Menu Close

في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:

*القدّيس فيليبّس الرّسول *أبونا الجليل في القدّيسين غريغوريوس بالاماس رئيس أساقفة سالونيك *الشّهيدات السّوريّات *الجديد في الشّهداء قسطنطين هيدرا *القدّيس البارّ فيليبّس، مؤسّس دير الثّالوث القدّوس في إيراب *القدّيس البارّ أوفيميانوس القبرصيّ *القدّيس البارّ سمعان الكالابري *الشّهداء الرّوس الجدد أريستارخوس الكاهن الرّاهب ومَن معه.

*        *        *

✤ تذكار أبينا الجليل في القدّيسين غريغوريوس بالاماس العجائبـيّ رئيس أساقفة تسالونيك ✤

مهاجرون مقرّبون من القصر

ولد القدّيس غريغوريوس بالاماس في مدينة القسطنطينية في العام 1296 للميلاد. كان من عائلة من النبلاء. أبوه وأمه مهاجران من بلاد الأناضول تركاها إثر غزوة الأتراك لها. كان أبوه عضواً في مجلس الشيوخ مقرَّباً من الأمبراطور البيزنطي اندرونيكس الثاني باليولوغوس. يروى عن أبيه أنه كان يتعاطى الصلاة القلبية ويغيب عما حوله حتى في حضرة الأمبراطور. وقد كان يحدث أن يطرح عليه أندرونيكوس سؤالاً فلا يجيبه لأنه كان غارقاً في صلاته. ويبدو أنه صار راهباً واتخذ إسم قسطنديوس عندما أحسَّ بدنو أجله.

أما أمه فكانت هي الأخرى تقية، حادة الذكاء، تتمتع بمواهب جمة. وقد كان لها على إبنها أطيب الأثر. كما اقتبلت هي أيضاً الحياة الرهبانية.

كان لغريغوريوس أربعة إخوة، أختين وأخوين. وإثر وفاة أبيه تعهّد العائلة الإمبراطور أندرونيكوس. وهكذا تيّسر لغريغوريوس أن يحصّل قدراً وافراً من العلم الدنيوي. كما أمضى سنواته حتى العشرين أو الثانية والعشرين في القصر الملكي. يروى عنه أنه كان صعباً عليه، أول أمره، أن يحفظ غيباً فكان يركع ثلاث مرات ويصلي لوالدة الإله صلاة حارة. وبمعونتها توصل إلى الحفظ عن ظهر قلب بسهولة. درس البيان والخطابة والطبيعيات والمنطق. وقد أبلى في الفكر الفلسفي بلاء حسناً، لا سيما في المنطق الأرسطوي حتى كان يبدو لمعلميه كأنهم يسمعون فيه أرسطو بعينه.

لا للوظيفة، نعم للدير

لم تُغْرِ غريغوريوس نجاحاتُه ولا كانت له في دنيا الوظائف العامة طموحات. لذا حوّل طرفه ناحية أخرى تحرّك صوبها قلبُه بكليته : الرهبنة. إعتاد قبل ذلك أن يلتقي رهباناً ينحدرون من الجبل المقدّس (آثوس). وكان هؤلاء يرشدونه إلى الإبتعاد عن العالم ويشجّعونه على الذهاب إلى الجبل المقدّس. كما كانوا يوصونه بالتروّض على أتعاب الفضيلة قبل ترك العالم. وهكذا بدأ بالسلوك في الفقر إلى حدّ أن بدأ مَن حوله يظنون أنه فقد عقله. وقد كان له في شخص ثيوليبتوس، أسقف فيلادلفيا العتيد، خير أب روحيّ ومعلم حثّه ونشأه على يقظة القلب والصّلاة النّقيّة.

العائلة إلى الرّهبنة

أخيراً عزم غريغوريوس على ترك العالم والإنصراف إلى الحياة الرهبانية الملائكية. ولما كان بكر إخوته وصاحب الكلمة الأولى في العائلة محل أبيه، فقد رأى أن الحل الأوفق يتمثل في أن يترك هو وأمه وأخواه وأختاه والخَدم العالمَ ويقتبلوا الحياة الديرية. وهكذا كان: توزعت الأم والأختان والخَدم في أديرة في القسطنطينية وارتحل غريغوريوس وأخواه، مكاريوس، و ثيودوثيوس، إلى الجبل المقدّس (آثوس). كان ذلك في العام 1316 للميلاد.

