Menu Close

في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:

*الأحد الثاني والعشرون بعد العنصرة. *أبينا الجليل في القدّيسين يوحنّا الذّهبيّ الفم . *الجديد في الشّهداء داماسكينوس القسطنطينيّ.

*        *        *

تذكار أبينا في القدّيسين يوحنّا الذهبـي الفم رئيس أساقفة القسطنطنية (+407م)

إن من يطالع بالتفصيل الخدمة الإلهية التي خصّت بها الكنيسة المقدّسة هذا الكوكب الساطع فيها، واعظ أنطاكية والمسكونة ورئيس أساقفة القسطنطينية، يلاحظ أنها لم تترك صفة من صفات القدّاسة والرعاية الصالحة والوعظ المثالي إلا أسبغتها عليه. فهو الَّذي “صار مماثلاً لله” بعدما امتُحن “بالتجارب كالذهب في النار”. وهو “الآلة الملهمة من الله” و”العقل السماوي” و”عمق الحكمة” و”الكارز بالتوبة” و”نموذج المؤمنين” و”الملاك الأرضي والإنسان السماوي”. وهو كذلك “خزانة أسرار الكتب” و”اللسان الَّذي بمحبة بشرية رسم لنا طرق التوبة المتنوعة”. وهو أيضاً “أبو الأيتام والعون الكلي الحماسة للمظلومين ومعطي البائسين ومطعم الجيّاع وإصلاح الخطأة وطبيب النفوس الحاذق الكلي المهارة”.

نشأته وتتلمذه .أبصر قدّيسنا النور في مدينة انطاكية العظمى في تاريخ لا نعرفه بالتحديد، يتراوح بين العامين 344 و354 للميلاد ولعله 347. وكان أبواه من علّية القوم. والده سكوندوس كان قائداً للجيش الشرقي في الإمبراطورية وكان وثنياً، وقد رقد بعد ولادة يوحنا بقليل. والدته أنثوسا هي التي حضنته وربّته للمسيح. كانت، في تقدير المؤرخين، زينة الأمهات المسيحيات الأنطاكيات، وفي مصاف الكبيرات كنونا أم القدّيس غريغوريوس اللاهوتي ومونيكا أم أوغسطينوس المغبوط. حتى الفيلسوف الوثني ليبانيوس اعترف بقَدْرِها وعظمة الأمهات المسيحيات مثيلاتها. ترمّلت وهي في سن العشرين، وأبت أن تتزوج من جديد مؤثرة الإنصراف إلى حياة الفضيلة ومكتفية بتربية ابنها. وإلى جانب يوحنا يبدو أنه كانت لأنثوسا ابنة تكبر الصبي ببضع سنوات.

تتلمذ يوحنا في أنطاكية، وهو في الرابعة عشرة من عمره، للفيلسوف الأفلاطوني الجديد ليبانيوس، إلى سن الثامنة عشرة. أخذ عنه فنون الخطابة والآداب الإغريقية. ويبدو أن معلمه كان معجباً به لدرجة أنه قبل وفاته بقليل، سئل بِمَن يوصي معلماً بعد موته فأجاب: “بيوحنا لو لم يكن المسيحيون قد سرقوه مني!”

معموديته ورهبنته

اقتبل يوحنا المعمودية في سن متقدمة قد تكون الثامنة عشرة أو الثالثة والعشرين. ولم يكن سبب ذلك والدته ولا لأنه كان غير مؤمن بل لأن النظرة إلى المعمودية اختلفت يومها عما هي عندنا. ممارسة المعمودية في سن الرشد كانت أكثر شيوعاً من معمودية الأطفال. السبب كان التوقير الشديد الَّذي أحاط به المؤمنون السر من حيث هو سر إعادة الولادة. وهناك اعتقاد شعبي شاع يومها أن المعمودية المبكرة يمكن أن تكون سبباً في خسران صاحبها النعمة في الكبر. هذا ما يفسّر أن كثيرين كانوا يرجئون معموديتهم إلى وقت متأخر من حياتهم، وبعضهم كقسطنطين الكبير، لم يعتمد إلا على فراش الموت. لذا يوحنّا، بعد معموديته، “لم يعرف القَسَم ولا افترى على احد ولا تكلم زوراً ولا لعن ولا حتى سمح لنفسه بالمزاح”. معمّده كان ملاتيوس الأنطاكي القدّيس، أسقف أنطاكية العظمى، الَّذي رأى فيه نجماً ساطعاً للكنيسة فاتحذه قندلفتاً ثم قارئاً بضع سنوات. أما يوحنا فكانت رغبة قلبه أن يترهّب، لا سيما بعدما التقى ديودوروس الراهب وتأثّر به. ولكنْ، حالت أنثوسا من ناحيتها والقدّيس ملاتيوس من ناحيته دون تحقيق يوحنا رغبة قلبه، ولو مؤقتاً، فأقام راهباً في بيته إلى أن توفّيت والدته. أما العلم الدنيوي الَّذي كان قد تعاطاه بلهفة ونهم كما لو كان أرقى ما تتشوّف إليه النفس فقد تخلّى عنه وتحوّل ضده متبعاً قول الرسول بولس القائل: “ما كان لي من ربح اعتبرته خسارة من أجل المسيح…وأني أعتبر كل شيء نفاية لكي أربح المسيح ويكون لي فيه مقام” (فيليبي 3 : 8 – 9). نظرة القدّيس يوحنا إلى الإقبال بشغف على مثل هذا العلم أضحت أنه كالإقتبال على الفجور حتى تحدث عما أسماه “فجور العلم”. وحوّل يوحنا بيته إلى دير. إنقطع عن العالم والعالميات وصار ناسكاً صارماً، لا يأكل إلا قليلاً. يستغرق في الأسهار والصلوات وحفظ الصمت. كان حريصاً على قمع شهوة البطن والغضب. ويبدو أنه اقتنى الصلاة النقيّة وهدوء الذهن ووداعة لا تتزعزع. معارفه اعتبروه إنطوائياً كئيباً. فقط إثنان من التلامذة أقرانه شاركاه نزعته النسكية: مكسيموس، أسقف سلفكيا العتيد، وثيودوروس مصيصة، بالإضافة إلى باسيليوس الَّذي صار، فيما بعد، أسقف رفانية القريبة من أنطاكية. وهذا كان صنو نفسه.

