Menu Close

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:

*الشّهيدان أونيسيفوروس وبرفيريوس *أمّنا القدّيسة البارّة مَطرونة الحمصية *أمّنا القدّيسة البارّة ثيوكتيستي *أبونا القدّيس سمعان المترجم *القدّيس البار يوحنّا القصير *الشّهيد أنطونيوس الَّذي من بلد الشّام *القدّيس البار نكتاريوس، أسقف المدن الخمس *القدّيستان البارّتان أوستوليا وسوباترا *القدّيس هيلاّديوس *القدّيسان البارّان أفثيميوس ونيوفيطوس الآثوسيّان *القدّيس البار أونسيفوروس الكهفيّ الكييفيّ*الشّهداء الرّوس الجُدُدْ ألكسي زادوفورنوف ومَن معه *القدّيس البار إبراهيم المتوحّد المنوفيّ المصريّ.

*        *        *

✤تذكار أبينا البار نكتاريوس، أسقف المدن الخمس، الصّانع العجائب ومؤسّس دير الثّالوث القدّوس في جزيرة أغينا اليونانيّة (+ 1920 م).✤

وُلد القدّيس نكتاريوس في الأوّل من تشرين الأوّل من العام 1846 للميلاد. كان ذلك في قرية من قُرى مقاطعة تراقياª الجنوبيّة. وهو الخامس، درجًا، في سلسلة من ستة أولاد ولدوا لزوجَين فقيرَين هما ديموس ومريم كيفالا. كانت تعيش في كنف العائلة جدّة يبدو أنّها لعبت دورًا مهمًّا في نشوء نكتاريوس، طفلًا، على الأرثوذكسيّة. كان نكتاريوس ينتهز كلّ فرصة مُمكنة تكون فيها جدّته خالية من الأعمال البيتيّة ليسألها: “تاتا!” لنقل معًا: “ارحمني يا الله…” (مزمور 50). فتجيبه بصبر وحنان: “هيا بنا يا حبيبي!” ثمّ تبدأ بهدوء إلى أن تصل إلى الآية الّتي فيها: “فأُعلّم الأثمة طرقك والكفرة إليك يرجعون“. إذ ذاك تشرق أساريره وينتفض كأنّ تيّارًا كهربائيًّا تخلّل نفسه وأوصاله، ويمدّ يده بحركة عفويّة ويضعها على فم جدّته ويتابع هو المزمور بصوت مرتفع إلى آخره.

أنْ يعلّم الأثمة طرق الرَّبّ وأن يعمل على استعادة الكفرة، هذا كان عنوان حياة نكتاريوس والرّسالة الّتي أَوكل بها السّيّد إليه.

        مال نكتاريوس إلى العِلم الإلهيّ منذ نعومة أظفاره، لا سيّما قراءة الأناجيل وسفر المزامير. وقد تمكّنت العائلة بشقّ النّفس من توفير بعض التّعليم لولدها إلى سنّ الثّالثة عشرة. ثمّ بعد ذلك أخذت نفسه تتشوّف إلى المدينة العظمى، القسطنطينيّة. ولكن من أين يأتي بالمال للسّفر والعيش والدّراسة. تفاصيل حياته أبانت قليلًا قليلًا أنّ يد الرَّبّ كانت عليه وأنّ عناية العليّ كانت تُحيكه قدّيسًا عظيمًا لكنيسة المسيح.

سفره

        وقف عند المرفأ وصرّة ثياب تتدلّى على ظهره وأخذ يتطلّع حزينًا إلى السّفينة التّالية المغادرة إلى القسطنطينيّة. لحظه قبطان السّفينة فمازحه دون أن يتعطّف عليه. لكن السّفينة أبت أن تغادر الرّصيف كما لو أنّ عطلًا طرأ على محرّكها إلى أن أشار القبطان إلى الصّبيّ بالصّعود. وما ان وطئت قدماه ظهر السّفينة حتى زأر المحرّك وأقلعت السّفينة دونما عناء.