في عهدة أب هدوئي

نزل غريغوريوس وأخواه في مكان قريب من دير فاتوباذي في الجبل المقدّس، ووضعوا أنفسهم في عهدة أب هدوئي يدعى نيقوديموس. الهدوئيةX طريقة رهبانية نسكية تتمثل في حياة نصف مشتركة يتحلق فيها الرهبان حول شيخ روحاني فيسلكون في النسك والصلاة وذهبون في السبوت والآحاد إلى الديرالذي يُعتبر إسقيطُهم من توابعه ليشتركوا في الخدم الليتورجية وسرّ الشكر. أمضى غريغوريوس في هذا الوضع ثلاث سنوات قضاها في الصلاة والصوم والسهر. كان ذكر والدة الإله لديه دائماً، يستعين بها على نفسه. ويذكر مترجم سيرته أنه فيما كان يصلي مرة ظهر له يوحنا اللاهوتي، شيخاً وقوراً، وقال له: “لقد أرسلتني إليك ملكة الكل والفائقة القداسة لأسألك لما تصرخ إلى الله في كل ساعة: أنر يا رب ظلمتي! أنر ظلمتي؟؟ فأجاب غريغوريوس: وماذا أطلب أنا الممتلىء أهواء وخطايا غير الرحمة والإستنارة لأدرك مشيئة الله القدّوسة واعمل بها؟ فقال له الإنجيلي: إن سيّدة الكل تقول لك بواسطتي أنها جعلتني معها معيناً لك في كل شيء. فسأله غريغوريوس: وأين تريد أم  ربي أن تساعدني أفي الحياة الحاضرة أم في الآتية؟ فأجاب الإنجيلي: في الحياة الحاضرة والآتية معاً…”.

إلى اللافرا فإلى الصحراء

توفي أخو غريغوريوس الأصغر، ثيودوسيوس، وكذا نيقوديموس الشيخ فانتقل غريغوريوس وأخوه الثاني، مكاريوس، إلى دير اللافرا الكبير الذي كان أول دير في الجبل المقدس (آثوس) والذي أسسه القدّيس أثناسيوس الآثوسي في القرن العاشر للميلاد. بقي غريغوريوس في اللافرا ثلاث سنوات ساد خلالها بنعمة الله والجهاد المرير والنسك الشديد لا على أهوائه وحسب بل حتى على ضرورات الطبيعة.  فلقد حارب النعاس وتغلب عليه إلى حد أنه بقي ثلاثة أشهر بلا نوم إلا قليلاً من الراحة بعد الطعام حتى لا يفقد عقلُه صوابَه.

بعد ذلك خرج غريغوريوس إلى الصحراء طالباً المزيد من الخلوة والهدوء، فاستقر حيناً في إسقيط يدعى “غلوسيّا” حيث تتلمذ لناسك شهير في الهدوئية اسمه غريغوريوس البيزنطي فأخذ عنه الأسرار الفائقة للصلاة العقلية ولرؤية الله السامية. وقد اكتسب خلال إقامته في هذا الإسقيط تواضعاً عميقاً اقترن بمحبة لا توصف لله والقريب. كما ساعدته الخلوة والهدوء على تركيز العقل في القلب والدعوة باسم الرب يسوع بنخس، فأضحى كله صلاة وصارت الدموع العذبة تتدفق من عينيه كمن معين ماء لا ينضب.

لم تطل إقامة غريغوريوس في هذا الإسقيط أكثر من سنتين أو ثلاث غادر بعدها إلى تسالونيكي بسبب غارات القراصنة الأتراك (1325م)، وكان بصحبته إثنا عشر راهباً من الإخوة.