أربع سنوات راهباً

وبعدما توفيت أنثوسا، والدة يوحنا، انصرف إلى الجبال، جنوبي أنطاكية، حيث أمضى ست سنوات، راهباً ثم ناسكاً، في عهدة شيخ اسمه هزيخيوس. وقد وصف هو طريقة عيش الرهبان هناك، فقال إنهم يسكنون في قلالي أو أكواخ ويسلكون بحسب قانون مشترك، ولهم شيخهم، وإن ثيابهم خشنة من شعر الإبل أو الماعز يلبسونها فوق أقمصتهم الكتّانية، وإنهم ينهضون صباحاً قبل الفجر ويبدأون يومهم بالتسابيح والصلوات المشتركة، ثم يتفرقون كلٌّ إلى عمله، بعضهم ليقرأ وبعضهم ليكتب وبعضهم ليعمل عملاً يدوياً يساعد به الفقراء. أربع ساعات في اليوم كانت للصلاة والترتيل. كان طعامهم الخبز والماء إلا في حالات المرض وكانوا ينامون على بسط من القش. كل شيء كان بينهم مشتركاًِ، وعبارات كهذه: “هذا لي وهذا لك” لم يكن لها موضع في حياتهم. ومتى رقد أحدهم في الرب فلا نحيب عليه بل شكر الله. كان الإخوة يحملونه إلى القبر وهم يرتّلون ويسبحون لأنه لم يمت بل كمّل طريقه وأُهّل لمعاينة وجه السيد. كيف لا والحياة بالنسبة إليهم هي المسيح والموت ربح؟!

مرّت أربع سنوات على يوحنا في الحياة الرهبانية المشتركة توحّد بعدها في إحدى المغاور. هناك تسنّى له أن يخوض غمار حرب ضروس لروحنة جسده. الشهادات التاريخية تفيد أنه لم يكن يستلقي أبداً. وكان متى شاء أن يرتاح قليلاً يعلّق نفسه من الكتفين بحبل ثبّته في سقف المغارة. وقته كان يقضيه في الصلاة والتأمل في الكتاب المقدّس. وقد كان مفرطاً في نسكه لدرجة أنه بتأثير البرد والأصوام والأسهار أُصيب في كليتيه ومعدته واضطر إلى مغادرة مغارته والنزول إلى أنطاكية للعلاج، على أمل العودة إلى نسكه بعد حين. لكنه بتدبير الله بقي في المدينة، لأن العطب في صحته كان دائماً.

شماساً فكاهناً واعظاً

سامه البطريرك ملاتيوس شماساً في العام 380 أو 381 للميلاد. فتسنى له على امتداد خمس سنوات قضاها في الشموسية أن يطّلع بصورة عملية تفصيلية على حاجات الناس، كما خاض في خدمة الفقراء والمرضى. في العام 386م وضع فلافيانوس، أسقف أنطاكية الجديد، يده على يوحنا وجعله كاهناً. يومها ألقى الذهبي الفم أولى مواعظه في حضور الأسقف. وكان هذا حدثاً فريداًً لأنه لم يكن شائعاً في الكنيسة أن يتعاطى الكهنة الوعظ، فالواعظ كان الأسقف. وتجلّى يوحنا. تجلّى كواعظ، كأهم وأبلغ وأخصب واعظ عرفته الكنيسة الجامعة المقدّسة على مدى الأيام. وفي أنطاكية، بصورة خاصة، أغنى القدّيس يوحنا المسكونة بمواعظه على امتداد اثني عشر عاماً. ولكن، أي مدينة كانت أنطاكية؟ كلمة عنها تنفعنا.