رسالة إلى الرَّبّ يسوع

        كانت الأيّام الأولى للصّبيّ في المدينة صعبة صعبة لأنّه بحث عن عمل طويلًا فلم يوفّق إلى أن وقع بين يديّ صاحب محل فظّ لتسويق الدّخان. هذا سخّره في عمل شاق طول النّهار لقاء بعض المأكول. ولم يكن أمام الصّبيّ حلّ أفضل فرضخ مغلوبًا على أمره. لكنّ ربّ العمل كان يسيء معاملته ولا يترك مناسبة إلّا يمطره فيها بالشّتائم. وظلّ نكتاريوس على هذه الحال فترة من الزّمان إلى أن اشتدّ الخناق عليه إلى آخر الحبل فقام وكتب رسالة جاء فيها:

        “يا ربّي يسوع، تسألني لماذا أبكي. ثيابي اهترأت وحذائي تخرّق، وأنا حافي القدمَين، موجوع متضايق. نحن في فصل الشّتاء وأنا بردان. البارحة مساء أعلمت صاحب المحل بحالي فسبّني وطردني. قال لي أن أكتب رسالة إلى القرية حتّى يبعثوا لي بما أحتاج إليه. ولكنّي، يا ربّي يسوع، منذ أن بدأت بالعمل لم أُرسل لوالدتي قرشًا واحدًا… ماذا تريدني أن أعمل الآن؟ كيف أعيش بلا ثياب؟ ثيابي أُرتّيها فتعود وتتمزّق من جديد. سامحني على إزعاجي. أسجد لك وأمجّدك. خادمك أنستاسيوس

                                        [أنستاسيوس كان اسمه بالعموديّة]

        ثمّ طوى الرّسالة ووضعها في ظرف وكتب العنوان التّالي:

                “إلى ربّنا يسوع المسيح في السّموات“.

        وباكراً في اليوم التّالي لبس ثيابه بسرعة وقصد مكتب البريد. كان صاحب المحل قد أعطاه خمس رسائل أخرى لإرسالها وكان الشّارع مقفرًا. وحده صاحب المحل المجاور شاء التّدبير الإلهيّ أن يلتقيه. “إلى أين أنت ذاهب يا أنستاسيوس؟” “إلى مكتب البريد“. “هات ما عندك وأنا أضعه لك“. وأخذ الجار الرّسائل وقلّبها، فوقع نظره على الرّسالة ذات العنوان الغريب “إلى ربّنا يسوع المسيح في السّموات“، فتحرّك قلبه وفتحها وإذا به يهتزّ لمضمونها. ثمّ إنّه بعد أيّام قليلة حمل إلى أنستاسيوس الصّغير صرّة كما لو كانت من مكتب البريد، ثيابًا وأحذية وشراشف ومالًا، وفوق الصّرّة هذه الكتابة: “من الرَّبّ يسوع إلى أنستاسيوس“.

تلميذ وأستاذ

        وبدأ دولاب الأيّام يدور لصالح نكتاريوس فعمل لدى هذا الجار النّبيل وتمكّن من إكمال دراسته إلى سنّ العشرين. هذه الفترة من حياته كانت ذهبيّة لأنّه عمل في حقل الكنيسة. علّم الصّغار الأبجديّة وتابع دروسًا في أحد المعاهد ليصير معلّمًا. لم يفتنه العالم في شيء، بل المصلوب والكنيسة الأرثوذكسيّة المصلوبة الّتي أغنت وتغني الكثيرين. انكبّ على مطالعة ما وصلت إليه يداه من كتب الآباء. نما في مراقي الحياة الدّاخليّة وحبّ الصّلاة وتشبّع من التّراث اللّيتورجيّ. وقد بقي كذلك يعبّ من معين لا ينضب إلى أن انتقل إلى جزيرة خيوس معلّمًا.

