Menu Close

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:

* القدّيس البار مكاريوس الكبير المدعو المصريّ* القدّيس البار مكاريوس الإسكندريّ* الشّهيدة أفراسيا النيقوميذيّة * القدّيس أرسانيوس أسقف كورفو * القدّيس البار ملاتيوس المعترف * أبونا الجليل في القدّيسين مرقص أسقف أفسس * القدّيس البار مكاريوس الكهفيّ* القدّيس البار مكاريوس الكهفيّ الشّمّاس * القدّيس البار أنطونيوس الجيورجيّ* القدّيس البار ثيودوروس النّفغورودي.

*        *        *

✤القدّيس البار مكاريوس الكبير المدعو المصريّ✤

ألقابه واسمه

 ألقاب عديدة أسبغها المهتمّون على القدّيس مكاريوس. قالوا إنّه “اللّابس الرّوح” وقالوا إنّه “المصباح المُضيء” وقالوا إنّه “الشّاب الحكيم”. اعتبروه بمثابة نبيّ ومخيف للأرواح المضلّة ورفيق للشّاروبيم من البداية إلى النّياحة. تسربل التّواضع كالثّوب وكان وجهه يلمع كالشّمس أحيانًا وكان رسول زمانه كبطرس وبولس. اسمه، مكاريوس، يعني المُطوّب، وأصله قبطيّ هو مقارِ (بكسر الرّاء) ويفيد الصّدق والأمانة. جعل العرب اسمه مقاره.

نشأته

 ‏ولد القدّيس مكاريوس المصريّ في قرية تدعى شبشير في مركز المنوفية في مصر قرابة العام 300‏م. دعي بالمصريّ لأنّه من إقليم مصر الّذي هو منف أو الجيزة الحاليّة. نشأ على التّقوى واقتنى إحساسًا مرهفًا بالخطيئة. يحكى عنه أنّه سرق هو وبعض الصّبية من وفاقه أكوازًا من التّين وأكل واحدًا منها. فلمّا عاد إلى نفسه ندم ندمًا شديدًا، وقيل ذكر فعلته وبكى عليها بمرارة إلى آخر حياته. عمل راعي بقر وقيل جمّالًا. استهوته الرّهبنة فاعتزل في قلّاية في قريته. انصرف إلى النّسك والصّلاة. وإذ رغب مواطنوه في جعله كاهنًا لهم فرّ إلى قرية أخرى.

إلى الإسقيط

‏فيما كان مكاريوس جادًّا في سعيه الرّهبانيّ، في موطنه الجديد، إذا بتجربة تحلّ به. فتاة سقطت في زنى. فلمّا بان حبلها سألوها عن الّذي عرفها فقالت: المتوحّد! فخرجوا إليه واستهزأوا به ولفّوا به القرية بعدما علّقوا في عنقه قدورًا قذرة وآذان أجرار مسودّة وهم يضربونه ويقولون: هذا الرّاهب أفسد عفّة ابنتنا! وبعدما بالغوا في شتمه وضربه جعلوه يتعهّد بالإنفاق عليها وعلى مولودها. كلّ هذا وهو لم ينطق بكلمة واحدة يدافع بها عن نفسه. فلمّا عاد، بالجهد، إلى قلّايته قال في سرّه: “كدّ يا مكاريوس لأنّه قد صارت لك امرأة وبنون. فينبغي لك أن تعمل ليلًا نهارًا لتطعمهم وتطعم نفسك”.فلمّا أقام ردحًا من الزّمان يكدّ ويتعب، حان وقت وضع الفتاة فتعسّر. وبعدما مكثت معذّبة أيّامًا لا تلد شعرت بأنّ ما حدث لها كان لافترائها على المتوحّد، فاعترفت أنّه بريء وأنّ فلانًا الرّجل هو الّذي خدعها. فخرج سكّان القرية ليستسمحوا القدّيس. وقبل أن يصلوا إليه أطلعه خادمه على ما جرى وأنّ أهل القرية في طريقهم إليه. فقام لتوّه وهرب إلى بريّة الإسقيط، فكان أوّل ساكن لها. عمره، يومذاك، كان ثلاثين سنة.