أنطاكية؟

أنطاكية هي إحدى المدن الأربع العظمى في الإمبراطورية الرومانية غير روما والقسطنطينية والإسكندرية. فيها التحم الفن بالطبيعة فجعلاها مقاماً ولا أبدع رغم كونها عرضة للفيضانات و الزلازل. سخى عليها نهر العاصي بمياه نقيّة دفّاقة ومنّت عليها الطبيعة ببحيرة واسعة. أحاطت بها التلال من كل صوب وامتدت سهولها غنيّة خصبة. كانت لها تجارة البحر، قامت فيها أبنية جلل، هذه آسيوية الطراز وتلك إغريقية ورومانية. والحدائق غنّاء والحمامات فخمة تنتشر في كل مكان. الشوارع تزدان بالأعمدة. ومن الشرق إلى الغرب شارع طوله أربعة أميال أعمدته ضخمة من هنا ومن هنا، من الصوّان الأحمر. ثم التماثيل والقناديل كانت من الكثرة بحيث جعلت ليل المدينة نهاراً. هنا أيضاً في ضاحية أنطاكية على نهر العاصي كانت غيضة دفني، وكانت غابة الغار والآس والسرو والشجيرات العطرة. وكثرت في أنطاكية المدارس الجيدة والكنائس. الكنيسة التي اعتاد الذهبي الفم أن يعظ فيها كانت أعظمهم. أما السكان فكانوا من السوريين والإغريق واليهود والرومانيين. العنصر الآسيوي غلب، والسكان ناهزوا المئتي الألف عدداً، نصفهم من المسيحيين. الوثنية كانت بعد قويّة ورموزها تملأ المكان وتطغى على النفوس. وفي عظات الذهبي الفم صورة عن أحوال أهل أنطاكية وخصالهم وواقع الكنيسة فيهم. أبرز العيوب والرذائل كانت البخل والترف والفجور والتعلّق الشديد بالمسرح والمباريات. كان القدّيس يشكو أن الفساد بلغ في أيامه حداً أنه “لو أراد إنسان غريب أن يقارن بين أحكام الإنجيل وما يمارسه المجتمع لانتهى إلى أن الناس ليسوا هنا تلامذة المسيح بل أعداؤه”. كيف لا واتّباع الموضة كان القاعدة، والمتعة ما يسعى الناس إليه. يكرمون فنون الترف فيما الفضائل والرصانة موضع استهزاء، وكذا خفر النسوة والوقار. هذه كانت شهوة أنطاكية ومجدها. بلى، كانت المدينة فردوساً مزدهراً، ولكن، فردوساً للخطيئة والفساد والإنحلال أولاً. كانت الكنيسة في أنطاكية، يومها، قد خرجت حديثاً من صراعات وانقسامات دامت أكثر من ستين سنة. الهرطقات، لا سيما الآريوسية، كانت ما تزال بعد تلوّث الأجواء وإن همد أكثرها.

الواعظ

هذه هي المدينة التي ألقى فيها الذهبي الفم أهم عظاته مُصلِحاً ومؤدباً، مشدداً ومعزياً. ميزته الأولى أنه ركّز على كيفية السلوك بحسب الإنجيل في الحياة اليومية: كيف نترجم الإنجيل إلى واقع شخصي واجتماعي في مدينة صاخبة مضروبة بالشهوات والفساد وتعاني من التفاوت بين طبقات الناس كأنطاكية. وهو إلى جانب كونه سيداً في الفصاحة والبلاغة وله معرفة بالكتاب المقدّس لا تدانى، كان سيداً في نقل الإنجيل إلى الناس بلغة يفهمونها. كلماته كانت تتدفق كمياه النهر تدفقاً، تلج القلوب عميقاً وترفع النفوس عالياً وتحرّك في الأفئدة حبّ الفضيلة. كان يسبر غور الأسرار الإلهية ويفسّر الإيمان ويربط الكل بحياة الفضيلة، إحساناً وبراً واتضاعاً وتوبة ونخس قلب وثقة بالله ورحمته التي لا تحد.   تسمية “الذهبي الفم” أطلقها عليه المتأخّرون في القرن السادس للميلاد. كان يجتذب المدينة بأسرها إلى عظاته. وكان الحماس يدبّ في النفوس إلى درجة أنهم كثيراً ما كانوا، عن وعي أو عن غير وعي، يستسلمون لعواصف من التصفيق. حتى عندما كان يأبى عليهم ذلك يصفّقون. كان يعظ كل يوم أحد وفي الصوم الكبير وخلال الأسبوع مرتين أو أكثر، وأحياناً خمس مرات متتالية. وما كان ليأسر القلوب بمواهبه الخطابية وحسب بل، أولاً، بسيرة لا عيب فيها وقلب كبير وجرأة لا تخبو وعزم لا يلين. ولكن، غريباً كان أمر أهل أنطاكية يومها! كان يعزّ عليهم أن يفوّتوا واحدة من عظاته ويتهللون. يقرّعهم ويقسو بشأن تعلّقهم بالمسارح والمباريات وسباق العربات فيسكرون بكلماته ويصفّقون. وما إن تنتهي العظة حتى يهرول الكثيرون منهم إلى المسارح والمدارج كأنما الكلام لا يعنيهم.

ملامحه وخصاله

ولعل المرء يظن أن الذهبي الفم كان عملاقاً في القامة، جهوري الصوت، ذا منظر مهيب، وما كان كذلك. كان قصير القامة، أصلع الرأس، نحيلاً، غائر الخدّين والعينين، عريض الجبين، أجعده، رمادي اللحية. صوته كان عذباً لكنه ضئيل. لذلك كثيراً ما كان يدعو الناس إلى أخذ الأماكن الأمامية القريبة من المنبر. حركاته كانت تنقصها الرشاقة  وكان يقول عن نفسه أنه “عنكبوتي”. كما كانت له هزالة الناسك وخفة مشيته. كان يكره الضجيج وخشخشة السلاح وتجميل الوجوه عند النساء والإبتسامات المتكلّفة عند الكهنة. أما صوته، ذاك الصوت الرفيع، فكان ينفجر رعداً أحياناً.