        بقي نكتاريوس في خيوس عشر سنوات ترسّخت في نفسه خلالها بديهيّتان، أوّلاهما أنّ كلّ إنسان مولود خاطئًا، شاء أم أبى وأنّ هذا العالم هو موضع السّقطات الّذي علينا فيه أن نصارع الخطيئة. وثانيهما أنّ الرَّبّ يسوع المسيح، كلمة الله، الأقنوم الثّاني من الثّالوث القدّوس، المصلوب والنّاهض من بين الأموات الّذي لمسه توما، هو إيّاه المخلّص الأوحد. هاتان البديهيّتان كانتا بالنّسبة إليه بداية الطّريق إلى السّماء ونهايتها.

وقد وجد نكتاريوس بين تلاميذه في الجزيرة أرضًا طيّبة فتمكّن على امتداد هذه السّنوات من زرع الأبجديّة جنبًا إلى جنب والحقائق الكبرى للإيمان المقدّس. همّه الأوّل والأكبر كان أن يضيء شعلة الأرثوذكسيّة في النّفوس من جديد.

راهبًا وكاهنًا

        وفي خيوس، اقتبل أنستاسيوس الحياة الرّهبانيّة في الدّير المعروف بـ “الدّير الجديد“. كان ذلك في خريف العام 1876 للميلاد. وقد سلك في النّسك ثلاث سنوات وتعلّم أنّ التّواضع، أوّلًا وأخيرًا، هو مصدر سلام الله لبني البشر. خلال هذه الفترة سيم شمّاسًا وأعطاه أسقف الجزيرة اسم نكتاريوس، البطريرك القسطنطينيّ المتوفّى عام 397 للميلاد.

        وشاء التّدبير الإلهيّ أن يلتزمه أحد الأثرياء الغيارى على الكنيسة فغادر خيوس إلى أثينا لمتابعة دراسته اللّاهوتيّة. وبعدما نال الدّبلوم تعرّف إلى بطريرك الإسكندريّة، صوفرونيوس، فأحبّه هذا الأخير وقرّبه وسامه كاهنًا في العام 1886 م.

        بقي نكتاريوس كاهنًا وواعظًا ومعرِّفًا بضعة أشهر إلى أن جُعل أرشمندريتًا وعُيِّن واعظًا وسكرتيرًا بطريركيًّا في القاهرة ثمّ مدبّرًا للمكتب البطريركيّ هناك.

        ورغم هذه التّرقيات المتسارعة كان نكتاريوس حريصًا على نفسه لئلا تجرحه سهام التّعالي والانتفاخ. يقال في هذا الاتّجاه إنّه كان لا يأكل سوى مرّة واحدة في اليوم، كما اعتاد قراءة قانون التّوبة للقدّيس أندراوس كلّ ليلة راكعًا سائلًا العليّ فهمًا وعونًا.

أسقفًا

        وفي الخامس عشر من شهر كانون الثّاني من العام 1889 سيم نكتاريوس أسقفًا برتبة متروبوليت على المدن الخمس، الّتي هي الأبرشيّة القديمة المساوية لمنطقة ليبيا العليا اليوم.

        تمحورت خدمة نكتاريوس الأسقف الكنسيّة في القاهرة في كنيسة القدّيس نيقولاوس. وقد أحبّ شعبه وأحبّه الشّعب حبًّا كبيرًا، لا سيّما الفقراء منهم لأنّه كان رجل الله، أوّلًا وأخيرًا، يلهج بالفضائل الإنجيليّة ويسلك فيها في وداعة فائقة. وقد كان الفقراء بالنّسبة إليه أسيادًا لذلك لم يُجِزْ لنفسه ولا مرّة أن يردّ فقيرًا واحدًا كان في طاقة يده أن يسدّ إعوازه، ولو على حساب طعامه أو لباسه هو.