أب لرهبان كثيرين

‏بنى مكاريوس لنفسه قلّاية غربي الملّاحات. هناك قسى على نفسه وعبد ‏الله بكل قوّته. أخذ يضفر الخوص ويعيش من عمل يديه. فلمّا سمع به قوم حضروا إليه فاستهوتهم عيشته وسألوه أن يكونوا معه فأذن لهم وصار لهم أبًا مرشدًا يلبسهم الزّيّ ويرشدهم إلى طريق العبادة.

لم يصر راهبًا بعد

‏سأله بعض الشّيوخ مرّة في جبل نيتريا أن يقول للإخوة كلمة تنفعهم ‏فأجاب: أنا لم أصر بعد راهبًا، لكنّي رأيت رهبانًا. ثمّ أخبرهم أنّه فيما كان يومًا في الإسقيط جاءه فكر يدعوه للذّهاب إلى البرّيّة الداخلية. فلمّا ألحّ الفكر عليه مضى إلى هناك فصادف بحيرة ماء وفي وسطها جزيرة عليها وحوش وبين الوحوش رجلان عاريان فجزع منهما ظانًّا أنّهما روحان. فلمّا لاحظاه طمأناه وأخبراه عن نفسيهما. وإذ سألهما كيف يصير راهبًا، أجاباه: ما لم يزهد الإنسان في كلّ أمور العالم فلن يستطيع أن يصير راهبًا. فقال لهما: أنا إنسان ضعيف ولا أستطيع أن أكون مثلكما فأجاباه: إن لم تستطع أن تكون مثلنا فاجلس في قلّايتك وابكِ على خطاياك!

تواضعه

‏‏وحدث أن كان مكاريوس، مرة، عابرًا في الطّريق وهو يحمل الخوص وفي يده منجل. فالتقاه الشّيطان وانتزع المنجل من يده وأراد قطعه به، فلمّا يفزع، بل قال: إن كان السّيّد المسيح قد أعطاك سلطانًا عليّ فها أنا‏مُستعدّ لأن تقتلني. فلم يستطع الشّيطان أن يفعل ضدّه شيئًا، فقال له: “يا مكاريوس! أنت تطرحني أرضًا بقوّة عظيمة ولا أتمكّن منك. كلّ ما تعمله أعمله أنا أيضًا. أنت تصوم وأنا لا آكل أبدًا. أنت تسهر وأنا لا أنام أبدًا. شيء واحد تغلبني به: تواضعك! من أجل هذا لا أقدر عليك”. فرفع مكاريوس يديه للصّلاة فتوارى الشّيطان للحال.

‏وذكروا أنّ تلاميذه كانوا يدنون منه بخوف لأنّ توقيرهم له كان كبيرًا. وإذ كان يراهم على هذه الحال كان يمتنع عن محادثتهم. أمّا إن أتاه إنسان وكلّمه بكلامٍ قاسٍ أو سخر منه أو غضب عليه فإنّه كان، إذ ذاك، يجد للكلام جدوى فيجيب عن كلّ سؤال يُوجَّه إليه.

كذلك كثيرًا ما كان مكاريوس يسترشد لدى من هم أصغر منه. قابل صبيًّا، مرّة، يرعى البقر، فسأله: قل لي يا صبيّ ماذا أعمل، فأنا جائع؟ فقال له: كلْ! فقال: أكلت وما زلت جائعًا! فقال له: كُلْ من جديد! فقال: أكلت وما زلت جائعًا! فأجاب الصّبيّ: لا شكّ إنّك حمار يا راهب لأنّك تأكل كما يأكل الحمار. فانصرف مكاريوس منتفعًا.