الوعظ أيضاً وأيضاً

الوعظ بالنسية للقدّيس يوحنا كان حاجة لذلك كان يتحدث عن “الجوع إلى الوعظ”، وإنه لا طاقة له على ترك المؤمنين يوماً واحداً دون تعزية من كنوز الكتاب المقدّس، وإن للوعظ عليه أثراُ علاجياً. “الوعظ شفاء لي. حالما أفتح فمي يزول تعبي”. لم يكن يسجّل مواعظه سلفاً. الكتّاب كانوا يلتقطونها. ويبدو أنه كان يراجعها أحيانا ًقبل نشرها. كانت تطول أحياناً مدة ساعتين. تناول كافة موضوعات الوعظ: الوعظ التفسيري (تفسير أسفار الكتاب المقدّس) والوعظ العقائدي والوعظ الجدلي والتعليم المسيحي لمن يستعدّون للمعمودية والعظات الليتورجية والعظات الرثائية وعظات المناسبات. أبرز مواعظه الأحدى والعشرون الموعظة بشأن التماثيل وهي التي ألقاها في أنطاكية خلال الصوم الكبير من العام 387 للميلاد على أثر المحنة التي عصفت بالمدينة يومها. تلك حقبة خطيرة في تاريخ عاصمة المشرق. وقد لعب القدّيس يوحنا دوراً في تخطّيها. ماذا جرى يومها؟

محنة أنطاكية

صدر عن الإدارة الإمبراطورية مرسوم يقضي بفرض ضريبة جديدة لصالح الجيش وكان الشعب مثقلاً بالضرائب والنفوس مهيأة للتظاهر والإحتجاج. فدخل بين الناس بعض من مثيري الشغب وهيّجوهم فاندفعوا يحطّمون كل ما يجدونه في طريقهم، إلى أن حطّموا، في قاعة اللقاءات الكبرى، تماثيل كل من الإمبراطور ثيودوسيوس وزوجته فلاسيلا ووالده وولديه أركاديوس وهونوريوس، وجرّوها عبر الشوارع الموحلة. وكانت هذه جريمة يعاقب عليها القياصرة بالموت.  تسارعت الأحداث. ففي غضون ساعات انتشر العسكر وتفرّق المتظاهرون وساد في المدينة صمت جنائزي. ألقى الجنود القبض على عدد من المشتبه بهم وبدأت الإستجوابات والمحاكمات، وأُودع الكثيرون السجون. وبعث الحاكم برسول إلى القسطنطينية، على جناح السرعة، لتقديم تقرير عن الجريمة والعودة بقرار أمبراطوري في حق المدينة. ولحسن التدبير أن الثلوج أخّرت وصول الرسول بعضاً من الوقت. قي هذه الأثناء قام فلافيانوس، أسقف المدينة، وكان قد شاخ وبلغ الثمانين، إلى القسطنطينية مسترحماً. وتمكّن من الوصول إليها في الوقت المناسب، فيما نُفّذ في أنطاكية حكم الإعدام بعدد ممن اعتُبروا محرّضين على الفتنة اعتقل آخرون. وسيق عدد من وجهاء المدينة إلى غرف التعذيب بعدما صودرت ممتلكاتُهم وشُرِّدت عائلاتهم وبات الناس في خوف ورعدة على أنفسهم وعلى أولادهم وممتلكاتهم، لا يعرفون من يشي بهم ولا متى تُداهم منازلهم، فيما لجأ بعضهم إلى التلال المجاورة التي كثرت فيها قلالي الرهبان والمغاور، ونزل الرهبان بصورة عفوية إلى المدينة للدفاع عنها وعن الأبرياء فيها استعطافاً.