المواهب والمؤامرة

        إلى ذلك بدأت مواهبه التّعليميّة ومواعظه تحرّك قلوب المؤمنين كما لم يحرّكها إلّا الّذين نفخ فيهم الرَّبّ الإله روحه. كلامه كان بسلطان لأنّه لم يكن يتكلّم من عنده. الأرثوذكسيّة لديه كانت المُعين، وأرثوذكسيّة الرّوح والمسرى أوّلًا. كلّ ذلك في زمن ظُنّ فيه أنّ عهد الآباء الكبار قد ولّى وأنّ النّاس من فتات الآباء يأكلون. كانت النّفوس صغيرة. مثل رجال الكنيسة مثل ما في العالم. لذلك وُجد نكتاريوس كما في غير سربه. وفيما كانت تكبر محبّة النّاس له كان يعظم حسد الحاسدين، كهنة وأساقفة، ممّن كانت نجاحات نكتاريوس وأصالته تُظهر هزالتهم وتفضح لياقاتهم الكاذبة وتعطّل طموحاتهم. وفيما كان نكتاريوس يتعب فرحًا ليستعيد لخرافه، ومن موقعه، المناخ الرّوحيّ واللّاهوتيّ لآباء الكنيسة، كان هناك مَن يدبّرون له المؤامرات ليتخلّصوا منه. وقد ظلّت الحال على هذا النّحو إلى أن نجح المتآمرون، بحسب مقاييس هذا الدّهر، في إبعاد نكتاريوس وتشويه سمعته، حتّى إلى أواخر أيّامه. ومآل ما حدث أنّ جماعة البطريركيّة تمكّنوا من إقناع صوفرونيوس العجوز أنّ نكتاريوس يعمل على استمالة الشّعب لإزاحته والاستيلاء على سدّة البطريركيّة. وفيما كان نكتاريوس يزهو كالطّفل في البحث والدّراسة والوعظ والتّعليم وخدمة الفقير وتزيين الكنائس وبناء النّفوس، إذا به في ليلة ظلماء لم يحسب لها حساباً يتلقّى رسالة صعقته. كاتب الرّسالة كان صوفرونيوس ومضمونها كان التّالي: “يُعفى نكتاريوس، أسقف المدن الخمس، من مهامه كمدير للمكتب البطريركيّ في القاهرة ومن الممثليّة البطريركيّة ومن الإدارة الكنسيّة… ولا يُسمح له أن ينتقل بصفة رسميّة أيًّا تكن المناسبة ومن دون ترخيص رسميّ…” ثمّ أُلحقت بهذه الرّسالة، رسالة أخرى، خلال أقلّ من شهرين قيل له فيها إنّ عليه أن يترك البطريركيّة نهائيًّا ويذهب إلى غير مكان، وإنّ بطريركيّة الإسكندريّة براءٌ منه. وقد أرسل له البطريرك رسالة تصريف وتعريف قاطعًا به كلّ صلة ممكنة. كلّ ذلك دون أن يُعطى نكتاريوس فرصة للاحتجاج أو للدّفاع عن نفسه، أو حتّى لمقابلة البطريرك. وقد قبل ألاّ يبرّر نفسه.

        وهكذا وجد نكتاريوس نفسه مقطوعًا، مُبْعَدًا، مشوّه السّمعة. ومنذ تلك اللّحظة أضحت حياته سلسلة، كأنّها لا تنتهي، من المِحَن، فلا يكاد يمرّ نهار من دون شقاء ومرارة وهموم وفخاخ تنصب له هنا وهناك وهنالك ومؤامرات صغيرة وكبيرة تحاك ضدّه كما لو كان إنسانًا خطيرًا. والحقّ أنّه هكذا كان: خطيرًا ولكن، بوداعته وصبره. لقد لاحقه عدوّه في كلّ مكان لا سيّما من خلال ذوي النّفوس الصّغيرة، وعدوّه كان إبليس ولإبليس في العالم ألف عميل وعميل.

