Menu Close

 

 

 

 

 

 

 

 

في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:

* القدّيس البارّ يوحنّا السّينائيّ المـُلقّب بـ “السلّميّ”* القدّيس جواد النّبيّ* القدّيس البارّ يوحنّا الكبادوكيّ* أبونا الجليل في القدّيسين يوحنّا بطريرك أورشليم * القدّيسة البارّة أوبولا * الجديد في الشّهداء زكريّا الكورنثيّ* أبونا الجليل في القدّيسين صفرونيوس الرّوسيّ أسقف إيركوتسك * الرّاهب الّذي لم يدن أحدًا.

*        *        *

✤القدّيس البارّ يوحنّا السّينائيّ المـُلقّب بـ “السلّميّ”✤

كتب عن يوحنّا راهبان سينائيّان، دانيال وأثناسيوس، إلّا أنّ ما وافيانا به لا يتضمّن إلّا اليسير من المعلومات التّاريخيّة الثّابتة عنه. حتّى تاريخ ميلاده ووفاته وموضع مسقط رأسه غير وارد في هاتين السّيرتين اللّتين يطغى عليهما الطّابع الرّهبانيّ التّقوي. وما نعرفه عنه، في معظمه، مستمدّ ممّا كتب.

وُلد يوحنّا، كما يبدو، في النّصف الثّاني من القرن السّادس الميلاديّ. سعى، منذ مطلع زهده، لأن يسلك في غربة عن نفسه وعن عالمه، على طريقة الرّهبان والنّسّاك الّذين همّهم الإنفصال عن كلّ شيء ابتغاء لقربى ليس ما يشوِّشها إلى ربِّهم. جلّ ما نستنتجه من فترة شبابه أنّه منذ أن بلغ السّادسة عشرة، وبعدما تلقّى من العلم قدرًا وتفتّح ذهنه، مجّ مفاتن حياة البطلان، حبًّا بالله، وطلب جبل سيناء. وإذ استقرّ عند أسفل الجبل المُقدّس حيث سبق للرَّبّ الإله ان أظهر مجده لموسى كليمه قرّب نفسه، بقلب متّقد، قربانًا طيّب الرّائحة مقبولًا لدى الله.

ومنذ أن دخل حلبة الصّراع الرّهبانيّ تخلّى عن كلّ ثقة بالنّفس وسلك في اتّضاع القلب مسلّمًا ذاته، في الجسد والرّوح، إلى شيخ اسمه مرتيريوس، وشرع ، بلا همّ، يرتقي سلّم الفضائل. كان يعتبر راعي نفسه إيقونة حيّة للمسيح وانّه هو الّذي سوف يجيب عنه لدى الله. همّ يوحنّا الأوحد أضحى أن يتخلّى عن مشيئته الخاصّة. كلامه عن الطّاعة، فيما بعد، في كتاب “السّلّم”، يعكس ما اختبر. ممّا قاله: الطّاعة جحود تام للنّفس، موت طوعيّ، قبرٌ للمشيئة وقيامة للاتّضاع. الطّاعة هي التّخلّي عن التّمييز في وفرة من التّمييز (4: 3).

أبقى مرتيريوس على تلميذه أربع سنوات مبتدئًا ليمرّسه في الاتضاع. يوم رهبنه تنبّأ أحد الرّهبان الحاضرين، ويدعى ستراتيجيوس، أنّ هذا الرّاهب الحدث مدعو لأن يصير أحد كواكب المسكونة. كذلك لمّا قام مرتيريوس وتلميذه بزيارة أحد أبرز الوجوه الرّهبانيّة في ذلك الزّمان، يوحنّا السّابائي، تجاوز هذا الأخير مرتيريوس واهتمّ بغسل قدمَي يوحنّا. ثم بعد مغادرتهما له أعلن أنّه لا يعرف هذا الرّاهب الشّاب، لكنّه، بإلهام الرّوح القدس، غسل قدمَي رئيس دير سيناء. النّبوءة ذاتها توثّقت عبر القدّيس أنستاسيوس السّينائيّ المُعيَّد له في 21 نيسان الّذي قاما بزيارته هو أيضًا.

رغم حداثة سنّ يوحنا فإنّه أبدى نضجًا على قامة الشّيوخ وكان على تمييز كبير. مثل ذلك أنّه أُرسل يومًا في مهمّة وإذ جلس إلى المائدة وبعض العاميّين، آثر أن يستسلم لبعض المجد الباطل وأكل قليلًا مفضِّلًا ذلك على الشّراهة لأنّه ميّز ما هو أقل خطرًا عليه كراهب حدث.