 ‏انكفاءه وتقشفه

‏كان مكاريوس معروفًا جدًّا. لذلك كثيرون كانوا يقصدونه ليتبرّكوا منه. ولكي يحفظ نفسه في هدوءٍ، حفر في قلّايته سردابًا امتدّ نصف ميل هيّأ في نهايته، لنفسه، مغارة صغيرة اعتاد الخلود إليها كلّما زحمه النّاس وثقّلوا عليه. ومن حبّه للصّمت وحرصه عليه، قال لتلاميذه: فرّوا يا إخوة! فأجابوه: إلى أين؟ ‏إلى أبعد من البرّيّة؟ فوضع يده على فمه وقال: من هذا فرّوا! وقال لهم: متى رأيتم الأشجار تُغرس بجوار الأبواب والشّبّان يقيمون في الإسقيط فاحملوا أمتعتكم وارحلوا.

‏وذكروا أنّ مكاريوس كان لا ‏يمتنع عن شرب النّبيذ متى قدّم له أحد الإخوة بعضًا. لكنّه أخذ على عاتقه أن يصوم عن شرب الماء يومًا مقابل كلّ كأس خمر يشربها. فلمّا عرف الإخوة بقانونه امتنعوا عن تقديم النّبيذ له لئلّا يعذّب نفسه بالعطش.

‏وقيل إنّه بينما كان القدّيس سائرًا في البرّيّة، مرّة، وجد بقعة جميلة ‏كفردوس الله وفيها ينابيع ماء ونخيل وأشجار متنوّعة الأثمار. فلمّا أخبر تلاميذه عنها طلبوا الإقامة فيها فأجابهم: إن وجدتم لذّة وراحة في ذلك المكان وعشتم من دون تعب وضيق، فكيف تتوقّعون الرّاحة واللّذّة من الله؟ أمّا نحن، معشر الرّهبان، فَيَليق بنا أن نحتمل الآلام من أجل المسيح، في هذا الدّهر، لنتمتّع بالسّرور في الدّهر الآتي. ولمّا قال هذا سكت الإخوة وامتنعوا.

حكمته

‏توّجه القديس مكاريوس، مرة، برفقة تلميذ له إلى جبل نيتريا. فلما ‏اقتربا من أحد الأمكنة، قال لتلميذه أن يتقدّمه قليلاً. فما أن ابتعد التلميذ عن معلّمه قليلاً حتى التقى كاهناً وثنياً يحمل بعض الأخشاب، فصرخ التلميذ في وجهه قائلاً: “يا خادم الشيطان، إلى أين تجري؟ “فاغتاظ الكاهن وانهال على التلميذ بالضرب حتى كاد يقضي عليه، ثم تركه ومضى. فلمّا تقدّم قليلاً التقى مكاريوس فبادره القديس بالقول: “لتصحبك المعونة يا رجل النشاط! ‏فتعجّب الكاهن وأتى إليه وسأله: أي شيء جميل رأيته فيّ حتى حيّيتني على هذا النحو؟ فأجابه الشيخ: “إني أرى أنك تكدّ وتتعب وإن كنت لا تدري لماذا؟” فتأثّر الكاهن وقال للشيخ: الآن عرفت أنك رجل الله ولست كذلك الرّاهب الشّرّير الّذي لعنني فضربته ضرب الموت. فعرف الشّيخ أنّه تلميذه. وإذ أمسك الكاهن الوثنيّ بقدمي مكاريوس رجاه أن يرهبنه فوعده خيرًا. ثم سار الإثنان إلى حيث كان التّلميذ مَطروحًا مغشيًا عليه فأعاناه وأتيا به إلى كنيسة الجبل. بعد ذلك أخذ القدّيس الكاهن الوثنيّ وجعله راهبًا. وبفضله اهتدى العديد من الوثنيّين إلى المسيح. تعليق مكاريوس كان: “الكلمات ‏الشّرّيرة المُتكبّرة تحوّل الأخيار إلى أشرار، والكلام الطّيّب المتواضع يحوّل الأشرار إلى أخيار”.