رحلة الغربة

        وخرج نكتاريوس إلى أثينا، فحسبته السّلطات الكنسيّة والمدنيّة هناك غريبًا، أسقفًا عابرًا عليه أكثر من علامة سؤال. وقد عانى من ظروف ولا أقسى. حتّى الخبز نقصه. ولم يكن في طاقة يده أن يسدّد حتّى إيجار غرفته إلى أن عفته صاحبة البيت من المتوجِّب عليه وصارت تُقِيتُه. أمّا القليل القليل الّذي كان بحوزته أو كان يصل إلى يده فكان يذهب بيسر إلى فقير يلتقيه هنا وآخر يلتقيه هناك.

        وبعد جهد ارتضت السّلطات تعيينه واعظًا، بعيدًا في بعض الجزر، كما لتنفيه. أمّا هو فلا نقول إنّه أذعن للأمر الواقع بل شكر الرَّبّ جزيلًا على تعيينه وكان الفرح ملأه. همّه أوّلًا وأخيرًا كان نشر الكلمة وبعث الأرثوذكسيّة في النّفوس.

        وما أن حطّ نكتاريوس قدمه في الموطن الجديد حتّى اكتشف أنّ الإشاعات المغرضة بشأنه كانت قد سبقته إليه. وعلى مدى ثلاثة آحاد جاء الكنيسة واعظًا فسخر منه النّاس وأمطروه كلامًا مُهينًا واتّهموه بالرّياء والفرّيسيّة. وكاد، بعد ذلك، أن ييأس ويرحل إلى جبل آثوس ولكنّه صبر. عاد مرّة بعد إحدى خيباته، مكسور النّفس موجوعًا. عاد إلى غرفته ورفع عينيه إلى المَصلوب وسأل: “ماذا فعلتُ حتّى كرهوني إلى هذا الحدّ؟” فشعر في نفسه برعدة ولهب، وإذا بصوت صَمُوت يأتيه من الصّليب ليغمر كيانه كلّه: “وأنا، ماذا فعلت حتّى كرهني الّذين صلبوني إلى هذا الحدّ؟” إذ ذاك تنفّس الصّعداء وتعزّى وقرّر إعادة الكرّة من جديد.

        وكما سعى الوشاة إلى تشويه سمعته، وصلت أخبار من الإسكندريّة، من بعض معارفه ممّن أحبّوه أنّه ضحية حسد الحاسدين وافتراء المفترين. وكانت النتيجة أن شعر النّاس بوخز الضّمير. وبقدر ما كان نبذُهم له قويًّا في البداية صار التّفافهم حوله أقوى بعد ذلك.

مديرًا لإكليريكيّة ريزاريو

        أمضى نكتاريوس واعِظًا في الجزر ثلاث سنوات إلى أن جرى تعيينه مديرًا عامًّا لإكليريكيّة ريزاريو في أثينا.

        في معهد ريزاريو تجلّى نكتاريوس كأب وكعالم وكرجل صلاة محبّ وديع صبور. وقد دامت هذه المرحلة ما يقرب من اثني عشر عامًا، لم تتوقّف مؤامرات إبليس خلالها ضدّه. عظيمة كانت آلامه، ولكنّ ثقته وصبره كانا أعظم. في هذه المرحلة بالذّات وضع العديد من المؤلّفات اللّاهوتيّة وعلّم وأعطى من روحه وفكره وصحّته. كان همّه أن يمدّ الكنيسة بكهنة ينهضون بها إلى أمجاد الأرثوذكسيّة بالرّوح والحقّ. الانحطاط، آنذاك، كان كبيرًا، والاستهانة بالكنيسة ديدن الكثيرين ممّن ظنّوا أنّ الخلاص هو بالعلوم والفلسفة وأنّ زمن الفكر الآبائيّ والرّهابين واللّحى والأثواب السّوداء قد ولّى.