وجثمت غيمة الموت ثقيلة فوق أنطاكية اسابيع طويلة وكان الوقت وقت الصوم الكبير. الكل بانتظار خبر من القسطنطينية والقلوب بين مهابة ورجاء. قلة ظنّوا أن شفاعة أسقف المدينة ستثمر، فالرجل مسنّ والمسافة إلى القسطنطينية ثمانمئة كيلومتر، كيف يقطعها؟! ولزم يوحنا الصمت سبعة أيام فيما استمرَّت المداهمات والإعتقالات والإعدامات، ثم خرج إلى الناس بعظاته الإحدى والعشرين حول التماثيل. آخرها كان يوم الفصح بعدما وصل فلافيانوس إلى المدينة وقد نجح في مهمته. لم يكن موضوع هذه العظات التماثيل بل رحمة الله وكيف أن هناك أموراً أصعب من الموت أو العبودية. شدّد يوحنا المؤمنين وثبّتهم ونفخ فيهم روح القوة وعلّمهم كيف يقتبلون الموت، إذا كان لا بد منه، كما يقتبلون الحياة، وبالجرأة عينها. قال لهم إن الخوف علامة الخطيئة وإنهم لو لم يطلقوا العنان لرذائلهم لما حلّت بهم المصيبة. لو لم يتكالبوا على الغنى والترف ويتهالكوا على الشهوات ويستسلموا لكل عادة أثيمة لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه ولما استبدّ بهم الخوف من الإمبراطور. أو ليس الإمبراطور إنساناً فلماذا نرتعد منه؟! ونزل النسّاك، كما ذكرنا، إلى شوارع المدينة وتدفّقوا على الحاكمية يسألون الرأفة بالمدينة. وهناك قصة عن ناسك مسنّ اسمه مقدونيوس لُقِّب بآكل الشعير لأنه كان يكتفي من الطعام ببعض حبّات الشعير كل يوم. هذا كان يسير في الشارع حافي القدمين، لا تغطّي بدنه غير أثمال. فلما صادف المبعوثَين الإمبراطوريَين استوقفهما وقال لهما: “يا صديقيّ اذهبا إلى الإمبراطور وقولا له: “أنت قيصر لكنك إنسان أيضاً وتسود على كائنات من ذات طبيعتك! الإنسان خلقه الله على صورته ومثاله فلا تأمر أنت بلا شفقة بتحطيم صورة الله لئلا تجلب غضب الله على نفسك. قولا له إنه سهل عليه أن يصنع تماثيل، لكنه كيف يصنع شعرة واحدة من إنسان حكم عليه بالموت؟!” كان عبء هذه الأيام ثقيلاً جداً على يوحنا حتى بدا يومها وكأنه في الستين فيما لم يكن قد تجاوز الإحدى والأربعين. وما إن انتهت الأزمة حتى مرض مرضاً شديداً ولازم الفراش طويلاً. وبقي الذهبي الفم في أنطاكية بعد ذلك عشر سنوات مبشِّراً إلى أن انتقل أو نقلوه سراً إلى القسطنطينية.

إلى القسطنطينية

ففي أواخر العام 397 للميلاد توفي القدّيس نكتاريوس (11 تشرين الأول) رئيس أساقفة القسطنطينية مخلِّفاً وراءه كرسياً يشتهي الكثيرون ملأه. أول هؤلاء كان رئيس أساقفة الإسكندرية، ثيوفيلوس، الَّذي طالما كان في صراع خفيّ وأسقف المدينة المتملكة. هذا سارع إلى التحرك في كل إتجاه علّه ينجح في تنصيب أحد أعوانه، إيسيدوروس، فيتمكن من خلاله من وضع اليد على الكرسي القسطنطيني. ولكن حسابات أوتروبيوس الخصي، رئيس الوزراء القوي، كانت غير ذلك فأقنع الأمبراطور أركاديوس بإصدار مرسوم يقضي بتعيين يوحنا، كاهن أنطاكية، رئيس أساقفة على القسطنطينية. طبعاً، صيت يوحنّا، قبل ذلك، كان قد انتشر في كل أرجاء الأمبراطورية. ولكن، كانت هناك مشكلة صعبة: كيف يؤتى بيوحنا من أنطاكية؟ الأنطاكيون لن يرضوا بأن يُنتزع منهم واعظهم الأول، وهو نفسه؛ يوحنا، راهب راهب، لا يحبّ السلطة فكيف يقنعونه بقبول المنصب الأول في الكنيسة في الشرق؟ لا بد من الحيلة! فبعث أوتروبيوس برسالة إلى إستاريوس، حاكم سورية، أمره فيها باستدراج يوحنا سراً إلى خارج المدينة ثم نقله بمواكبة مشدّدة إلى القسطنطينية. وهكذا كان.  وارتسم سؤال: من يسم يوحنا؟ وأجاب أوتروبيوس: ثيوفيلوس! فأُحضر إليه فامتنع. فأخذ رئيس الوزراء ورقة وخط عليها بضعة أسطر ودفعها إلى أسقف الإسكندرية قائلاً: أما أن تسم يوحنا أو توجّه إليك الإتهامات المذكورة في هذه الورقة وتحال إلى المحاكمة. فشحب وجه ثيوفيلوس وسلّم بالأمر الواقع. وفي السادس والعشرين من شهر شباط من العام 398 للميلاد جلس يوحنا على عرش الكنيسة في القسطنطينية.

ذاك الَّذي كان يكره أن يكون في موقع السلطة بات الآن في سدة السلطة الأولى. ذاك الَّذي كان يكره الترف وجد نفسه محاطاً بمظاهر الفخامة وسكن في قصر بالقرب من القصر الملكي. ذاك الَّذي كان نصير الفقراء وراعيهم وجد نفسه محاطاً بالأغنياء وعلّية القوم. فماذا كان يمكن أن تكون النتيجة؟ صراع مرير وسيرة استشهاد. هذا ما كابده القدّيس يوحنا الذهبي الفم خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته كرئيس لأساقفة القسطنطينية.