‏وذكروا عنه أيضًا أنّ أخًا يدعى ثيوبمبتوس كان مجرّبًا بأفكار الزّنى وكان يخجل أن يتكلّم عنها. فدرى القدّيس بأمره وجاء إليه وسأله: “هل عندك شيء تقوله يا أخي؟ كيف أحوالك؟” فأجاب الأخ: “أموري حسنة في الوقت الحاضر!” فقال الشّيخ: “ها أنا قد عشت في نسك شديد سنين طويلة وصرت مكرّمًا من الجميع. ومع ذلك، ورغم إنّي شيخ، فإنّ شيطان الزّنى يتعبني!” فأجاب ثيوبمبتوس: “صدّقني يا أبي، إنّه يتعبني أنا أيضًا!” فتابع الشّيخ كما لو كان متعبًا من أفكار كثيرة إلى أن قاد الأخ أخيرًا إلى الاعتراف بما يثقّل عليه. فأعطاه مكاريوس قانونًا فالتزمه واستراح.

محبّته

‏زار مكاريوسُ أحدَ الإخوة وكان مريضًا. فسأله إذا كان بحاجة إلى شيء. فأجاب: بحاجة إلى خبز طريّ. فسار مكاريوس ستين ميلًا إلى الإسكندريّة وأحضره له.

تشبّهه بخالقه

‏كان في بعض القلالي أخ اتُهم بالزّنى فلم يستطع الإخوة أن يصبروا عليه وأدانوه. وكانوا يترصّدون خطواته. مرّة، لاحظوا امرأة تدخل إليه فأوقفوا بعضًا لمراقبته ثم جاؤوا إلى القدّيس مكاريوس وأخبروه. فكان جوابه الفوريّ: “لا تصدّقوا يا إخوة. حاشا لأخينا المبارك أن يفعل هذا!” فدعوه إلى التّأكد من ذلك بنفسه. فأتى إلى قلّاية الأخ كما ليسلّم عليه. فلمّا علم الأخ بقدومه تحيّر وارتعد وخبّأ المرأة في الصّندوق. فلمّا دخل القدّيس جلس على الصّندوق ودعا الإخوة إلى الدّخول فدخلوا وفتّشوا فلم يجدوا أحدًا ولم يجرأوا على سؤال الشّيخ أن يبتعد عن الصّندوق ليروا ما إذا كانت فيه. وهكذا عادوا خائبين. فلمّا انصرفوا أمسك القدّيس بيد الأخ وقال له: “احكم على نفسك، يا أخي، قبل أن يحكموا عليك لأنّ الحكم لله!” ثم ودّعه وخرج. فلمّا وجد مكاريوس نفسه وحيدًا في الخارج جاءه صوت يقول له: “طوباك يا مكاريوس، رجل الرّوح، يا من تشبّه بخالقه، وستر العيوب مثله!” ثمّ أنّ الأخ عاد إلى نفسه وتاب عن غيِّه وصار مجاهدًا وبطلًا شجاعًا.

وسأله آخر، مرّة، أن يقول له كلمة منفعة فأجاب: “لا تصنع شرًّا بأحد ولا تدن أحدًا. احفظ هذين الأمرين فتخلص”.

عدم القنية

‏اهتمّ مكاريوس بتدريب تلاميذه على عدم حبّ القنية. دخل، ذات مرّة، بستان راهب كان يقيم بالقرب منه وأخذ يقلع البقول من الأصول. فلم يضطرب الرّاهب ولا حرّك ساكنًا. وإذ أتى القدّيس على كلّ البقول إلّا واحدة بادره الرّاهب ببساطة قلب: إن شئت يا أبانا فاترك هذه ليكون لنا أن نبذر منها! عندئذ علم الشّيخ أنّ هذا الرّاهب خالص عند الله وليست الزّراعة له قنية، فقال له: لقد استراح روح الله عليك يا ولدي! ثم التفت إلى أخ رافقه وقال له: لو حزن على النّبات لبان عليه وأنا أقلعها، ولكنّها كانت عنده كلا شيء. هكذا يعرف الشّياطين إذا كانت محبّة القنية فينا.

جزاء من يكفرون

‏ومرّة، أثناء سيره في البرّيّة الدّاخليّة، صادف جمجمة إنسان فحرّكها بعصاه وبدأ يبكي متضرّعًا إلى الرَّبّ الإله أن يعرّفه بقصة صاحبها. فخرج منها صوت يقول له: أعلمك إنّي كنت ملكًا لهذه الأماكن، وكانت هنا مدن كثيرة، وكنا نعبد الأصنام وندعوها آلهة ونعمل لها أعيادًا واحتفالات. وها أنا اليوم كما ترى! فازداد مكاريوس بكاء وسأل: وما حالكم اليوم؟ فأجاب: نحن في عذاب مرّ لأنّنا لم نعرف الله. لكنّ عذابنا أخفّ من عذاب الّذين عرفوا الله و آمنوا به ثم جحدوه.