        حياة القدّيس نكتاريوس لم تكفّ عن أن تكون حياة راهب ولو في العالم. ولأنّه كان رجل صلاة، يعرف كيف يقسو على نفسه وكيف يبكي، وبالدّرجة الأولى كيف يُلقي بأحماله عند قدمي السّيّد، فعلت فيه نعمة الله وتجلّت فيه حضرة العليّ فبان كأنّه من غير هذا العالم. في رسالة كتبها تلميذه قسطنطين الّذي التصق به إلى آخر حياته جاء ما يلي: “إنّ مديرنا كالمطر الهادئ يملأ حبورًا مَن طال اشتياقهم له، يحيي ويخصب ويحيل الأرض الجافّة القاحلة إلى أرض رخصة خصبة… بالنّسبة إليّ أجدني منجذبًا إلى محيّاه كما إلى قطعة مغناطيسيّة… يحيا ككلّ العالم ويسلك ككلّ النّاس. يتكلّم كما يتكلّمون ومع ذلك ينتابك شعور أنّه ليس إنسانًا من هذا العالم. لا يشترك في شيء ولا صلة له بما يبحث عنه ويحلم به أكثر النّاس. يصلّي سرًّا، ليلًا ونهارًا، من أجل نجاة العالم ويرقب بمهابة ملكوت السّموات. يعرف معابر الملكوت كما لا يعرفها إنسان آخر. لا خبث عنده. يحبّ الجميع ويجرّد الخبثاء من سلاحهم بنظرته البريئة. يعاشر أناسًا من كلّ المشارب فيعطيهم السّلام ويقودهم إلى المخلّص المتجسّد بالكثير من النّبل والوداعة. في بشرته تزهر الرّهبنة البيزنطيّة، رهبنة الطّهارة الملائكيّة. إنّه إنسان يحيا كما الملائكة… وإنّ عددًا كافيًا من الأعمدة المُمتازة الّتي تأثّرت بروحه ووداعة قلبه تتهيّأ لخدمة الكنيسة“.

نكتاريوس مُربّيًا

أمّا سرّ نكتاريوس في تلاميذه فكان يكمن لا في كونه رجل إدارة من الطّراز الأوّل، بل في كونه رجلًا أحبّ تلاميذه والتزمهم أوّلًا. عرف كيف يحمل أثقالهم وكيف يعاقب نفسه عنهم ليصلح الله حالهم. دونكم مثلًا هذه الحادثة بشأنه. أربعة تلامذة اصطرعوا فيما بينهم فأوقفهم النّظّار أمام المدير لعرض حالهم ومُعاقَبتهم. أخذ كلّ واحد منهم يتّهم الآخرين بأنّه هو السّبب وهو البادئ. وسادت البلبلة. تطلّع القدّيس نكتاريوس إليهم وقال: “إنّ ما عملتموه وتعملونه يؤلمني كثيرًا لذلك أنا مضطرّ لمعاقبة نفسي، وسأُضرب عن الطّعام ثلاثة أيّام لأصلّي من أجلكم عسى الله يهديكم. كيف ستصيرون غداً كهنة العليّ؟! انصرفوا وليرحمكم الله وليضئ أذهانكم… اذهبوا وتصالحوا وإلّا فسأمدّد فترة عقابي…“. خرجوا. خرج الأربعة مذهولين، مصعوقين مُنحنين إلى الأرض شاحبين يتعثّرون في مشيتهم وفي نفوسهم شعور بالأسى لا يوصف. غابوا عن مائدة الغذاء ظهر ذلك اليوم لأنّ كلّ واحد منهم أقفل على نفسه في غرفته واستغرق في بكاء مرّ. ومنذ ذلك اليوم، تغيّر الأربعة، وتغيّر آخرون بسببهم، ولم تعد الكلمات الجارحة تجري إلى ألسنتهم. باتوا على محبّة وانتباه لعمل النّعمة فيهم كما لم يكونوا من قبل. لقد بدأوا يَعون معنى أن يصبح المرء كاهنًا للمسيح المصلوب.