الهدوئيّة العامّة

في تسالونيكي، اشترك غريغوريوس لبعض الوقت في حلقة روحية كان يقودها إيسيدوروس، بطريرك القسطنطينية العتيد وأحد تلامذة القدّيس غريغوريوس السينائي. الفكرة من هذه الحلقة كانت أن الروحانية الهدوئية ليست للرهبان وحدهم بل لعامة المؤمنين أيضاً. عليه سعى غريغوريوس وإيسيدوروس إلى نشر ممارسة صلاة يسوع بين الناس من حيث هي الأداة الأولى لتفعيل نعمة المعمودية.

مثال في الفضيلة

سيم غريغوريوس كاهناً وهو في سن الثلاثين (1326م). ثم انتقل إلى منطقة فاريا الواقعة على الحدود بين مقدونيا وتراقيا واستقر في إحدى مغاورها الجبلية نظير النساك القدامى. هناك، فيما يبدو، قسى على نفسه أشد القسوة، فكان لا يخرج من قلايته خمسة أيام كاملة في الأسبوع إلا السبت والأحد ليشترك في خدمة الأسرار الإلهية وينفع إخوته بكلام روحي. وقد تركت هذه المرحلة من حياته بصماتِها على صحته البدنية فأصيب بمرض في الأمعاء.

كان الرهبان والنسّاك في منطقة فاريا ينظرون إلى غريغوريوس كمثال لحياة الفضيلة لأن حياته الملائكية، على حد تعبير مترجمه، “كانت تدهش الجميع وتدخلهم في نشوة”، وكذا كلامه وحكمته الإلهية الفائقة. كما “كان يظهر في بعض الأحيان يقظاً متجهاً كله إلى الله مغتسلاً بدموعه العجيبة، وأحياناً أخرى كان وجهه يظهر بشكل فائق الطبيعة بهياً لامعاً ممجَّداً بنار الروح القدس، خاصة عندما  كان يخرج من القدّاس الإلهي أو من هدوء صلاته في القلاية”.

إلى آثوس من جديد

لم يطل المقام بغريغوريوس في فاريا أكثر من خمس سنوات إذ اضطر تحت غارات الصربيين إلى العودة إلى الجبل المقدس (آثوس) حيث  نزل في منسك القدّيس سابا التابع لدير اللافرا الكبير والرابض فوق أكمة تعلو على الدير ويحتاج قاصدها إلى ساعة سيراً على الأقدام ليصل إليها. هناك انصرف غريغوريوس إلى تواصل أعمق وربه فبلغ معاينة الله في نور الروح القدس والتأله. هنا يروي مترجمه أنه فيما كان ذهنه مرة ملتصقاً بالله “أخذه نعاس خفيف فعاين الرؤيا التالية: ظهر وهو يمسك بيده وعاء مملوءاً حليباً. وقد اخذ الحليب فجأة يفيض كنبع وينسكب خارج الوعاء. ومن ثم ظهر وكأنه استحال خمرة ممتازة زكية الرائحة…فجأة ظهر له إنسان نوراني بلباس عسكري وقال له: لما لا تعطي يا غريغوريوس للآخرين بعضاً من هذا الشراب العجيب المنسكب بغزارة بل تركته يذهب هدراً؟ ألا تعلم أنه هبة من الله ولن ينضب أبدأً؟ فأجاب غريغوريوس: لا طاقة لي على منح مثل هذا الشراب لأحد ولا يوجد من يطلب مثل هذا النوع من الشراب. أجابه الرجل: وإن لم يكن ثمة من يسعون في طلب مثل هذه الخمرة، في الوقت الحاضر، فإن عليك أن تعمل وسعك ولا تتهاون في تقديمه للآخرين. أما الإثمار فمتروك لله”. هكذا أيقن غريغوريوس أنه قد آن الأوان لمباشرة عمل كتابي يفيد منه من يحرّك الله قلوبهم.

بعض مقولاته

كتابات القدّيس غريغوريوس عظيمة الأهمية. لذا، وإكمالاً للفائدة، نورد بعض مقولاته.