أيّة صلاة؟

‏راهب اسمه بولس كان يعمل أقل ما يمكن لسدّ حاجة نفسه، وبقية وقته كان يقضيها في صلاة مستمرّة. صلواته جاوزت الثّلاثمائة كلّ يوم حسب ترتيب الصّلوات آنذاك. هذا التقاه مكاريوس فوجده حزينًا فسأله عن سبب تكدّره، فأجابه: سمعت عن عذراء تتلو خمسمائة صلاة في اليوم فاحتقرت نفسي. فقال له الشّيخ: لقد عشت في الحياة النّسكيّة ستّين سنة وأنا أتلو كلّ يوم خمسين صلاة واستقبل الإخوة الّذين يأتون إليّ وأعمل ما فيه كفايتي. ولا يلومني عقلي إنّني مقصِّر من جهة الله. فهل أنت الّذي تصلّي كلّ هذه الصّلوات تُدان من أفكارك؟‏! ربّما لا تقدّم هذه الصّلوات بنقاوة أو لعلّك قادر على أن تعمل أكثر ولا تعمل.

أدوات الشّيطان

‏أثناء سير مكاريوس، مرّة، في أقصى البرّيّة التقى شخصًا هَرِمًا يحمل حملًا ثقيلًا حول جسده. وكان الحمل عبارة عن أوعية في كلّ منها ريشة وكان لابسًا إيّاها عوضًا عن الثّياب. فتعجّب مكاريوس من منظره وسأله باسم الرَّبّأن يقول له من هو وما هذه الأدوات الّتي يحملها. فأجاب الهرم بغير اختياره: أنا من يقولون عنه إنّه شيطان محتال. وهذه الأوعية هي ما أجتذب النّاس به إلى الخطيئة مقدِّمًا لكلّ عضو من أعضائهم ما يناسبه من الخديعة. فإذا أردت أن أُضلّ من يقرأ نواميس الله وشرائعه أدّهنه من الوعاء الّذي على رأسي. ومن أحبّ السّهر في الصّلوات والتّسابيح أخذت من الوعاء الّذي على حاجبيّ ولطّخت به عينيه لأجعل عليهما نعاساً ونوماً. والأوعية الموجودة على مسامعي معدّة لعصيان الأوامر. والتي عند أنفي اجتذب بها الشبّان إلى اللذّة. والتي عند فمي اجتذب بها النسّاك إلى الأطعمة أو أشدّهم إلى الوقيعة والكلام القبيح. من كان راغبًا وزّعت عليه بذار أعمالي. ومن كان متّكلًا على نفسه جعلته يتعالى بالأسلحة الّتي في عنقي. أمّا الّتي عند صدري فمخازن أفكاري أُسكر بها الفكر وأصرف الصّالحات من الأذهان. أمّا الموجودة عند جوفي فمملوءة من عدم الحسّ. أمّا الّتي تحت بطني فأسوق بها الرّاغبين إلى سائر ضروب الزّنى والفسق واللّذّات القبيحة. والّتي على يديّ فمعدّة للضّرب والقتل. والّتي وراء ظهري مخصّصة لنصب الفخاخ للّذين يقاومونني. والّتي على قدميّ فللعثرات أعرقل بها طرق المستقيمين. وبعدما قال هذا صار دخانًا واختفى.