أمضى يوحنّا، بعد ذلك، تسعة عشر عامًا بلا همّ، سالكًا في الطّاعة، محفوظًا بصلاة أبيه الرّوحيّ، مُبحرًا، في هدأة النّائم، إلى ميناء اللّاهوى. فلمّا رقد معلّمه في الرّبّ قرّر مواصلة ارتقائه في الوحدة، بعدما ترسّخ في الاتّضاع، عبر العزلة الكاملة حتّى لا يُوجَد محرومًا ولا للحظة من عذوبة الله. حتّى في هذا الأمر لم يعتمد على رأيه الذّاتي بل على نصيحة شيخ آخر قدّيس، يدعى جاورجيوس، أطلعه على نمط الحياة الخاص بالهدوئيّين. وقد اختار يوحنّا، لذلك، موضعًا معزولًا يعرف بـ”تولا” على بعد خمسة أميال من الدّير الكبير. هناك استقرّ عدد من النّسّاك غير بعيد الواحد منهم عن الآخر.

لازم يوحنّا المكان أربعين سنة مشتعلًا بحبّ الله المُتنامي في قلبه أبدًا لم يشغله خلالها شيء غير الصّلاة المتواترة ويقظة القلب كمثل ملاك في الجسد.

طعامه كان طعام الرّهبان ولكن بكميّات قليلة جدًّا. على هذا النّحو أخضع طغيان الجسد دون أن يعطي المجد الباطل أية ذريعة. وبالوحدة والعزلة لم يتح للرّغبة في الجمع فيه أيّة فرصة تُوقع الرّهبان المُتهاونين، في العادة، في الشّراهة تحت جنح الضّيافة وعمل المحبّة. هذا باب كلّ الأهواء عنده. ولا فسحت له طريقة حياته في المجال لمحبّة المال أن تترعرع في قلبه. هذه لديه ابنة النّقص في الإيمان وعبادة الأوثان. أمّا الضّجر، الّذي هو في قاموسه موت النّفس، والّذي يحارب الهدوئيّين بخاصّة، وكذلك التّهاون، فقد عرف يوحنّا، بنعمة الله، أن يقوى عليهما معًا بذكر الموت. أمّا الحزن فعرف أن يتصدّى له ويبدّده بالتّأمل في الخيرات العتيدة. لذلك لم يعرف من الحزن لونًا إلّا ذاك الحزن البهيّ الّذي كان بالنّسبة له مصدر فرح وجعله يعدو، بشوق، على درب التّوبة مُطهِّرًا النّفس من أدرانها.

ما الّذي كان ينقصه بعد ليبلغ اللّاهوى؟ الغضب كان قد قوي عليه من زمان بسيف الطّاعة. المجد الباطل، تلك الحسكة المثلّثة الرّؤوس الّتي تعترض المجاهدين في سبيل التّقوى والّتي تتداخل وكلّ فضيلة بمثابة علَقة، خنقها قدّيسنا بالإعتزال وخصوصًا بالصّمت. وجزاء أتعابه، الّتي تبّلها أبدًا بلوم النّفس، أسبغ عليه الرّبّ الإله ملكة الفضائل الّتي هي التّواضع الثّمين المقدّس. عن التّواضع كما خبره وألفه قال:”التّواضع نعمة للنّفس ليس لها اسم يعبّر عنها إلّا عند الّذين تعلّموها بالخبرة. إنّها غنى لا يوصف ودلالة إلى الله، لأنّه قال: تعلّموا، لا من ملاك أو إنسان أو كتاب، بل منّي أي من سكناي وإشراقي وفعلي فيكم…” (25: 3).

ولمّا كانت قلاّيته قريبة من قلالي نسّاك آخرين شرع ينصرف، مرارًا، إلى مغارة بعيدة، عند أسفل الجبل جاعلًا منها لنفسه غرفة انتظار إلى السّماء من خلال تنهّداته والدّموع الّتي كانت تسيل من عينيه كنبع فيّاض، بلا جهد، تجلّيًا لجسده كرداء عرسيّ. وبفضل هذا الحزن المغبوط وهذه الدّموع المتواترة كان كلّ يوم من أيّامه عيدًا وكان يحفظ الصّلاة المستمرّة في قلبه الّذي أضحى شبيهًا بحصن تعجز هجمات الأفكار عن اختراقه. وكان يحدث له أحيانًا أن يُخطف في الرّوح وسط الأجواق الملائكيّة دون أن يعرف ما إذا كان، ساعتذاك، في الجسد أو خارج الجسد. وبحرّية بالغة كان يطلب من الله أن يلقّنه أسرار اللّاهوت. ولمّا كان يخرج من أتون الصّلاة كان يشعر بالنّقاوة، تارّة، كما لو خرج لتوّه من النّار، وتارّة أخرى يلتمع ضياءً.