يقول إنه متى اعتزل الإنسان العالم واستغرق في النشوة الكاملة للروح فإن الله يكشف له ذاته. إذ ذاك تنشقّ الظلمة ولا يبقى غير نور الله يدعونا إليه مؤطَّراً بنار معتمة. هذا النور هو الله نفسه. فإن صلّى المرء بمنتهى البساطة في القلب وكرّر الكلمات “ربي يسوع المسيح، يا ابن الله، ارحمني” أيضاً وأيضاً، فإنه يؤدي، بذلك، العمل الفائق الذي من أجله خُلق، لأنه سيجد نفسه أخيراً في دائرة الضوء الذي أشرق على قمة ثابور يوم التجلي الإهلي.

كان غريغوريوس يرى الكون مشحوناً بطاقة (energy)  التجسّد الإلهي وكذا بجمال العذراء مريم. في عينيه أن الأرض موضعٌ إلهي جمالُه يكاد لا يحتمل. فإن نور التجلي لم يكف عن السطوع. وثمة قدّيسون يعاينون هذا النور، بعدما جاء المسيح في الجسد، بحراً لا حد له يفيض بصورة عجيبة من شمس وحيدة هي جسد المسيح. يقول: “في الإسم القدوس طاقة إلهية تخترق قلب الإنسان وتغيّره متى انبثّت في جسده”. وكان يؤمن أن ثمة نَفَساً إلهياً معطى للناس يتحرك في أجسادهم المادية، والجسد يقتني القداسة بهذا النفس الإلهي المنسكب فيه، وأن الجسد كالنَفْس مخلوق على صورة الله وهو ليس شراً بحال. وللقدّيس غريغوريوس قول مأثور عن أهمية الجسد “إن الإنسان بفضل كرامة الجسد المخلوق على شبه الله هو أسمى من الملائكة”.

كان يقول إنه من النفس تنسكب في الجسد طاقة إلهية بصورة متواصلة وأن الملائكة وإن كانوا أدنى إلى الله فلا أجساد لهم تنسكب فيها الطاقة الإلهية على هذا النحو. وعنده أن الإنسان يصبح إلهاً متى انكبّ على التأمل وعاين في موضع القلب نور التجلي المتوهج.

هذا ومع القدّيس غريغوريوس انتهى الجدل الذي طالما كان قائماً بين قائل بإمكان إدراك الإنسان لله وقائل بخلاف ذلك. فبما أن نعمة الله قد صار بالإمكان معاينتُها في النور غير المخلوق المتدفق في “موضع القلب”، وبما أن الرهبان، ولا سيما القدّيسين، يتمتعون بهذه النعمة، في أعمق تأملاتهم، لذا يخلص غريغوريوس إلى أن الله بات بالفعل قابلاً للمعاينة لأنه هو إياه هذا النور. ومع ذلك يبقى الله، إلى الأبد، غير منظور، يبقى في جوهره كذلك. بكلام آخر، الله معروف في ذاته، في شخصه كنور غير مخلوق، لا في جوهره. بكلمات القدّيس غريغوريوس نفسه: “ليس لنا أن نشترك في الطبيعة الإلهية، ومع ذلك، وبمعنى من المعاني، لنا أن نشترك، وبيسر، في طبيعة الله، لأننا ندخل في شركة معه، فيما يبقى الله تماماً وفي الوقت نفسه بمنأى عنا. لذا نؤكد معاً، وفي وقت واحد، أمرين متناقضين نسرّ بهما ونعتبرهما مقياساً للحقيقة”.

على هذا خلص القدّيس غريغوريوس إلى أن التجلي الإلهي على قمة ثابور هو أعظم ما أتاه الرب يسوع من أعمال. التجلي الإلهي يفوق حتى سر الشكر. وقد كتب “أن نور ثابور هو ملكوت الله”. لم يكن نوراً مفاجئاً لأنه لا بداية له ولانهاية، لا يُحدّ في زمان ولا مكان ولا يمكن إدراكه بالحواس العادية. ومع ذلك صار معروفاً والذين اشتركوا في طاقة الله عرفوه وتألّهوا به. فالتلاميذ الذين وقفوا على قمة ثابور قد رأوا النور وأضحوا كائنات سماوية لأنهم لما حدّقوا فيه تروحنت أجسادهم. هذا النور المعمّي عاينه القدّيس بولس في دمشق وإيليا النبي عندما أخذته عن الأنظارعربة النار وموسى عندما وقف بالعليقة المحترقة. وكيف يلتمس المرء هذا النور؟ قبل كل شيء، بالتوبة والدعوة  باسم الرب يسوع واستدعاء رحمة الإسم القدّوس.

