُّوح القُدُس أخطره أن وثُقًا وشدائد تنتظره في أورشليم. لكنّه قال: لست أحتسب لشيء ولا نفسي ثمينة عندي حتّى أتمّم بفرح سعيي والخدمة الّتي أخذتها من الرَّبّ يسوع لأشهد ببشارة نعمة الله” (أع 20: 24). وإذ ذكّرهم بالأتعاب الّتي تجشّمها لتأسيس كنيستهم حثّهم على أن يحترزوا لأنفسهم ولجميع الرَّعيّة الّتي أقامهم الرُّوح القُدُس فيها “لترعوا كنيسة الله الّتي اقتناها بدمه”، على حدّ تعبيره. وبعدما صلّى مع جميعهم جاثيًا على ركبتيه ودّعهم فوقعوا على عنقه يقبّلونه “متوجّعين، لا سيّما من الكلمة الّتي قالها إنّهم لن يروا وجهه أيضًا. ثمّ شيّعوه إلى السّفينة” (أع 20: 37).

        توجّه الرّسول من هناك إلى كوس ثمّ إلى رودس فباتَرا فصور فعكّا فقيصريّة حيث دخل بيت فيليبس الشّمّاس المبشِّر. ورغم أنّ نبيًّا اسمه أغابوس أشار إلى ما كان بولس مُزمِعًا أن يُعانيه من مشقّات وطلب منه صحبُه أن لا يصعد إلى أورشليم فإنّ جوابه كان: “ماذا تفعلون تبكون وتكسرون قلبي؟ لأنّي مستعدّ ليس أن أُربَط فقط بل أن أموت أيضًا في أورشليم لأجل اسم الرَّبّ يسوع” (أع 21: 13).

في أورشليم

        في المدينة المُقدّسة استقبل الإخوة بولس بفرح. وإذ اجتمع إليه الشّيوخ عند يعقوب، عرض عليهم بالتَّفصيل كلّ ما فعله الله بين الأمم بواسطة خدمته. “فلمّا سمعوا كانوا يمجِّدون الرَّبّ”. ثمّ أشاروا عليه أن يرافق أربعة كان عليهم نذر ليتطهّر معهم ويبيِّن لليهود الّذين آمنوا واستمرّوا غيارى للنَّاموس أنّه لا زال يسلك حافظًا النّاموس (أع 21: 24). فلمّا أشرفت الأيّام السّبعة اللّازمة لإيفاء النّذر على الانقضاء رآه يهود من آسيا في الهيكل فأهاجوا كلّ الجمع وألقوا عليه الأيادي وجرّروه خارج الهيكل وطلبوا أن يقتلوه. لكن وصل الخبر إلى أمير الكتيبة في أورشليم فأخذ للوقت عسكرًا وقادة مئات وانتزعه من أيديهم. وإذ أراد أن يصعد به على درجات قلعة أنطونيا رغب إليه بولس أن يأذن له بمخاطبة الشّعب فأعطاه الإذن. ولمّا أشار بيده إلى الشّعب صار سكوت عظيم فناداهم باللّغة الآرامية محتجًّا مخبرًا بكيفية هدايته. لكنّه ما إن أتى على ذكر خدمته للأمميّين حتّى رفعوا أصواتهم قائلين: “خذ مثل هذا من الأرض لأنّه لا يجوز أن يعيش”. فأخذه الجند وراموا أن يمدّوه للسّياط استجوابًا. فلمّا علموا أنّه رومانيّ الرّعويّة تنحّوا عنه. أمّا الأمير فأراد أن يعلم اليقين لماذا يشتكي اليهود عليه فأحضر رؤساء الكهنة وكلّ مجمعهم، في الغد، وأقام بولس لديهم. فلمّا قال بولس إنّه فرّيسي ابن فرّيسي وإنّه على رجاء قيامة الأموات يُحاكَم إنقسم الحاضرون لأنّه كان بينهم فرّيسيون وصدّوقيّون. الفرّيسيون يؤمنون بالقيامة أمّا الصّدّوقيّون فينكرونها. ولمّا خاف الأمير أن يفسخوا بولس انتزع جندُه بولس من وسطهم وأتوا به إلى المُعَسكر. ثمّ في اللّيلة التّالية وقف الرَّبّ ببولس وقال له: “ثق يا بولس لأنّك كما شهدت بما لي في أورشليم هكذا ينبغي أن تشهد في رومية أيضًا” (أع 23: 11).