        وكما كانت للقدّيس نكتاريوس قصّته الفريدة مع التّلامذة كانت له مع العمّال أيضًا. فإذا ما اختلف عمّال التّنظيفات فيما بينهم، مثلًا، في مَن يعمل كيت وكيت وجيء بهم ليحكم في أمرهم كان يأخذ على عاتقه ما كان ينبغي أن يكون نصيبهم عقابًا. كان يؤدّبهم، ولكن بتأديب الله، أي بالرّحمة (مزمور 140: 5) فيختشون ويرعوون.

مع الأخ الضّعيف

        وفي مجال الحرص على القصبة المرضوضة، أي على الأخ الضّعيف، كانت له قصص وقصص، وهذه إحداها. مرض الكنّاس في المدرسة مرّة مرضًا شديدًا وكان فقيرًا جدًّا، والأيّام أيّام شقاء وبطالة والنّاس في عوز شديد، فقد أُجريت له عمليّة جراحيّة خطيرة في الكلى واضطرّ إلى مُلازمة الفراش شهرين كاملين. فقال نكتاريوس للّجنة الخاصّة المهتمّة بتدبير شؤون المدرسة إنّه سيجد عن الكنّاس المريض بديلًا. وانتُسي الموضوع واعتبر الجميع أنّ هناك كنّاسًا جديدًا يقوم بالعمل لأنّ ثمّة مَن كان يكنّس المدرسة وينظّف الحمّامات بانتظام وبالشّكل اللّائق. وكان عمل التّنظيف يتمّ في العادة باكرًا في الصّباح قبل أن تبدأ عجلة اليوم المدرسيّ بالدوران. وذات يوم عاد الكنّاس المريض شاحبًا ضعيفًا إلى المدرسة عند الفجر وأراد أن يعرف مَن الّذي أخذ مكانه في عمله. فإذا به يكتشف أنّه ذاك الرّجل المُسِنّ، المتعب المريض الّذي اسمه نكتاريوس، فوقف مذهولًا، فاغرًا فاه لا يكاد يصدّق عينيه فبادره نكتاريوس: “اقترب يا بنيّ! كلّا، لم يأخذ مكانك آخر. أأتركك تموت جوعًا لأنّك مريض؟ يا لها من لعنة إذا ما قسى قلبنا إلى هذا الحدّ! فقط أسألك أن لا تخبر إنسانًا بما رأيت إلّا بعد موتي. أنت في ضيق وأنا أساعدك. هذا كلّ ما في الأمر. ونحن إخوة. إذًا ليس في الأمر ما هو غريب. ألا يساعد الأخ أخاه؟ أنت نفسك قد تجدك مُعينًا لي غدًا أو ربّما لمَن يحتاج إليك“. لم يتمالك الكنّاس المريض نفسه فوقع على ركبتيه وأخذ يجهش في البكاء ويقبّل هدب ثوب نكتاريوس. وعاد إلى عمله في اليوم التّالي واضطرّ نكتاريوس إلى ملازمة الفراش خمسة عشر يومًا إثر ذلك من التّعب وأوجاع الرّأس والدّوخة.

تأسيس الدّير في أغينا

        وكانت المرحلة الأخيرة من حياة القدّيس نكتاريوس مرحلة تأسيس دير الثّالوث القدّوس في جزيرة أغينا، ديرًا نسائيًّا ضمّ خمس فتيات في البدء. وقد بذل فيه ما أوتي من قوى جسديّة وروحيّة. عمل في الأرض وعمل في البناء وعمل في بناء النّفوس. علّم الرّاهبات أن يتّكلوا على الله في كلّ أمر. صانهنّ وأرشدهنّ. ولما حلّت الحرب العالميّة الأولى أبى عليهنّ أن يدّخرن المؤن بل يوزّعنها على الفقراء. ولمّا بدأ النّاس يأتون سائلينه العون والنّصح أعطاهم نفسه بالكُليّة ولم يترك لنفسه شيئًا. عزّى النّفوس وشدّد الضّعفاء. كان الكلّ لكلّ واحد حتّى يخلصوا. طرد الشّياطين وشفى المرضى وصلّى كإيليا فأمطرت الدّنيا في جزيرة أغينا بعد جفاف دام ثلاث سنوات وستّة أشهر.

