Menu Close

 

 

 

 

 

 

 

 

 

في هذا اليوم تُقيم الكنيسة المُقدَّسَة تَذكار:

*أبونا الجليل في القدّيسين أسبيريدون العجائبيّ أسقف تريميثوس *الشّهيد سينيسيوس *الشّهيد في الكهنة ألكسندروس الأورشليميّ*القدّيس البار أموناثاس البيلوزيّ*القدّيس البار أنثوس النّاسك *القدّيس البار يوحنّا زيخنا.

*        *        *

✤أبينا الجليل في القدّيسين اسبيريدون العجائبيّ أسقف تريميثوس (+ 348 م)✤

        وُلد القدّيس اسبيريدون وعاش في جزيرة قبرص. احترف رعاية الأغنام وكان على جانب كبير من البساطة ونقاوة القلب. وإذ كان مُحبًّا لله، نما في حياة الفضيلة، محبّةً للقريب ووداعةً وخفرًا وإحسانًا واستضافةً للغرباء. كلّ مَن أتى إليه زائرًا كان يستقبله، على غرار إبراهيم خليل الله، وكأنّه المسيح نفسه. الإنجيل، بالنّسبة إليه، كانت سيرة حياته لا كلامًا إلهيًّا وحسب. كان لا يردّ محتاجًا. كلّ محتاج كان يجد عنده تعزية ولو يسيرة. قيل إنّه اعتاد أن يستودع نقوده صندوقًا مفتوحًا كان لكلّ مُحتاج وصول إليه. لم يهتمّ أبدًا بما إذا كان صندوقه فارغًا أو ممتلئًا. هذا في نظره كان شأن ربّه. هو المُعطي في كلّ حال ونِعم الوكيل! كما لم يكن ليسمح لنفسه بالحكم على المقبلين إليه إذا كانوا مُحتاجين بالفعل أم لا، مستحقّين أو غير مستحقّين.

        ذكر عنه المؤرّخ سوزومينوس، في مطلع القرن الخامس الميلاديّ، أنّ زمرة من اللّصوص حاولت سرقة بعض من أغنامه ليلًا فمنعتها يد خفيّة وسمّرتها في مكانها. ولمّا أطلّ الصّباح واكتشف القدّيس اسبيريدون اللّصوص وعظهم وصلّى عليهم وحلّهم من رباطهم وأطلقهم بعد أن زوّدهم بأحد كباشه. قال لهم إنّهم تكبّدوا من المشاق ما لم تكن له ضرورة لأنّه كان بإمكانهم أن يحصلوا على ما يريدون دون ارتكاب خطيئة قاسية كالّتي ارتكبوها ودون تعريض أنفسهم للهلاك؛ فقط بمجرد السّؤال. لو طلبوا منه لأعطاهم!

        هذا وتفيد الشّهادات أنّ القدّيس اسبيريدون تزوّج ورُزق ابنة وحيدة اسمها سلام (إيريني). فأمّا زوجته فرقدت بعد سنوات قليلة من زواجه وأمّا ابنته فتبتّلت إلى أن رقدت في الرَّبّ وأبوها حيّ يُرزق.

        يذكر، وفق ما أورد سوزومينوس، أنّه كانت للقدّيس عادة أن يمسك وعائلته عن الطّعام أيّامًا في الصّوم الفصحيّ[1] ولا يتناول منه شيئًا. وقد كان يحدث أن يمرّ به غريب أضنته أتعاب السّفر، فكان رجل الله يستضيفه برأفة وفرح ويُعدّ له طعامًا يتقوّى به. وإذا لفته الضّيف إلى أنّه مسيحيّ وأنّ عليه أن يحفظ الصّيام كان القدّيس يخفّف عنه مؤكّدًا أنّه ليس في الطّعام ما ينجّس وأنّ للصّوم استثناء.

        ذاع اسم القدّيس اسبيريدون في قبرص ذيوعًا كبيرًا. فلمّا رقد أسقف تريميثوس، المدينة الصّغيرة القريبة من السّلاميّة، عند شاطئ البَحر، وقع اختيار المؤمنين بالإجماع عليه رغم أنّ ثقافته بالكتب كانت متواضعة. ولم تغيّر الأسقفيّة من طريقة عيش القدّيس شيئًا لأنّه استمرّ راعيًا للأغنام، فقير اللّباس، لا يمتطي دابّة بل يسير على قدميه، ويعمل في الفلاحة. لكنّه، منذ أن تسقّف، التزم مهامه الرّعائيّة بجدّ كبير ومواظبة وإخلاص.