بعض من أسقفيته

طبعاً، الكل في المدينة كان، حال وصول الأسقف الجديد، في ترقّب، لا سيما المتنفّذون من رجال الدولة والموظفين والأغنياء: أي نوع من الأساقفة يكون؟ٍ أما هو فحالما تسلّم عصا الرعاية انطلق في مواعظه النارية فاستقطب جموعاً غفيرة أخذت تتقاطر عليه لتسمعه بغيرة وحماس. ولم يطل به المقام حتى أخذ نهجه يتكّّشف وبدأ الناس يتبيّنون أنه راهب جاء يلقي بظله الرهباني على القصر الأسقفي والمؤمنين أجمعين. المتنفّذون والأغنياء، لا سيما جماعة القصر الملكي، كان عادياً في التعاطي معهم ولم يُبٍْدِ أية علامة من علامات التذلّل والإكرام الزائد لهم. ثم إنه ما لبث أن حمل على حياة البذخ والترف وتقوى الأغنياء المصطنعة المرائية. من جهته هو، التزم خط الفقر الإنجيلي وأخذ يزيل معالم الترف من المقرّ الأسقفي. يقال في هذا الشأن إنه أفرغ داره من الأثاث الثمين والأواني الفضية وباع الأعمدة المرمرية التي كان سلفه، نكتاريوس، قد اشتراها ليزيّن بها إحدى الكنائس المهمة في المدينة وحوّل الأموال المجتمعة لبناء المستشفيات ومضافات الغرباء والتوزيع على الفقراء. شخصياً، لم يكن عنده أي شيء. أزال عادة إقامة المآدب الرسمية في مقرّه ولم يعد يقبل أية دعوة بهذا المعنى، كائناً من كان الداعي، للأجواء الموبوءة التي كانت تسود مثل هذه الموائد لجهة المسايرات واللياقات والأحاديث الدنيوية ومظاهر البذخ مما لم تكن مقاييسه للأمور لتسمح له به. كان يتناول وجباته منفرداً ويكتفي من الطعام والشراب بالقليل يسند به جسده الضعيف المريض. في مقابل ذلك كان كريماً جوّاداً حيال الفقراء والمحتاجين، يهتم بالمرضى والمساجين ويعزّي قلوب المضنوكين والمسحوقين. ولكي يحوّل أنظار الشعب عن الألعاب والمباريات والمسارح وما إليها من تسليات مُفسِدة للنفس، إعتاد أن ينظّم من وقت إلى آخر مسيرات صلوات وترتيل تجوب المدينة من الصباح إلى المساء، ويقيم السهرانات ويدعو الناس إلى حلاوات الصلاة في هدأة الليل. إلى ذلك بدأ حملة لإصلاح ما اعوّج من أوضاع الكهنة. ويشير التاريخ بصورة خاصة، في هذا الشأن، إلى عادة يبدو أنها كانت مستشرية في أيام الذهبي الفم وكانت عثرة للكثيرين: مساكنة الكهنة العازبين للأرامل و العذارى المكرسات. هذه الممارسة أزالها القدّيس يوحنا تماماً. كما أشار على الأغنياء أن يكفّوا عن الإغداق على الكهنة لأنه رأى البذخ الَّذي كانوا يعيشون فيه. ولم يوفّر الأساقفة، خوفاً منهم، بل ألزمهم بتقديم تقارير مالية بنفقاتهم. وكان طبيعياً أن تؤدي عظاتُه وإجراءاتُه إلى تباين المواقف بشأنه. والحق أن الناس انقسموا فريقين: واحد تحمّس له وآخر تحمّس ضده. المتضرّرون من التدابير الجديدة والَّذين لم ترق لهم مواعظه المتشدّدة كانوا كثيرين: أساقفة وكهنة وكثيراً من أبناء المجتمع المخملي، والمتنفّذين وسيدات القصر المتأنقات المتحذلقات. كل هؤلاء أخذوا يلفّقون ويشيعون أخباراً ضده، أنه غير سوي وشاذ ومتكبّر وأن انكفاءه وعزلته، يوماً بعد يوم، إن هي سوى للعربدة والمجون وإشباع النهم إلى المآكل الفاخرة المميّزة.

القصر: علاقة صعبة

ويبدو أن علاقة قدّيسنا بالقصر الملكي، لا سيما بالإمبراطورة أفدوكسيا، كانت حسنة في أول الأمر، كما كان له بعض التأثير على الأمبراطور أركاديوس نفسه. ولكن، ما لبثت العلاقة أن فترت وساءت لأن أفدوكسيا كانت إنسان طموحات وشهوات، وقد تبيّن بعد حين أنها ترمي إلى أبعد من الحكم، إلى نوع من التألّه على طريقة الأباطرة الرومان، وطلب العبادة. وقد عبّر الذهبي الفم عن عدم ثبات علاقتها به بقوله: “تارة تعتبرني ثالث عشر الرسل وتارة تنعتني بيهوذا”. ويبدو كذلك أنها كانت تخشى من تأثيره على زوجها وكانت حانقة عليه لتشدّده في الكلام على الترف والفسق والرذيلة. كل ذلك ما لبث أن جعلها في صف أعداء يوحنا، وجعل المتضرّرين من تدابيره يسعون إلى إيغار صدرها عليه. ولكن، لم تكن الفرصة قد حانت للإيقاع به والتخلص منه.ٍ