حسد الشّيطان

‏جاء كاهن وثنيّ إلى مكاريوس، يومًا، فسجد أمامه وسأله أن يعمِّده ويرهبنه. فتعجّب القدّيس وسأله كيف يريد أن ينضمّ إلى المسيح من دون وعظ، فأجاب: كان لنا عيد عظيم وما زلنا نصلّي إلى منتصف اللّيل حتّى نام النّاس. فجأة رأيت داخل أحد هياكل الأصنام ملكًا عظيمًا جالسًا وحوله كثيرون. فأقبل إليه واحد من غلمانه وأخبره أنه آت من المدينة الفلانية وقد نجح في جعل ‏كلمة صغيرة في قلب امرأة رشقت بها امرأة أخرى فلم تحتملها فأدّى ذلك إلى شجار كبير بين الرجال أودى بحياة الكثيرين في يوم واحد. فقال الملك لأعوانه: أبعدوه عني لأنه لم يعمل شيئاً!

‏ثم تقدّم غلام ثان وأخبر أنه آت من بلاد الهند حيث وجد داراً تحترق، فوضع في قلب أحد الأشخاص أن يتّهم آخر وشهد عليه كثيرون بالزور. فقال الملك: أبعدوه عني لأنه لم يعمل شيئاً!

‏ثم تقدّم ثالث وأخبر كيف أنه تسبّب في حرب بحرية غرقت على أثرها عدة سفن. فقال الملك: أبعدوه عني لأنه لم يعمل شيئاً!

‏ثم تقدّم رابع وخامس وسادس وأخبروا بما عندهم فلم يسرّ الملك بأي منهم وأمر بإبعادهم جميعاً لأنهم لم يعملوا شيئاً!

أخيراً تقدّم غلام وقال إنه آت لتوّه من الإسقيط وقد قاتل راهباً واحداً أربعين سنة فصرعه لتوّه وأسقطه في الزنى. فلما سمع الملك بالخبر انتصب وقبّله ونزع التاج عن رأسه وألبسه إيّاه قائلاً: حقاً لقد قمت بعمل عظيم! ‏وتابع كاهن الأصنام قائلاً: فلما رأيت أنا كل ذلك، وقد كنت مختبئاً في الهيكل، أدركت عظم الرهبنة فخرجت وجئت إليك.

تضاهيانه في السيرة

‏طلب مكاريوس يوماً من الرب الإله أن يدلّه على من يضاهيه في السيرة، فجاءه صوت يقول له: تضاهيك امرأتان في المدينة الفلانية. فأخذ عصاه وخرج إلى هناك. فلما وصل سأل وتقصّى عنهما، فدلّوه على بيتهما. فلما قرع الباب فتحت له إحداهما ثم سجدت إلى الأرض دون أن تعرف من يكون. ولما عرفت الثانية بقدومه جاءت هي أيضاً وسجدت. ثم قدّمتا ماء لرجليه وبسطتا له مائدة ليأكل، فلم يشأ قبل أن تخبراه عن نفسيهما قائلاً لهما إنه مرسل من الله. فارتعدتا وسقطتا على وجهيهما باكيتين. فأنهضهما، فقالتا له: ماذا تطلب منا أيها القديس ونحن خاطئتان؟! وبعدما ألحّ متضرّعاً إليهما ألاّ تحرماه من خبرهما لمنفعة نفسه، أجابتا: إننا غريبتان في الجنس إحدانا عن الأخرى. تزوّجنا أخوين حسب الجسد ولما طلبنا منهما أن نمضي ونسكن في بيت للعذارى لنخدم الله بالصلاة والصوم أبيا. فجعلنا على نفسينا قانوناً أن تسلك إحدانا مع الأخرى بكمال المحبّة الإلهية.

‏وها نحن نحفظ نفسينا بصوم دائم إلى المساء وصلاة مستمرة. وقد أنجبت كل منا ولداً. فمتى نظرت إحدانا ابن أختها يبكي أخذته وأرضعته كما لو كان ابنها. أما رجلانا فراعيا غنم وماعز لا يعودان إلينا إلا عند المساء فنقبلهما كأخوين قدّيسين. ونحن مسكينتان بائستان، وهما دائبان على الصدقة ورحمة الغرباء. ولم نسمح لنفسينا أن تخرج من فم الواحدة منا كلمة عالمية بطّالة.

‏فلمّا سمع مكاريوس ما قالتاه خرج يقرع صدره ويلطم وجهه قائلاً: ويلي، ويلي! ولا مثل هاتين المرأتين لي محبة لقريبي”.