القدّيس غريغوريوس بالاماس هو لاهوتي الروحانية الأرثوذكسية الأول. إن كل آباء البرية والذين استغرقوا في خبرة صلاة الرب يسوع والتماس النور الإلهي قالوا واختبروا ويختبرون ما سكبه القدّيس غريغوريوس في قالب أجاد في حبكه. وقد كان التعبير عن هذا التراث الحي غاية في الأهمية في القرن الرابع عشر لأن الروحانية الأرثوذكسية تعرّضت، آنئذ، لهجمات من الداخل ومن الخارج كان يمكن أن تحوّلها عن مسارها وتغيّر ملامحها وتلقيها في خضم التيارات الفكرية التي بدأت تعبث بالغرب، آنذاك، والتي تمثلت في بعث الفكر الفلسفي الإغريقي والوثنيات القديمة وتمخضت، فيما بعد، عن التيارات العقلانية والحركة البروتستانتية، كما خلقت المجتمعات الدهريةX التي أخذت ترتكز على الفلسفة الإنسانية والأخلاقيات دون الإلهيات وأفرعت ما يعرف بفلسفة “الله مات”.

المواجهة التاريخية

في هذا الإطار كانت المواجهة التاريخية الشهيرة بين القدّيس غريغوريوس بالاماس والراهب برلعام.

كان برلعام من كالابريا، في جنوبي إيطاليا، يوناني اللسان. جاء إلى مدينة القسطنطينية خلال العام 1338 للميلاد فذاع صيته في أوساط المفكرين فيها كعالم وفيلسوف مميز، كما خصّه الإمبراطور ورئيس وزرائه بإكرام وتقدير كبيرين. كان برلعام أرثوذكسياً في الظاهر وقد كتب ضد اللاتين. قال في عدم إمكانية معرفة الله في ذاته، واستند في تعاطيه مع مؤلفات الآباء الشرقيين إلى تحليلاته الذهنية والفلسفية دون الخبرة الصلاتية، لذا اصطدم بما كان يدّعيه الهدوئيون من إمكان معرفة الله ومعاينة النور غير المخلوق عن طريق صلاة الذهن في القلب والتركيز والإيقاع الجسديَّين الموافقين لها. فشنّ عليهم حملة شعواء وكفّرهم بحجة الخروج على أساسية مسلّم بها في الكنيسة. إذ ذاك انبرى القدّيس غريغوريوس بالاماس للدفاع عن تراث طالما عاش الرهبان في كنفه وخبروه حياً في ذواتهم على مدى أجيال. وطبعاً كان لكل من الإثنين، غريغوريوس وبرلعام، مناصروه في كافة الأوساط: القصر والجيش والأساقفة والمفكرين والرهبان وحتى العامة. وهكذا قامت الدنيا ولم تقعد ردحاً من الزمان. في هذه الفترة بالذات كتب القدّيس غريغوريوس ثلاثيته في الدفاع عن القدّيسين الهدوئيين. وقد التأم مجمعان، خلال شهري حزيران وآب من العام 1341 للميلاد في أروقة آجيا صوفيا، وأدانا برلعام الذي تحوّل إلى الغرب وصار أسقفاً في إيطاليا.

غير أن رحيل برلعام لم يكن كافياً لوضع حد للصراع، فقام أكندينوس بمتابعة الحملة ضد القدّيس غريغوريوس والرهبان وناصره في رأيه بطريرك القسطنطينية، يوحنا كاليكاس، لأسباب سياسية. ولكن، أقيل البطريرك في العام 1347م وأخذ مكانه إيسيدوروس الذي زكّى غريغوريوس وجعله أسقفاً على سالونيك. وكان أهم المجامع المنعقدة في هذا الشأن ذاك الذي التأم في شهر تموز من العام 1351م والذي أدان آخر أعداء بالاماس، الفيلسوف نقفر غريغوراس، وأعلى شأن القدّيس غريغوريوس والكتابات التي وضعها من حيث تعبيرها الصادق والصافي عن إيمان الكنيسة الأرثوذكسية.