        كانت أبرشيّته صغيرة جدًّا والمؤمنون فيها فقراء، لكنّهم غيارى على الإيمان. لم يكن في المدينة الصّغيرة من الوثنيّين غير قلّة قليلة.

        وقد جرى القدّيس على قسمة مداخيله إلى قسمين: قسم درج على إعطائه للفقراء، وقسم تركه لكنيسته وأهل بيته وإقراض النّاس. لم يعتد أن يحمل همّ الغد. يكفي اليوم شرّه ويرسل الله غدًا ما لا تعلمون! هذا كان عنوانه في تعاطيه والمُحتاجين.

        لمّا أثار الأمبراطور الرّومانيّ مكسيميانوس غاليريوس اضطهادًا على المسيحيّين لحق القدّيس اسبيريدون نصيب منه. فقد ذكر أنّه نتيجة اعترافه بالمسيح فقد عينه اليمنى وقطع المضطهِدون أوصال يده اليسرى وحكموا عليه بالأشغال الشّاقة في المناجم.

        لم تكن العلوم الإنسانيّة مألوفة لقدّيس الله لكنّه كان يعرف الكتاب المقدّس جيّدًا. وإذ حدث، مرّة، أن التقى أساقفة قبرص معًا قام فيهم تريفيلوس، أسقف “لادري”، واعظًا. تريفيلوس، حسبما أورد القدّيس إيرونيموس، كان أبلغ خطباء زمانه. فلمّا عبر بالقولة الكتابيّة “قم احمل سريرك وامش” استعمل عوض لفظة “سرير” الكتابيّة باليونانيّة لفظة أخرى متأنّقة لعله حسبها أفصح من الأولى وأدقّ وأوفق. فاستهجن قدّيس الله فعلته وأن يُظن أنّه يضيف بذلك نعمة إلى بساطة الكلام الإنجيليّ فوقف سائلًا معترضًا إذا كان الواعظ يعرف اللّفظة الموافقة أكثر من الرّسول نفسه، صاحب الإنجيل؟

        ثمّ إنّه قيل إنّ القدّيس اسبيريدون اشترك في المجمع المسكونيّ الأوّل الّذي انعقد في مدينة نيقية، سنة 325 م، بناء لدعوة قسطنطين الملك. فلمّا حضر كان بهيئة راعي غنم وله صوف الخروف على كتفه، بعين واحدة ويده اليسرى ملتوية ولحيته بيضاء ووجهه مضيء وقوامه قوام رجل صلب على بساطة أخّاذة، فلم يكن من الإمبراطور والموجودين إلّا أن وقفوا له إجلالًا بصورة عفويّة.

        وقد جاء في التّراث أنّ القدّيس اسبيريدون أفحم أحد الفلاسفة الآريوسيّين في المجمع. لم يفحمه بقوّة الكلام بل بالبساطة وبرهان الرّوح القدس فيه. وكان من نتيجة ذلك أن عاد الآريوسيّ عن ضلاله.

        قرابة ذلك الوقت رقدت ابنته سلام (إيريني). وكان أحد العامّة قد استودعها غرضًا جزيل القيمة، ربّما كان ذهبًا، فخبّأته في مكان آمن لا يدري به أحد غيرها. فلمّا كاشف الرّجل قدّيس الله بالأمر فتّش له عنه فلم يجده. وإذ كان العاميّ حزينًا وبدا في حال التّأثّر العميق، تحرّك قلب القدّيس شفقة عليه فذهب، وفق شهادة المؤرّخين الكنسيّين سقراط وسوزومينوس، إلى قبر ابنته ودعاها بالاسم وسألها عن المكان الّذي خبّأت فيه الأمانة. فأجابته ودلّته على المكان بدقّة. فذهبوا وفتّشوا فوجدوه حيث قالت لهم.

        هذا وتنسب للقدّيس اسبيريدون عجائب كثيرة قيل إنّه اجترحها واستأهل بسببها لقب “العجائبيّ”.

        من ذلك أنّ امرأة فقيرة، غريبة اللّسان، جاءته بابنها ميتًا وألقته عند قدميه، فصلّى عليه، فأقامه الرَّبّ الإله بصلاته من الموت.

