Menu Close

الغربة عن العالم- النّهار أونلاين- في ۲ آذار ۲٠١٩

المطران أنطونيوس (الصوري)- متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للرّوم الأرثوذكس

 

الغربة عن العالم

أكتب هذه الكلمات وأنا في الجبل المقدس – آثوس. لمن لا يعرف هذا أرخبيل في بلاد اليونان يعتبر بمثابة دولة رهبانية لا يقطنها سوى الرهبان. نشأت الحياة الرهبانية جدياً في هذا الجبل ابتداء من القرن العاشر ميلادي. في التراث الكنسي أن العذراء مريم زارت هذا الجبل واعتبرته حديقة روحية لها ومنعت دخول النساء إليه.

من يأتي ليترهب في هذا الجبل يختار الغربة الكلية عن العالم ليعيش جهاد التنقية الروحية. هدف الغربة الانقطاع عن كل ما يمت إلى حياة الانسان بصلة أي قطع الرباط القديم بالعالم لخلق رباط جديد. فكما على الرجل ان يترك أباه وأمه ليلتصق بامرأته فيشكلان بنعمة الله وحضوره معهما وفي ما بينهما وفيهما جسداً واحداً، هكذا من يطلب ان يكون راهباً عليه ان يترك أباه وأمه وأملاكه وأمواله وجاهه وسلطانه ليلتصق بالله ويصير معه واحدا. من هنا يسمى الرهبان بالمتوحدين أي الذين يطلبون الوحدة مع الله. إحدى صلوات الكنيسة الارثوذكسية تقول: “مغبوطة هي عيشة أهل البراري لأنهم يرتقون ويسمون بالعشق الإلهي”، وفي صلاة أخرى نسمع عن الرهبان أنهم “يطردون عشقا بعشق”.

المبدأ وراء هذا التغرب هو أن ملكوت الله ليس طعاماً وشراباً بل هو برّ وقداسة. هذا يعني أن الانسان يترك ما هو فانٍ وزائل ليطلب الخالد والباقي، وما من باقٍ سوى وجه ربك. هذا العالم سينقضي لأنه أتى من العدم وهو ليس بموجود إلا بمشيئة الله، لكن الله لم يخلق الإنسان من العدم ليرده إلى العدم بل على العكس خلقه من العدم ليمنحه الحياة الأبدية. لولا رفض الانسان لله كمصدر لحياته لما دخل الموت إلى جسدنا، لكن الروح باقية وإن فٓنِيٓ الجسد لأن الله “هو إله أحياء وليس إله أموات”.

ما يحياه الرهبان في التغرب عن العالم هو موت عن كل عتاقة، وامتداد بالتوبة نحو تطهير القلب والكيان في الصلاة والصوم والخدمة مع الفقر الطوعي واللاقنية بالطاعة (أي التخلي عن المشيئة الذاتيّة) للأب الروحي المستنير والنقي. “ما لم تره عين، وما لم تسمع به أُذُن ما أعدّه الله لمختاريه”. هذا ما يطلبه المؤمن وما يجاهد لأجله الراهب بشوق أكبر، ربّما.

عمومًا، خبرة الرهبان الجِدّيّين في اختيارهم لهذه الحياة تسمو كثيرًا على خبرات الذين في العالم (هذا طبعًا لا ينفي وجود استثناءات) في ما يختص بمعرفة النفس البشرية والحرب الروحية مع أرواح الشر والشياطين وفي اقتناء المحبة الإلهية التي تمنحهم الفرح والسلام الداخلي مع اللطف والوداعة والتواضع والصبر والعفاف والإيمان الراسخ والثابت في كل الظروف. هذا يجعلهم منارات تضيء في ظلمة هذا العالم وتجتذب إليها المتعبين والثقيلي الأحمال الذين يأتون من كلّ حدب وصوب ليستشفوا ويتشدّدوا ويتعزّوا ويجابهوا الضيقات بالصبر والرجاء والثقة التي لا تخزى بالله.

ها إنّ الجبل المقدَّس يستقبل في أدياره العشرين ومناسكه الملايين كلّ سنة، وهؤلاء يأتون ليطلبوا كلمة منفعة للخلاص ويرجعون متشددين متعزّين المسكين حضور الله وفعله في حياة الإنسان من خلال قوة الصلاة والمحبة غير المشروطة. العالم اليوم هو أحوج ما يكون إلى الأديار والرهابين لأن الصادقين والشجعان يندرون يوما بعد يوم والذين يشهدون لحق الإنجيل بالتخلي الكامل والتغرب عن العالم وروحه يقلّون أكثر فأكثر.

الكل مدعو إلى الغربة بطريقة من الطرق لأن من يريد استيطان الزائل إلى الأبد يخزى، ومن يموت عن البالي في طلب الأبدي لا يخزى إلى دهر الدهور. فمن هو الحكيم يا تُرى؟! …

أنقر هنا للقراءة على موقع النّهار

مواضيع ذات صلة