صانع المعجزات

‏ينسب إلى القدّيس مكاريوس عدد من المعجزات بينها هذه:

نزل القديس مرة إلى الحصاد ومعه بعض الإخوة. وكانت هناك امرأة تلتقط خلف الحصّادين ولا تكفّ عن البكاء. فسأل من تكون وما سبب بكائها، فعلم أن رجلها حفظ وديعة لإنسان مقتدر، ثم مات فجأة والمرأة لا تعلم من موضع الوديعة شيئاً. فلما حانت استراحة الحصّادين، دعا القدّيس المرأة وقال ‏لها: هيّا، أريني قبر زوجك! فذهبت به إلى المقبرة. فلما وصلوها صلّى مع الإخوة ثم نادى الميت قائلاً: يا فلان! أين تركت الوديعة التي عندك؟ ‏فخرج من المقبرة صوت قال له: إنها في بيتي تحت رجل السرير. فقال له القديس: عد إلى رقادك! فتعجّب الإخوة! فقال القديس: ليس من أجلي كان هذا الأمر، لأني لست شيئاً، بل من أجل الأرملة واليتامى. فلما سمعت المرأة بموضع ‏الوديعة انطلقت وأخرجتها من مكانها وأعطتها لصاحبها. وكل الذين سمعوا بما جرى سبّحوا الله.

كهنوته

‏سيم مكاريوس في حياته كاهناً. هذا أمر مؤكّد. متى كان ذلك، ليس ثابتاً. المخطوطات القديمة كالقبطية والعربية تقول إنه لما كان عائشاً في قلاّيته بريف مصر، جاء أهل القرية واختطفوه ورسموه قساً. ولما لم يجد نفسه أهلاً لهذه الوظيفة الشريفة هرب إلى قرية بعيدة حيث كان يتردّد عليه رجل بار ويأخذ منه شغل يديه ويسدّ احتياجاته. أما سوزومينوس المؤرّخ فيقول إنه صار كاهناً في سن الأربعين، في نهاية اعتكافه الأول الذي دام عشر سنوات.

مكاريوس وأنطونيوس

‏يستفاد من الأبحاث أن مكاريوس وأنطونيوس التقيا مرتين. المرة الأولى في بداية نسك مكاريوس والثانية بعدما تقدّم فيه. وقد ورد أن قدّيسنا كشف فكره لأنطونيوس كابن لأبيه وإن أنطونيوس قبّل رأسه وقال له: يا ابني مقاره، إنك عتيد أن تصير مغبوطاً كاسمك! وقد وعظه وأيّده بكلام كثير وعرّفه بقتالات العدو. ولما طلب منه مقاره أن يقيم عنده أطلقه قائلاً: كل واحد منا يلزم الموضع الذي دعاه الرب إليه! هذا في الزيارة الأولى. أما الزيارة الثانية فتمّت بعد ذلك بزمان طويل وكان الدافع إليها ازدياد حروب العدو على مكاريوس وحاجته إلى النصح بشأن الرعاية وقيادة النفوس وغير ذلك. كذلك ورد أن أنطونيوس سلّم مكاريوس، أثناء زيارته الثانية، عصاه العتيقة تعبيراً عن تسليمه أمانة التدبير الرهباني له من بعده.

خطابه الأخير ونياحه

‏قبل نياحة مكاريوس بزمن قصير خاطب رهبان جبل نتريا مودِّعاً فقال‏ لهم: “يا أولادي الأحباء… كثيرة هي أمجاد القدّيسين… وسبيلنا أن نعرف تدبيرهم وعملهم… فلقد اقتنوا المسكنة وتواضع النفس وانسحاق القلب والجهاد في الصلاة ومحبة كل الناس وخوف الله… أما الجسد فرفضوا جميع شهواته…

 ‏فرّوا من الخطيئة واصبروا إلى الموت في حفظ وصايا الرب. لا تقبلوا كسر أية وصية مهما كانت صغيرة، لأن كسر أية وصية، صغيرة كانت أم كبيرة، يغضب الله…

‏لا يكون فيكم من يذكر الشر لأخيه… فإن القلب الذي يتفكّر بالشر والبغضة لا يمكن أن يكون مسكناً لله… اقتنوا الحب بعضكم لبعض لتقتنوا لأنفسكم كل تدبير الفضائل الأخرى في رهبنتكم.