حسّاد وأعداء

وكان يتربّص بيوحنا عدو لدود آخر أسقف الإسكندرية، ثيوفيلوس. هذا كان رجلاً من أبناء هذا الدهر، ذكياً لبقاً حقوداً متآمراً خبيراً في شؤون التعاطي مع الكبار والمتنفّذين. ومع ذلك استمر يوحنا قوياً واستمر صوت الكلمة يرتفع عالياً وتدابيره الإصلاحية طالما لم يرتكب زلة يأخذها أعداؤه عليه. غير أن أموراً حدثت بين العامين 401 و403 للميلاد رفعت درجة التوتر ضدّه. فخلال شهر كانون الثاني من العام 401 للميلاد وبعد دعوات متكّررة وجّهها إليه إكليروس مدينة أفسس وأساقفة الجوار، خرج الذهبي الفم من كرسيه في جولة دامت ثلاثة أشهر إلى آسيا الصغرى. وقد كلّف صديقاً له، سويريانوس، أسقف جبلة السورية، بتصريف الأعمال في غيابه. فأما جولته فتمخّضت عن مجمع عقده في آسيا الصغرى إتخذ قراراً بعزل ستة أساقفة اتُّهموا بالسيمونية، أي بالوصول إلى سدّة الأسقفية بالرشوة. وثمة من يلقي بظلال الشك على حق يوحنا في عقد مجمع كهذا خارج حدود أبرشيته. هذه كانت ذريعة جعلت أعداءه يتحرّكون ضدّه بقوة أكبر. من جهة أخرى تبيّن أن سويريانوس، الأسقف وكيل يوحنا، استغل الفرصة وانقلب على صاحبه واتصل بأعدائه. ولما عاد الذهبي الفم إلى كرسيّه كانت الأجواء مشحونة ضده.

الحملة ضده

ثم إن قدّيسنا، في العام نفسه، 401 للميلاد، واجه مشكلة جديدة هي مشكلة “الإخوة الأربعة الطوال” الَّذين كانوا رهباناً مصريّين على مذهب أوريجنوس طردهم ثيوفيلوس الإسكندري مع ثلاثمئة من أتباعهم. هؤلاء لجأوا إلى القسطنطينية واستجاروا بأسقفها. وقد أحسّ القدّيس يوحنا بأن في المسألة ظلماً فبعث برسالة إلى أسقف الإسكندرية يلتمس منه فيها، وبلهجة تكاد تقرب من التوسل، أن يحلّ القضية بالحسنى قبل أن تصل إلى القصر. فاعتبر ثيوفيلوس أن هذا تدخل سافر من قِبَل يوحنا في شؤون لا تعنيه أنه يأخذ جانب الهراطقة. وحضر ثيوفيلوس إلى القسطنطينية خلال شهر آب من العام 403 للميلاد وتحرّك بسرعة لدى الملكة أفدوكسيا والجماعات الموتورة من أعداء يوحنا. وقد تمكّن من عقد مجمع في ضاحية من ضواحي مدينة خلقيدونيا، في قصر السنديانة، هو وستة وثلاثون أسقفاً، تسعة وعشرون منهم حملهم معه من مصر. وقرار المجمع  كان عزل يوحنا عن منصبه، كأسقف على القسطنطينية، بناء للائحة إتهامية تضمّنت تسعة وعشرين تهمة، تراوحت بين التعرّض للملكة بالقدح والذم والتدخّل في شؤون أبرشيات أخرى والعادات الصحية المشبوهة التي كانت له كالأكل على انفراد واستعمال الملبّس المحشو بالعسل مباشرة بعد تناول القدسات الإلهية! موقف يوحنا حيال هذا المجمع كان هادئاً. رفض قراراته وطالب بمجمع عام. ولكن لما رأى أن أركاديوس وقّع عليه وأمر بنفي يوحنا لزم الصمت وسلّم بالأمر الواقع.

يوم لك ويوم عليك

ولكن، حدث ما لم يكن في الحسبان فإن زلزالاً هزّ المدينة في اليوم التالي جعل الأمبراطورة أفدوكسيا تشعر بأن الله غاضب عليها فأقنعت زوجها الأمبراطور، للحال، باستعادة يوحنا والتمست منه المغفرة. وعاد يوحنا إلى كرسيّه ولكن لفترة شهرين وحسب لأن الأمبراطورة أقامت لنفسها تمثالاً فضّياً على عمود من الرخام السمّاقي مقابل كنيسة الحكمة المقدسة (آجيا صوفيا). وقد أثار الحدث حفيظة يوحنا لا سيما للإحتفالات والصخب الَّذي رافقه. ففي عيد استشهاد القدّيس يوحنا المعمدان، رفع صوته وقال: “ها هي هيروديا ترقص من جديد وتسخط من جديد، ومن جديد تطلب رأس يوحنا”. وطبعاً حمل جواسيس أقواله إلى الملكة فساءها الأمر جداً وعزمت على التخلّص منه نهائياً. ومن جديد، صدر مرسوم ملكي يقضي بتجريد الذهبي الفم من سلطاته، فرفض الإنصياع. قال: “تلقيت سلطتي في الكنيسة من الله ولا أتركها…”. وفي يوم الفصح، السادس عشر من نيسان عام 404 للميلاد، هاجم أربعمئة من النشّابة جموع المؤمنين الملتفين حول القدّيس يوحنا فلوثوا الكنائس ونهبوها وضربوا الكهنة وطردوا الموعوظين الَّذين كانوا ينتظرون دورهم في المعمودية، وفرّقوهم نصف عراة في الشوارع، رجالاً ونساء. في تلك الفترة تعرّض الذهبي الفم لمحاولتي اغتيال نجا منهما بأعجوبة. ولما لم يُرد قدّيسنا أن يعرّض الشعب المؤمن للمهانة وخطر الموت أكثر من ذلك قرّر تسليم نفسه. فودّع خاصته وخرج من الباب الشرقي للكاتدرائية فيما كانت الجموع تنتظره عند الباب الغربي وأسلم نفسه للعسكر. هذه المرة ودّعهم بلا رجعة. ودّعهم وارتحل إلى الشهادة فالموت. وقد عبّر الذهبي الفم، فيما بعد، في رسالة وجهها إلى أسقف اسمه كيرياكوس، عن موقفه الداخلي العميق حيال نفيه الأول والثاني فقال: “عندما أخرجوني من المدينة لم أكن قلقاً بل قلت لنفسي: إذا كانت الأمبراطورة ترغب في نفيي فلتفعل، للرب الأرض بكمالها. إذا كانت ترغب في تقطيعي إرْباً فَحسبي أشعياء مثلاً. إذا كانت ترغب في رميي في المحيط فلي يونان. إذا أُلقيت في النار فالفتية الثلاثة لاقوا المصير عينه. ولو أُلقيت للوحوش ذكرت دانيال في جب الأسد. إذا كانت ترغب في رجمي بالحجارة فاستفانوس، أول الشهدء، ماثل أمام عيني. عرياناً خرجت من بطن أمي وعرياناً أترك هذا العالم. وبولس الرسول يذكّرني: لو كنت بعد أرضي الناس لم أكن عبداً للمسيح”.