أمّا النّوم فلم يكن قدّيسنا يعطي نفسه منه إلّا مقدار ما يلزم لحفظ اليقظة في الصّلاة. وقبل أن يخلد إلى النّوم كان يصلّي طويلًا أو يكتب على ألواحٍ ثمرة تأمّلاته في الكتاب المقدّس.

ورغم العناية الكبرى الّتي أحاط بها نفسه كلّ هذه السّنوات حفظًا لفضائله مخبوءة عن عيون النّاس إلى اليوم الّذي يعيّنه الله لينقل إليهم النّور الّذي اقتناه لبنيان الكنيسة، فإن الرّبّ الإله دفع إلى عبده براهب شاب اسمه موسى رضي يوحنّا، بعد لأي، أن يتّخذه تلميذًا. هذا حدث يومًا أن خرج إلى بستان صغير اقتنياه على بعد. فإذ اتفق أن كان موسى مستريحًا تحت صخرة هائلة تلقّى يوحنّا، في قلاّيته، كشفًا أنّ تلميذه كان في خطر. للحال قبض على سلاح الصّلاة. فلمّا عاد موسى، عند المساء، أخبر معلّمه أنّه أثناء قيلولته سمع فجأة معلّمه يدعوه فانتصب واقفًا في اللّحظة ذاتها خرجت الصّخرة من موضعها واندفعت إلى حيث كان هو مستلقيًا.

كذلك كانت لصلاة يوحنّا قدرة على شفاء الجراح المَنظورة وغير المَنظورة. من ذلك إنّه نجّى راهبًا من شيطان الزّنى الّذي كاد يدفعه إلى اليأس. مرّة أخرى جعل السّماء تُمطر. غير أن أكثر ما أظهر الرّبّ الإله نعمته في يوحنا أنّه مَنّ عليه بموهبة التّعليم الرّوحي. فاستنادًا إلى خبرته الشّخصيّة علّم بفيض كلّ الّذين قصدوه عن الفخاخ المنصوبة للرّهبان في صراعهم ضدّ الأهواء وضد أمير هذا العالم. غير أنّ هذا التّعليم الرّوحيّ أثار حسد البعض فروّجوا، بشأنه، إشاعات مغرضة واتّهموا يوحنّا بالثّرثرة ومحبّة المجد الباطل. ومع أن ضميره كان مرتاحًا، لم يسعَ إلى تبرير نفسه. ولكي لا يعطي أحدًا حجّة للطّعن به، توقّف سنة كاملة عن التّعليم. كلّ مواطني الصّحراء انتفعوا من صمته وتواضعه. وقد أبى أن يعود إلى الكلام إلّا بعدما أصرّ عليه الّذين أساؤوا إليه راجين تائبين أن يسمح باستقبال الزوّار لديه من جديد.

وإذ أُفعم يوحنّا من كلّ فضائل العمل والثّيوريّا وبلغ قمّة السّلّم المقدّسة بانتصاره على كلّ أهواء الإنسان العتيق، تلألأ فوق شبه جزيرة سيناء ككوكب وبات موضع إعجاب كلّ الرّهبان. ولمّا كان يحسب نفسه مبتدئًا بعد ويتلهّف لجمع الأمثلة الطّيّبة عن السّلوك الإنجيليّ، قام برحلة زار خلالها عددًا من الأديرة المصريّة. زار، بصورة خاصّة، ديرًا شركويًّا كبيرًا، في نواحي الإسكندريّة، فوجد فيه سماء أرضيّة حقيقيّة بعناية راع عجيب تمتّع بقدرة هائلة على التّمييز. تلك الشّركة كانت مُتّحدة، في الرّبّ، بمحبّة فائقة، حرّة من كلّ دالّة إلى حدّ أنّ الرّهبان فيها قلّما كانوا بحاجة لتحذير رئيسهم. كانوا من ذاتهم يحثّون بعضهم البعض على اليقظة. وبين الفضائل الّتي تمتّعوا بها ثمّة واحدة كانت، بحسب يوحنا، فائقة وهي أنّهم كانوا يتمرّسون على عدم جرح ضمير أحد من الإخوة. كذلك انتفع يوحنا جزيلًا لمّا زار أحد توابع هذا الدّير أي المكان المسمّى بـ”السّجن”. هناك أقام في نسك فائق وتوبة فوق المُعتاد رهبانٌ ارتكبوا خطايا جسيمة وكانوا يجتهدون ليحظوا، بعفو ربّهم. حديثه عن “السّجن” ولو بدا لقارئه معثرًا يدلّ على أنّه كان ليوحنّا نموذجًا للحياة الرّهبانيّة لأسباب جوهريّة حدّدها هو بقوله:”إنّ نفسًا أضاعت دالّتها الأولى وفقدت رجاءها ببلوغ اللّاهوى وهتكت عفّتها وسلبت ثروة مواهبها وتغرّبت عن تعزية الله ونكثت عهدها مع الرّبّ وأطفأت نار دموعها الصّالحة ويقرّعها ذكر هذا ويؤلمها، إنّ تلك النّفس لا تتجشّم، بنشاط كلّي تلك الأتعاب وحسب بل تعمد، بخوف الله، إلى إفناء ذاتها بالنّسك، اللّهم إذا كانت لا  تزال  فيها بقيّة من شرارة حبّ الرّبّ وخوفه تعالى كما كان لهؤلاء المغبوطين حقًا” (5: 23).