‏… النفس التي لا تقبل الوقيعة ولا تفكّر في السوء على أحد ولا تميل إلى حب الدرهم ولا تميل إلى شهوات العالم تستضيء كالشمس…

‏أفعال السوء مدخل للعدو… والواجب أن نحفظ أنفسنا جداً لئلا نصير‏آنية للشيطان…

ليحرص كل واحد منكم على أن يمدح أخاه في غيبته حتى إذا سمع أخوه بذلك عنه ازداد في محبّته…

‏متى كان قلب الإنسان غير نقي ونيّته غير صافية فلا بد أن قلب أخيه يحسّ بذلك… مهما حاول أن يتجمَّل بلسانه من نحوه. في قلب الإنسان سر إلهي. فإن حدث أن سمع أحد كلاماً صدر من أخيه عنه فلا يخبئه في قلبه ويحقد عليه ويحاسنه بلسانه وقلبه غير نقي. فهذه الحال تولّد البغضة المرّة والمقت وهي تغضب الله…

‏كل من يسمع التأديب ولا يقبله ولا يعمل به فهو خاسر نفسه…

‏أوصيكم أن تبالغوا في خدمة القدّيسين والمرضى وادفعوا لهم قدر قوّتكم ‏من عمل أيديكم… كل تعب يتعبه الواحد منا سوف يُستعلن له وقت خروج نفسه من الجسد… أحبّوا التعب… طوبى لمن يبقى في تعبه فرِح القلب لأن ‏التعب هو باب الفردوس المفتوح.

‏أما الذي يطيع ضعف الجسد فإنه يصبح غريباً عن الخيرات المعدّة للمجاهدين ويتولاّه الندم في القيامة حين يبقى بعيداً لا يملك إلا الحزن ‏والكآبة التي لا تنفع!

‏… كل من يلازم فضيلة واحدة ويفرِّط بأخرى يشبه إنساناً أخذ إناء وملأه ‏زيتاً وأهمل فيه ثقباً. ثم ركب وسافر فما وصل إلى نهاية سعيه إلاّ والإناء فارغ مما فيه… الوصايا كالسلسلة متى انفكت منها عروة تفلت بأكملها… سيأتي وقت تُسألون فيه عن ثمر كلامي وتُعطُون جواباً عما سمعتموه مني. فلا تجعلوا كلامي لكم سبب دينونة لأني إنما كلّمتكم لخلاصكم وصحّة نفسكم…

‏أفزع إلى الله لكي لا تُصطادوا بفخ الغفلة ولا تعتد قلوبكم التهاون… ما ‏دمتم في الجسد فأمسكوا التوبة ولا تدعوها تفلت منكم لأن من فارقها فارقته الرحمة وملكوت السموات…

‏… لنجتهد متشبّهين بالصالحين لئلا نندم عندما نجدهم في النهاية في مجد عظيم… طوبى للذين يعملون بكل قوّتهم.

‏اجعلوا أنفسكم غرباء عن هذا العالم لتصيروا أهلاً للخيرات الأبدية…

‏إن صوم الأربعين هو الخميرة للسنة كلها فيجب أن نتمّمه باحتراس لأن الخميرة إذا فسُدت أفسدت العجين كله…

‏تيقّظوا بالروح وامتلئوا بالإيمان حتى تمضوا إلى الرب بدالة وتنالوا الإكليل الذي لا يبلى…

‏هذا وتنيّح القديس مكاريوس في سن التسعين، وقيل في السابعة والتسعين. وقد حضرت إذ ذاك الملائكة والقديسون لمرافقته فهتف بصوت خافت على قدر ما بقي فيه من قوة: “يا سيدي يسوع المسيح، حبيب نفسي، اقبل روحي إليك!” وأسلم الروح.

مواضيع ذات صلة