        وحاك اليهود مؤامرة على بولس ليقتلوه فدرى بها الأمير ونقله، محفوظًا بأعداد من العسكر، إلى قيصريّة، إلى فيليكس الوالي. فانحدر حنانيّا رئيس الكهنة مع الشّيوخ وعرضوا للوالي ضدّ بولس. فلمّا دُعي بولس اتّهموه بأنّه مُفسِد ومهيِّج فتنة بين جميع اليهود وأنّه شرع أن ينجِّس الهيكل. أمّا بولس فنفى أن يكون قد صنع سوءًا لكنّه أقرّ أمام الجميع بأنّه حسب الطّريق الّذي يقولون عنه شيعة النّاصريّين هكذا يعبد إله آبائه “مؤمِنًا بكلّ ما هو مكتوب في النّاموس والأنبياء” (أع 24: 14). وأبان أنّ له رجاء بالله أنّه “سوف تكون قيامة للأموات للأبرار والأثمة” (أع 24: 15). بقي بولس مَسجونًا في قيصريّة مدّة سنتين إلى أن خلف فيليكس والآخر هو فستوس. هذا عرض على بولس أن يصعد إلى أورشليم ليُحاكَم هناك لديه. قال ذلك لأنّه أراد أن يودع اليهود منّة. أدرك بولس أنّ فستوس مزمع أن يسلّمه إلى اليهود فرفع دعواه إلى قيصر فأُجيب إلى طلبه.

 

رحلة الأسر إلى رومية

        أبحر بولس وبعض التّلاميذ في عهدة قائد مئة من كتيبة أوغسطوس اسمه يوليوس. مرّوا بصيدا ونزلوا إلى ميرا ليكية حيث وجدوا سفينة إسكندريّة مسافرة إلى إيطاليا. لم يبلغوا جنوبي كريت إلّا بصعوبة بالِغَة. وإذ لم يشاؤوا أن يُشتُّوا هناك تابعوا سيرهم رغم أخطار السَّفر وتحذيرات بولس. أُخذت السَّفينة بريح زوبعيّة اسمها أوروكليدون. وبعد أيّام انتُزع كلّ رجاء في نجاتهم. لكنْ وقف ملاك الرَّبّ ببولس ووهبه جميع المسافرين معه قائلًا له: “لا تخف يا بولس. ينبغي لكَ أن تقف أمام قيصر. وبالفعل نجا الرُّكّاب إلّا السّفينة بعد أربعة عشر يومًا من المعاناة. المقام الّذي استقرّوا فيه كان جزيرة تدعى مليطة. هناك قضوا بقيّة الشّتاء. بعد ثلاثة أشهر أقلعوا في سفينة إسكندريّة شتّت في الجزيرة. أخيرًا أتوا إلى رومية بعد بضع محطّات. أتى الإخوة في رومية لاستقباله في فورون أبيّوس والثّلاثة الحوانيت. وقد أُذِن لبولس أن يقيم وحده مع عسكريّ كان يحرسه وتسنّى له أن يستقبل زائريه بحرّية. فترة الاعتقال هذه استمرّت سنتين كتب بولس خلالها رسائل إلى كنائس كولوسي وفيليبّي وأفسس عارضًا لعمق سرّ المسيح المخبوء في الله منذ البدء والمكشوف في ملء الأزمنة.

في التّراث

        هذا وسِفر أعمال الرّسل يتوقّف عن الكلام عند أسْر بولس في رومية. ويُظنّ أنّ محاكمة الرّسول لدى قيصر انتهت بإطلاق سراحه وأنّه ذهب إلى أسبانيا كما كان يرغب (رو 15: 24). وثمّة مَن يقول إنّه قام، بعد ذلك، برحلة أخرى إلى الشّرق ومرّ بكريت وآسيا الصّغرى وترواس ومقدونيا. كذلك يبدو أنّه أُوقف من جديد في حدود العام 67 م. في ظروف لا نعرفها، فاقتيد إلى رومية مع لوقا وعانى أسرًا قاسيًا، ثمّ حوكم كمواطنٍ رومانيّ وجرى قطع رأسه على طريق أوستيا، خارج المدينة.

رفاته

        يُشار إلى أنّ هامتَيّ الرُّسُل بطرس وبولس محفوظتان في بازيليك القدّيس يوحنّا لاتران. بعض جسده تحت مذبح بازيليك القدّيس بولس خارج الأسوار والقسم الباقي مع جسد القدّيس بطرس تحت مذبح بازيليك القدّيس بطرس في الفاتيكان. العيد اليوم احتفاء، منذ القرن الرّابع، بنقل جسدَي الرَّسولَين إلى دياميس القدّيس سباستيانوس، على طريق أبيوس، حفظًا لها من التّدنيس المحتمل خلال حملة اضطهاد الإمبراطور فاليريانوس سنة 258 م. فلمّا عاد الهدوء أعادهما البابا سيلفستروس إلى مثواهما الأوّل.

مواضيع ذات صلة