        إلى ذلك كان نكتاريوس أليف والدة الإله والقدّيسين. وكثيرًا ما كانوا يظهرون له أثناء الخدمة الإلهيّة وكان هو يرتفع عن الأرض. وقد كتب نشائد عديدة لوالدة الإله ليس أقلّها النشيد الّذي لحّنه غريغوريوس الّذي من دير سمعان الصّخرة في جبل آثوس والّذي اكتسب شهرة واسعة.

مضطهَدٌ حتّى النّهاية

        وكلّما كان نكتاريوس يزداد تألّقًا في نعمة الله كانت تشتّد عليه حرب إبليس الضّروس. وكانت أكبر هجمات إبليس الأخيرة أنّه دفع مَن اختلق ضدّ القدّيس والدّير أخبارًا أنّ نكتاريوس قد جعل من المكان وَكرًا لممارسات شائنة، حتّى إنّ رئيس أساقفة أثينا والمدّعي العام لاحقاه وأهاناه بتهمة اللّاأخلاق. على كلّ ذلك صبر نكتاريوس وكان جوابه أبدًا: “الله يعرف“. أجل لم يتركه الشّيطان يرتاح لحظة. هذا ما عانى منه وهذا ما روّض الرّاهبات عليه أنّ كلّ محنة أو وجع يُعانيه المرء بصبرٍ يسير به صوب الكمال.

        خلال ذلك كلّه كانت صحّة القدّيس نكتاريوس في تردّ مستمر. وقد أُصيب بالتّضخم في غدّة البروستات، فعانى من جراء ذلك آلامًا مبرّحة ولكنّه كتم ذلك ولم يبح به لأحد. كان يعرف أنّه الفصل الأخير من جلجلته ليُكمل آلام المسيح في جسده. وقد أخبر أبناءه وبناته بقرب مغادرته. ثمّ قبل خمسين يومًا من ذلك نقلوه إلى مستشفى في أثنيا آملين أن تُجرى له عمليّة جراحيّة. ولكنّه أسلم الرّوح ولم يكن دوره في إجراء العمليّة قد آن. كان ذلك في اليوم الثّامن من شهر تشرين الثّاني من العام 1920 م.

بعد رقاده

        بعد رقاده ولأكثر من ثلاثين عامًا بقي جسده كما هو ولم ينحلّ وكانت تنبعث منه رائحة طيب زكيّة ولم تزل إلى اليوم. تجدر الإشارة إلى أنّ اسم نكتاريوس معناه “طِيبْ”. ثمّ إنّ رفاته توزّعت في أكثر أنحاء العالم. وحيثما حلّت كان الطّيب الإلهيّ ربيبها.

        وحتّى هذه الأيّام ما تزال تسجّل عجائب جمّة تجري باسمه ويتوافد المؤمنون من الشّرق والغرب للشّهادة لها. وقد جرى إعلان قداسته رسميًّا في العام 1961 للميلاد. وأنّ قبره وكنيسته وقلاّيته وكلّ أغراضه الشّخصيّة ومكتبته وحتّى بدلة الأسقفيّة محفوظة في دير الثّالوث القدّوس في أغينا الّذي أضحى محجّة لمئات الآلاف يزورونه تبرّكًا حتّى اليوم.

ª – في المنطقة الجنوبية الشرقية من أوروبا في البلقان، شمالي البحر الإيجي.

مواضيع ذات صلة