ولمّا أكمل قدّيسنا تلك السّنوات الأربعين من إقامته في البرّيّة كموسى آخر، اختير رئيسًا للدّير. دير سيناء حتّى القرن الرّابع عشر كان على اسم والدة الإله، ولم يُعرف باسم القدّيسة كاترينا إلّا بعد ذلك الحين. وقد نقل رواة أنّ ستماية حاج كانوا موجودين يوم تنصيبه. فلمّا جلسوا إلى المائدة عوين موسى كليم الله نفسه، لابسًا حلّة بيضاء، يتحرّك، جيئة وذهابًا، ويزوِّد الطّبّاخين والمدبّرين وحافظي المخازن والخدّام بالتّوجيهات.

هذا وقد أكّدت الأيّام أنّ يوحنّا كان لخراف دير سيناء راعيًا ممتازًا وطبيبًا حازقًا ومعلّمًا كفؤًا يحمل في نفسه الكتاب الّذي وضعه الله فيه حتّى لم يعد في حاجة إلى كتب أخرى يلقّن رهبانه بواسطتها علم العلوم وفنّ الفنون. صيت دير سيناء ذاع لنمط حياة رهبانه فكتب يوحنّا، رئيس دير رايثو، إلى قدّيسنا يطلب منه أن يكتب، بصورة واضحة منظّمة ومقتضبة، ما هو ضروري لنوال مقتبلي الحياة الملائكيّة الخلاص. على هذا انبرى يوحنّا يحرّر ألواح النّاموس الرّوحيّ فكان ثمرة جهده كتاب “السّلّم” الّذي أضحى، في الأدب النّسكي، مرجعًا كلاسيكيًّا أساسيًّا في أصول الحياة الرّوحيّة، على مدى الأجيال. في هذا الكتاب يفضي يوحنّا بقواعد نسكيّة جديدة بل إنطلاقًا من إرشادات عملانيّة وتفاصيل مدروسة وأقوال مأثورة وألغاز لا تخلو غالبًا من روح الدّعابة، يدرّب النّفس على الجهاد الرّوحيّ وتمييز الأفكار. كلامه مقتضب مكثّف، جيّد الحبك يخترق كالسّيف عمق النّفس قاطعًا دون مساومة كلّ مجاملة وملاحقًا النّسك الكاذب والأنانيّة حتّى إلى الجذور. كلامه إنجيل وُضع قيد التّنفيذ ويؤول بالّذين يتشبّعون منه، لا محالة، إلى باب السّماء.

عندما بلغ يوحنا أيّامه الأخيرة عيّن أخاه جاورجيوس الّذي اقتبل الحياة الهدوئيّة رأسًا للدّير. وإذ كان على وشك المفارقة قال له جاورجيوس: ها إنّك تتركني وتذهب وقد صلّيت إلى الرّبّ الإله أن ترسلني إليه قبل رحيلك، فأنا من دونك لا طاقة لي على رعاية هذا القطيع. فأكّد له يوحنّا: لا تحزن ولا تقلق. إذا وجدتُ نعمة لدى الله فلن تمضي سنة عليك من بعدي. وبالفعل لم تمضِ على وفاة يوحنّا ستة أشهر حتّى انضمّ جاورجيوس إليه.

مواضيع ذات صلة