وقوعه في الأسر

ولعل آخر وأهم حدث في السنوات الأخيرة من حياة القدّيس غريغوريوس كان وقوعه في الأسر. فبينما كان ينتقل بطريق البحر من سالونيك إلى القسطنطينية وقع في أيدي القراصنة الأتراك الذين استاقوه إلى آسيا الصغرى حيث بقي أسيراً ما يقرب من سنة (1353 – 1354م). أمران أساسيان ميّزا هذه الفترة من حياة قدّيسنا، كما يتضح من الرسائل والوثائق العائدة إليها، أولهما التسامح الكبير الذي كان الأتراك يعاملون به المسيحيين، سواء الأسرى منهم أو سكان المناطق المحتلة، والثاني اهتمام القدّيس غريغوريوس بالدين الإسلامي. وقد تجلّى الأخير بصورة خاصة، في الحوار الصريح الذي كان للقدّيس غريغوريوس مع الإبن الأكبر للأمير التركي أورخان. وبنتيجة هذا الحوار عبّر قدّيسنا عن الأمل في أن “يحل يوم”، على حدّ تعبيره، “يصبح فيه بإمكاننا أن نفهم بعضنا بعضاً…”

ويبدو أن قدّيسنا عاش في هدوء خلال القسم الأكبر من هذه الفترة في دير من ديورة  نيقية إلى أن إفتداه بالمال بعض الأتقياء الصرب.

رقاده

أما رقاد القدّيس غريغوريوس فكان في سالونيك في الرابع عشر من شهر تشرين الثاني من العام 1359 للميلاد، بعد أشهر من المرض الشديد. ويذكر مترجمه أنه “بعد أن فارقت جسدَه روحُه الطاهرة، أظهرت نعمة الروح القدس البهاء الداخلي الذي كان في نفسه وذلك بطريقة عجيبة، إذ إن نوراً ساطعاً ملأ تلك القلاية التي كانت فيها رفاته. فاستضاء وجهه وجسده لم يزل بعد جاثياً يابساً قبل الدفن…وقد لازمت نعمة الروح القدس رفاته الشريفة واستبان مسكناً للنور الإلهي ومنبعاً للعجائب والمواهب ومستشفى عاماً مجانياً. لذلك لُقِّب بالعجائبي…”.

 هذا وقد أعلنت قداسة القدّيس غريغوريوس في مجمع عقد في القسطنطنية بعد تسع سنوات من رقاده، في العام 1368م، برئاسة تلميذه وصديقه، فيلوثاوس، البطريرك المسكوني، وهو الذي كتب سيرته. وقد وصفه المجمع بأنه “الأعظم بين آباء الكنيسة”.

X  –  تعلق الهدوئية أهمية خاصة على التلاوة المتواترة لصلاة يسوع، أي “ربي يسوع المسيح، يا ابن الله، ارحمني أنا الخاطىء” بصيغتها الكاملة أو المختصرة. ويوصي الآباء الهدوئيون باعتماد وضع جسدي خاص أثناء الصلاة يتمثل في أمور كضبط عملية التنفس، شهيقاً وزفيراً بما يتلاءم وتلاوة الصلاة. والهدف المباشر كان ضمان وحدة الذهن والقلب: “الذهن في القلب”. إذ ذاك تصبح الصلاة صلاة القلب. وهذا بفضي بمختاري الله إلى معاينة النور الإلهي غير المخلوق الذي يمكن رؤيته، والحال هذه، بعين الجسد، على نحو ما جرى للتلاميذ في ثابور.

X  – المجتمع الدهري هو الذي يحيا في ذاته ومن أجل ذاته، ويعتبر هذا الدهر مكتملاً، لا يحتاج، بالضرورة، إلى ما هو خارج نطاقه.

مواضيع ذات صلة