        ومن ذلك أنّه أبرأ قسطنديوس قيصر، ابن قسطنطين الكبير، إثر مرض عضال ألمّ به وهو في أنطاكية. وبعدما تمّ شفاؤه نصحه القدّيس بأن يحذر على صحّة نفسه بالأولى، لأنّه كان آريوسيّ النّزعة، وأن يرأف بعباد الله.

        ومن ذلك أنّه استنزل المطر بعد قحط، مرّة، وأوقفه بعد وفرة مرّة أخرى.

        ومن ذلك أنّه حوّل حيّة إلى ذهب محبّة بفقير، ثمّ بعد قضاء الحاجة أعاد الذّهب حيّة.

        ومن ذلك أنّه كان علاّمًا بالقلوب يحرّك النّفوس برأفته إلى التّوبة. مثل ذلك أنّ امرأة زانية دنت منه تروم لمسه فلم يأنف منها ولا صدّها، بل رمقها بنظرة حنان حزينًا عليها فنفذت نظرته إلى أعماقها، فألقت بنفسها، بصورة عفويّة، عند قدميه وغسلتهما بدموعها معترفة بخطاياها، فأقامها وهو يقول لها، على مثال المُعلّم: “مغفورة لك خطاياك! اذهبي بسلام ولا تخطئي بعد!”.

        ومن ذلك أنّه خرج مرّة إلى كنيسة منعزلة أهملها المؤمنون، وشاء أن يقيم فيها الذّبيحة الإلهيّة. لم يشعل الخدّام في المناسبة إلّا مصابيح قليلة لأنّهم قالوا لم يحضر من النّاس غير أفراد قلائل. ولكن ما إن انطلقت الخدمة حتّى بدا أنّ الحاضرين أكثر بكثير ممّا كان منظورًا، وجلّهم كان لا من البشر بل من الملائكة. فما إن استدار الأسقف باتّجاه الشّعب وأعطى السّلام: “السّلام لجميعكم!” حتّى صدحت في الكنيسة أصوات الملائكة مجيبة: “ولروحك أيضًا!” على هذا النّحو استمرّ القدّاس الإلهيّ: القدّيس يؤمّ الخدمة والملائكة تجيب. أمّا قناديل الزّيت فامتلأت زيتًا وأضاءت بالأكثر.

        ومن ذلك أنّ شمّاسًا أخرس اشتهى أن يصلّي صلاة وجيزة عند الظهر في أوان الحرّ فرأف به القدّيس وتضرّع إلى الرَّبّ الإله من أجله، فانحلّت عقدة لسانه وفتح فاه وصلّى. لكنْ أخذه العُجب فأطنب في الصّلاة لأجل السّبح الباطل فأعاده القدّيس أخرس أصمّ لا ينطق بشيء البتّة.

        ومن ذلك أنّه خفّف مرّة فيض نهر كان يتهدّد السّكّان.

        ومن ذلك أنّ تاجرًا رغب في شراء مائة من العنز من قطيع الرّاعي القدّيس. فلمّا حضر لاستلامها دفع ثمن تسع وتسعين منها لأنّه قال ليس من عادة القدّيس أن يعدّ المال. وإذ أخذ المائة بهيمة وهمّ بمغادرة المكان أبت إحداها إلّا أن تعود إلى الصّيرة. فأمسكها وأخذها بالقوّة، فأفلتت منه وعادت إلى الصّيرة. ففعل ذلك ثانية وثالثة فلم ينجح. فالتفت إليه رجل الله وخاطبه بوداعة: لعلّك لم تدفع ثمنها يا بنيّ! فاعترف التّاجر واستسمح ودفع ثمن الباقية. إذ ذاك فقط خرجت البهيمة بهدوء وانضمّت إلى القطيع المُباع.

        رقد القدّيس في الرَّبّ في اليوم الثّاني عشر من شهر كانون الأوّل من السّنة الميلاديّة 348. كان قد بلغ من العمر ثمانية وسبعين عامًا. آخر ما يذكر التّاريخ عنه أنّه اشترك، سنة 347 م، في مجمع سرديكا دفاعًا عن القدّيس أثناسيوس الكبير. تعيِّد له الكنيسة الغربيّة في اليوم الرّابع عشر من شهر كانون الأوّل فيما يعيِّد له الموارنة مثلنا، في الثّاني عشر من الشّهر.