وخرج إلى المنفى

بهذا الشعور خرج القدّيس يوحنا إلى المنفى. جرّره جلادوه حتى الموت ثلاث سنوات وثلاثة أشهر باتجاه الحدود بين كيليكيا وأرمينيا، إلى قرية منعزلة إسمها كوكوزا ومن ثم نحو كومانا في بلاد البنطس. عانى من الحرّ وعانى من البرد. عانى من المرض وعانى من الإرهاق. في خوف من اللصوص وخوف من الأعداء. كم من مرة بلغ حدّ القبر ثم عاد. مرات ومرات استبدّت به آلام الرأس وكابد الحمى. وهذا كله حمله في جسد ضعيف معطوب. وما كان أطيب على قلوب الجنود، مواكبيه، من أن يسقط صريعاً على الطريق هنا أو هناك. هذا كان عجّل في إتمامهم المهمة الموكولة إليهم وحصولهم على المكافآت والترقيات. مع ذلك، ومن وسط المعاناة، إزداد قدّيسنا ثباتاً وتسليماً ورِقّة وإحساساً. أكثر الرسائل المئتين والإثنتين والأربعين المنسوبة إليه كتبها في تلك الفترة من حياته. وهذه وجهها إلى أساقفة في الشرق والغرب وإلى كهنة وشمامسة وشماسات ورهبان ومرسلين. وقد ضمّنها وصفاً لأتعابه، ونصحاً لأصحابها في موضوعات شتى، كما شدّد وعزّى خراف الحظيرة وأوعز بضرورة دكّ المعابد الوثنية في فينيقيا واستئصال الهرطقة من قبرص، وحثّ على إيفاد المبشّرين إلى بلاد الفرس وسكيثيا. رسالتان  وجّههما إلى أسقف رومية، وسبع عشرة إلى أولمبيا الشماسة التي كان يكنّ لها محبة وتقديراً كبيرين.

المجد لله على كل شيء

وقد بدا لبعض الوقت أنه كان للذهبي الفم في المنفى دور وتأثير في أمور الكنيسة أكبر مما كان له وهو في كرسيّه في القسطنطينية. فتنبّه المسؤلون في العاصمة المتملّكة إلى خطورة الأمر، والحال هذه، فبعثوا بتوجيهاتهم إلى الجنود المرافقين  ليوحنا أن يمنعوا عنه الرسائل ويزيدوا تضييقهم عليه. تلك كانت المرحلة الأخيرة من رحلة استشهاده. فقد أرهقه معذّبوه إلى درجة لم يعد بإمكانه تحملها. وفي موضع قريب من كومانا في بلاد البنطس ظهر له في الحلم قدّيس شهيد اسمه باسيليكوس كان موارى هناك وقال له: “تشدّد يا أخي يوحنا فغداً نلتقي!”. في صباح اليوم التالي طلب ثياباً بيضاء واشترك في سر الشكر ثم أسلم الروح. كلماته الأخيرة كانت: “المجد لله على كل شيء!”. كان ذلك في الرابع عشر من شهر أيلول من العام 407 للميلاد، وكان قد أتمَّ الستين من عمره والعاشرة من أسقفيته. إكرام المؤمنين للذهبي الفم كقدّيس بدأ حتى في حياته. وقد جرى نقل رفاته إلى القسطنطينية بعد إحدى وثلاثين سنة من رقاده، في السابع والعشرين من شهر كانون الثاني من العام 438 للميلاد. يذكر أن الكنيسة المارونية تعيّد له في مثل هذا اليوم فيما الكنيسة اللاتينية في السابع والعشرين من كانون الثاني وآخرون في الثالث عشر من أيلول.

مواضيع ذات صلة