        هذا وتستقرّ رفات القدّيس اليوم في جزيرة كورفو اليونانيّة. جسده لم ينحلّ إلى اليوم. بقي في قبرص حتّى القرن السّابع الميلاديّ، ثمّ إثر الفتح العربيّ جرى نقله إلى مدينة القسطنطينيّة حيث أُودع كنيسة قريبة من الكنيسة الكبرى. وفي العام 1456 م تمّ نقله خفية إلى جزيرة كورفو بعدما سقطت القسطنطينيّة في أيدي الأتراك. لقد كان جسد القدّيس وما زال إلى اليوم ينبوعًا لأشفية كثيرة وهو شفيع كورفو حيث سجّل أنّه أنقذ الجزيرة من وباء الكوليرا مرّة، ومن الغزو الأجنبي مرّة أخرى. وهناك اعتقاد سار بين العامّة اليوم أنّ القدّيس ما زال يجول، بصورة عجيبة، في الأرض يشفي المرضى ويغيث المبتلين. وهم يستدلّون على ذلك من الجوارب الّتي جرى أهل الدّير الّذي يستكين فيه جسده على إلباسه إيّاها. هذه تغيّر له مرّة في السّنة، وكلّما آن أوان استبدالها لاحظ المقامون على خدمته أنّها تكون قد بليت أو تكاد من الجهة الّتي يطأ المرء بها في العادة. أمّا الجوارب المستعملة فتُوزَّع بَرَكة على المؤمنين.

        ليتورجيًّا، تغبّط الكنيسة القدّيس اسبيريدون باعتباره قانونًا لرؤساء الكهنة وتورد اسمه بين القدّيسين النّماذج في إفشين “خلّص يا ربّ شعبك…”. كما تصفه بـ “مجرى المحبّة الّذي لا يفرغ” وتعتبره “العقل الإلهيّ الوَديع الكامل المزيّن بالبساطة الحقيقيّة ” وتشبّهه بموسى لبساطته وداود لوداعته وأيّوب لسيرته الّتي لا عيب فيها. وترتّل له الطّروباريّة التّالية:

        “لقد ظهرتَ عن المجمع الأوّل مناضلًا. وللعجائب صانعًا. يا أبانا اسبيريدونوس المتوشّح بالله. فلذلك خاطبت الميتة في اللّحد. وحوّلت حيّة إلى ذهب. وعند ترتيلك الصّلوات المقدّسة. كانت لك الملائكة شركاء في الخدمة. أيّها الكليّ الطّهر. فالمجد للّذي مجّدك. المجد للّذي كلّلك. المجد للصّانع بك الأشفية للجميع”.

        هذا وقد درج، في بعض الأحيان، أن تصوّر الكنيسة القدّيس اسبيريدون، في أيقوناتها، وعلى رأسه ما يشبه السّلّ، إشارة إلى كونه راعي غنم، وفي يده اليسرى حجر فخّاريّ يظهر عموديًّا وقد خرجت من طرفه الأعلى نار ومن طرفه الأسفل مياه. وبالعودة إلى سيرة القدّيس الموسّعة يتبيّن أنّ لهذا الحجر قصّة مفادها أنّه خلال المجمع المسكونيّ الأوّل (نيقية 325 م) الّذي قيل إنّ اسبيريدون اشترك فيه، أفحم القدّيس أحد الآريوسيّين البارزين لمّا أثبت له، بالبرهان الحسّي، كيف يمكن لله أن يكون واحدًا في ثلاثة أقانيم، آبًا وابنًا وروحًا قدسًا. فلقد ذُكر أنّ القدّيس أخذ قطعة فخّار بيساره وعمل إشارة الصّليب بيمينه قائلًا:

  • … “باسم الآب”، فخرجت للحال من الفخّار، من فوق، نار،
  • … “والابن”، فخرجت من الفخّار، من تحت، مياه.
  • …” والرّوح القدس”، فاتحًا يده، فبان الفخّار بعد فخّارًا من تراب. إثر ذلك، على ما قيل، أكبر الآباء القدّيسون رجل الله اسبيريدون على ما فعل. ولم يسع الآريوسيّ إلّا التّسليم بامره بصحّة إيمان رجل الله بالثّالوث القدّوس.

[1] –  الصوم الفصحي يومذاك لم يكن أربعينياً بل لبضعة أيّام وحسب. والعرف كان أن يصوم المسيحيّون كلّهم إلاّ لضرورات تجيزها الشريعة.

مواضيع ذات صلة